المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ ‌وسطية أهل السنة والجماعة وأثرها في علاج الغلو لفضيلة الدكتور / - مجلة البحوث الإسلامية - جـ ٧٧

[مجموعة من المؤلفين]

فهرس الكتاب

- ‌المحتويات

- ‌الفتاوى

- ‌من فتاوى سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ

- ‌الذبح ليلة الإسراء والمعراج معصية

- ‌إذا قامت البينة في أثناء النهار فمتى يصلون العيد

- ‌تناول طعام العيد في الأسواق

- ‌تجول أهل القرى بعضها على بعض وتقديم بعض أنواع الطعام

- ‌مصلى العيد

- ‌افتتاح خطبتهما بالحمد لله

- ‌التكبير في مصلى العيد أفضل

- ‌باب صلاة الكسوف

- ‌الكسوف يدرك بالحساب

- ‌الزلزلة، والبراكين

- ‌ البراكين كأنها مواد نارية

- ‌الراجح في صلاتها

- ‌تغليط إمام اكتفى بالفجر عن الكسوف

- ‌باب صلاة الاستسقاء

- ‌من فتاوى سماحة الشيخعبد العزيز بن عبد الله بن باز

- ‌حكم حضور مجلس العزاء والجلوس فيه

- ‌لا بأس باستقبال المعزين

- ‌حكم جمع أهل الميت في صف واحد حتى تتم تعزيتهم

- ‌حكم تقبيل ومعانقة المعزى

- ‌التعزية في أهل المعاصي

- ‌حكم السفر للتعزية

- ‌ليس للعزاء أيام محدودة

- ‌الكلمات المناسبة للتعزية

- ‌حكم إقامة مراسم العزاء

- ‌حكم جلوس أهل الميت ثلاثة أيام للتعزية

- ‌الاجتماع في بيت الميت للأكل والشرب وقراءة القرآن بدعة

- ‌حكم إقامة وليمة يجتمع فيها المعزون

- ‌صنع الطعام لأهل الميت

- ‌أهل الميت لا يصنعون للناس طعاما

- ‌حكم دعوة أهل الميت من يأكل معهم ما بعث لهم

- ‌حكم بعث الذبائح لأهل الميت والدعوة إليها

- ‌حكم دفع النقود لأهل الميت

- ‌حكم إقامة الولائم من تركة الميت

- ‌عادات الاحتفال بعد موت أحد من الناس

- ‌حكم البذخ والإسراف في العزاء

- ‌الأربعينات والسنوات لا أصل لها في الشرع

- ‌من بدع العزاء

- ‌حكم النعي في الجرائد

- ‌ حكم قولهم في التعزية: " انتقل إلى مثواه الأخير

- ‌ حكم لبس اللون الأحمر بالنسبة للنساء

- ‌ الأحق بإمامة المصلين

- ‌ حكم البيع بالتقسيط

- ‌ حكم القرض من المصرف للقيام بمشروع تجاري

- ‌ حكم الاستماع إلى ما يسمى بالأبراج

- ‌ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب

- ‌من فتاوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء

- ‌ الصلاة قبل دخول وقتها

- ‌ الطهارة مقدمة لمن استيقظ من النوم وهو جنب حيث لو اغتسل طلعت الشمس

- ‌ إذا طهرت المرأة من الحيض أو النفاس قبل خروج وقت الصلاة

- ‌ الترتيب بين الصلوات

- ‌ نسي فرض الظهر والعصر وأتى وقت المغرب فما الحكم

- ‌ ستر العورة واجب

- ‌ هل الفخذ عورة

- ‌ستر العورة

- ‌ عورة الرجل في الصلاة

- ‌ حكم الصلاة بالسراويل

- ‌ ستر رأس الرجل في الصلاة

- ‌ حكم الصلاة بدون غطاء للرأس

- ‌ حكم تغطية الرأس بالنسبة للرجال

- ‌المقدمة:

- ‌المبحث الأول: تعريف الوقف

- ‌المبحث الثاني: أهمية الوقف وأدلة مشروعيته

- ‌المبحث الثالث: أركان الوقف وشروطه

- ‌المبحث الرابع: أنواع الوقف

- ‌المبحث الخامس: الطرق والأساليب الداعمة للوقف

- ‌المبحث السادس: حاجة البشرية إلى نور القرآن وهدايته

- ‌المبحث السابع: مشروعية الوقف في خدمة القرآن

- ‌المبحث الثامن: مقاصد الواقفين على القرآن

- ‌المطلب الثاني: الوقف على القراء

- ‌المطلب الثالث: الوقف على تعليم القرآن وتحفيظه

- ‌الخاتمة:

- ‌وسطية أهل السنة والجماعة وأثرها في علاج الغلو

- ‌توطئة:

- ‌الخاتمة:

- ‌تطبيق الشريعة الإسلامية ومعوقاتها

- ‌حماية المجتمع المسلممن الانحراف الفكري

- ‌المقدمة:

- ‌الفصل الأول: منهج القرآن الكريم والسنة النبوية في حماية المجتمع المسلم من الانحراف الفكري

- ‌المبحث الأول: تثبيت العقيدة الصحيحة في النفوس بالدلائل والبراهين

- ‌المبحث الثاني: دفع الشبهات

- ‌المبحث الثالث: بيان فساد العقائد الباطلة وأسباب ذلك

- ‌المبحث الرابع: بيان الأمور المفسدة للاعتقاد والنهي عنها

- ‌المطلب الأول: القول على الله بغير علم:

- ‌المطلب الثاني: الغلو

- ‌المطلب الرابع: الخوض في آيات الله

- ‌المطلب الخامس: اتباع المتشابه

- ‌المطلب السادس: الاطلاع على كتب أهل الضلال ثقة بما فيها أو ثقة بأهلها:

- ‌المطلب السابع: الشكوك والشبه

- ‌المطلب الثامن: مجالسة أهل الأهواء والبدع

- ‌المطلب التاسع: الإنكار والتكذيب

- ‌المطلب العاشر: الاستكبار

- ‌المبحث الخامس: العقوبات الرادعة في الدنيا والآخرة

- ‌تمهيد: عن العقوبات الإلهية في الدنيا والآخرة لأهل الضلال

- ‌الفصل الثاني: التطبيقات العملية للوقاية من الانحراف الفكري في تاريخ المسلمين

- ‌المبحث الأول: في عهد النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌المبحث الثاني: في عهد الخلافة الراشدة

- ‌المبحث الثالث: نماذج من التطبيقات العملية من قبل الأئمة المجددين من السلف

- ‌الفصل الثالث: سبل حماية المجتمع من الانحراف الفكري في العصر الحاضر

- ‌تمهيد في الأسس المنهجية للوقاية:

- ‌المبحث الأول: الأساليب العملية لعلاج الانحراف الفكري

- ‌المطلب الأول: الحكم بما أنزل الله في جميع جوانب الحياة:

- ‌المطلب الثاني: بناء المساجد وإقامة شعائر الله

- ‌المطلب الثالث: إزالة مشاهد الشرك والبدع

- ‌المطلب الرابع: منع الاحتفالات المبتدعة

- ‌المطلب الخامس: حماية المجتمع من المؤثرات الداخلية والخارجية

- ‌المطلب السادس: القيام بشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:

- ‌المبحث الثاني: الأساليب الوقائية للوقاية من الانحراف

- ‌المطلب الأول: العناية بتأصيل ونشر العقيدة الصحيحة في مختلف مجالات التوجيه

- ‌المطلب الثاني: منع المبطلين من نشر مذاهبهم الضالة وعقائدهم المنحرفة والتحذير منها والرد على أصحابها:

- ‌المطلب الثالث: بيان وكشف العقائد والمذاهب الباطلة والأساليب المسببة للانحراف الفكري والتصدي لها:

- ‌المطلب الرابع: التصدي لوسائل التأثير الفكري النظرية والعملية:

- ‌الخاتمة:

- ‌عمل المرأة والاختلاطوأثره في انتشار الطلاق

- ‌نظرة الإسلام إلى المرأة:

- ‌الأسرة ضرورة فطرية نفسية واجتماعية:

- ‌الواقعية والمثالية في نظام الأسرة:

- ‌خطوات في رأب الصدع:

- ‌الطلاق صمام أمان للأسرة:

- ‌كلمة في هذه المعاني للدهلوي:

- ‌كلمة أخرى لفيلسوف قانوني:

- ‌الطلاق ظاهرة اجتماعه قديمة:

- ‌ازدياد نسبة الطلاق:

- ‌العوامل المؤثرة في انتشار الطلاق:

- ‌ظاهرة متميزة بين الظواهر الاجتماعية:

- ‌قبل الدراسة:

- ‌قضايا منهجية:

- ‌المقصود بعنوان الدراسة، وموضوعها:

- ‌ عمل المرأة قسمان:

- ‌أثر هذا العمل في الطلاق:

- ‌الدراسات الميدانية حول الموضوع:

- ‌الخاتمة:

- ‌حديث شريف

الفصل: ‌ ‌وسطية أهل السنة والجماعة وأثرها في علاج الغلو لفضيلة الدكتور /

‌وسطية أهل السنة والجماعة وأثرها في علاج الغلو

لفضيلة الدكتور / علي بن عبد العزيز الشبل (1).

‌توطئة:

الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وبعد:

فإن أهم ما يميز العقيدة الإسلامية مع كونها محكمة وعادلة وإلهية التشريع، فإنه مع ذلك كله وغيره تتميز بالعدل والوسطية والإنصاف لأتباعها وغيرهم، ولذا أحببت المشاركة ببيان بعض جوانب وسطية أهل السنة والجماعة في أبواب الاعتقاد والتشريع، وأثر ذلك على أهل السنة والجماعة وعلى المسلمين بشكل عام، وغيرهم ممن يتأثرون بهم، وهو أمر ذو بال يشغل جزءا كبيرا من هم الأمة الإسلامية، ويمس شرائع وطبقات عريضة من بني آدم.

(1) عضو هيئة التدريس بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية

ص: 163

وفى هذا البحث أحاول إبراز معالجة الإسلام لمشكلة الغلو في باب الاعتقاد وفي الأحكام العلمية، مبرزا آثار الموضوع وسلبياته، ومناهج العلماء من السلف الصالح في كيفية علاج بعض هاتيكم الظواهر، وذلك من خلال المباحث التالية:

المبحث الأول: وسطية أهل السنة والجماعة وآثارها.

المبحث الثاني: آثار الغلو العملية ومنهج أهل السنة منها في الصفات والقدر والغلو في الأشخاص، وفي الاعتقاد بالنبوة والغلو في الأسماء والأحكام.

المبحث الثالث: علاج أهل السنة للغلو إجمالا.

المبحث الرابع: طريقة السلف في علاج الغلو: نماذج وأصول.

كفانا الله شر هاتيكم الشرور، وأسأله أن يوفقنا لصالح القول والعمل، وأن يوفق المسلمين لذلك، ويسلك بهم سبل العلم وطريق السلف، وأن يحاذرنا البدع وأهلها والانحراف وطرقه، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله.

ص: 164

أولا: وسطية أهل السنة وأثرها

مما سبق في القرآن الكريم يتبين منهج أهل السنة والجماعة، فهم وسط بين الأمم، ووسط بين الفرق الغالية، ووسط بين المفرطين المتساهلين والمتشددين، كما قال تعالى:{وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (1)، وقال:{وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} (2).

قال ابن تيمية رحمه الله في الواسطية مقررا هذا: بل هم الوسط في فرق الأمة، كما أن الأمة هي الوسط في الأمم؛ فهم وسط في باب صفات الله تعالى بين أهل التعطيل الجهمية وأهل التمثيل المشبهة، وهم وسط في باب أفعال الله بين الجبرية والقدرية وغيرهم، وفي باب وعيد الله بين المرجئة والوعيدية وغيرهما، وفي باب أسماء الإيمان والدين بين الحرورية والمعتزلة، وبين المرجئة والجهمية، وفي باب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الرافضة والخوارج.

وسبب هذه الوسطية المعتدلة:

هو تمسكهم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وفهمهما على فهم الصحابة على بصيرة وفقه وحكمة، ومن

(1) سورة البقرة الآية 143

(2)

سورة الأنعام الآية 153

ص: 165

منطلقات مدلولات اللسان العربي الفصيح، فهم الذين كانوا وما زالوا على الجماعة، على ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه.

ويدل لذلك أنهم لم يخالفوا ما في الكتاب والسنة أبدا، وإن وقعت خلافات فهي قليلة لهم فيها العذر، كما وقع الاختلاف في رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ربه ليلة المعراج وغيرها.

وهم الذين يذودون عن كتاب الله غلو الغالين وانحرافات المنحرفين.

وهم الذين يخدمون سنة رسوله صلى الله عليه وسلم رواية ودراية بأفضل مقاييس القبول والرد بما لا نعرف عند من قبلهم، ولا يكون فيمن بعدهم.

وهم على منهج واحد لم يتغير منذ حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وحتى لا يبقى على وجه الأرض مسلم يقول: الله الله.

ولا يزال متأخروهم يعتمدون أقوال علمائهم السابقين لهم في تبين الألفاظ وتفسير النصوص، ما كان الدليل موافقا لهم، ولم يردوا المعارض لأقوالهم بالدليل.

وأما غيرهم من أصحاب الفرق والنحل فلا يزالون في فرقة واختلاف في مناهج وتطور أفكار ومعتقدات، ما يظن الباحث معه انفصال متأخري الفرقة الواحدة عن متقدميهم، كما أن بعض الفرق

ص: 166

قد انقرضت كغلاة القدرية، حيث لم تستطع المواصلة أمام رفض العقول الصحيحة والنظر السليم لتلك المبادئ، فذهبت بذهاب أصحابها.

كما أنهم الذين اعتبروا الإجماع مصدرا من مصادر الشريعة؛ لأنه كان بمستند من كتاب أو سنة، ولم يعرف إجماعهم على مخالفة نص أبدا.

وهم الذين اختارهم الله ليختم بهم أديانه ورسالاته على الأرض، فرسالتهم ودينهم هي المناسبة لكل عصر ومصر وزمان ومكان {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} (1)، وقال:{إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ} (2)، وقال:{وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (3).

وهم غير المغضوب عليهم من اليهود، والضالين من النصارى، فدينهم دين السماحة واليسر وعدم الكلفة، والابتعاد عن المشقة.

وهم وسط في باب الصفات بين المعطلة الجهمية وبين المشبهة الممثلة المنتقصة لله عز وجل من جهة أخرى.

(1) سورة المائدة الآية 3

(2)

سورة آل عمران الآية 19

(3)

سورة آل عمران الآية 85

ص: 167

فهم يثبتون لله صفاته على ما يليق بجلاله وعظمته من غير أن يحرفوها عما وضعت له، أو يمثلوا بها صفات المخلوقين، على حد قوله تعالى في سورة الشورى:{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} (1).

وأن كل ما ثبت للمخلوق من كمال لا نقص فيه بوجه فلله أكمله، وكل ما تنزه عنه المخلوق من نقص لا كمال فيه بوجه من الوجوه فالله أولى بالتنزه عنه.

وهم في ذلك بين اليهود المشبهة الخالق بصفات المخلوقين كالفقر والتعب والنصب. . .، والنصارى الواصفين المخلوقين بصفات الخالق كما في عيسى ابن مريم وأمه عليهما السلام.

فلهذا عبدوا إلها واحدا عرفوه بقدرته وعظمته، كما عرفوه بصفاته وأسمائه التي عرفهم بها في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، فلا يتكلمون إلا بما يرضى به ويحبه؛ لأنه يسمع كلامهم ولا يفعلون إلا ما يرضاه، ويتجنبون ما يسخطه لأنه يراهم.

وأن قلوب الناس بين إصبعين من أصابعه تعالى يقلبها كيف يشاء.

وهم يسألونه ويدعونه ويستغفرونه خاصة في آخر الليل؛ لأنه ينزل ليجيب دعاءهم، ويعطي سائلهم، ويغفر لمستغفرهم.

فكانوا بهذا أصلح الناس وأعبدهم لربهم، وحسبك بالصحابة،

(1) سورة الشورى الآية 11

ص: 168

فهم أولياء الله، يمشون على الأرض لما طبقوا عقائدهم في أفعالهم، فسادوا الدنيا بقلوبهم وأفعالهم قبل سيوفهم وقوتهم.

وهم بين الغلاة من الروافض والباطنية. . . والنصارى فيما يتعلق بالنبوة، فلا يقولون بنبوة إلا من نبأه الله وأوحى إليه، وآمنوا بكل ما جاء به نبي من الله مؤيدا بالدلائل كلها، ليست المعجزات وحدها، ولا كل من ادعاها كانت له، وهم لا يرفعون الأنبياء - مهما كانوا - فوق منازلهم التي شرفهم الله بها، وهي العبودية والرسالة.

وبين اليهود والفلاسفة المجافين في حق الأنبياء، فظلموهم وقتلوهم وآذوهم.

وهم يؤمنون بكل أنبياء الله قبل محمد صلى الله عليه وسلم، ولا يفرقون بين أحد منهم؛ لأنهم كلهم جاءوا بدعوة من مشكاة واحدة، وكلهم إخوة لعلات، علموهم وعرفوهم بأسمائهم أو لا، ما دام ذكرهم الله في كتابه، أو أشار إليهم رسوله صلى الله عليه وسلم.

وينكرون ويكذبون كل مدع للنبوة بعد محمد صلى الله عليه وسلم، ويعتقدون أنه كذاب دجال مفتر على الله وعلى نفسه، وأنه ظالم لها بدعواه هذا، سواء كان هازلا أو جادا.

ثانيا: آثار الغلو - خاصة العملية - ومنهج أهل السنة

أقول ابتداء: إن البحث في الغلو والغلاة وأسباب الغلو ونشأته لعلاج هذه الآثار والنتائج الحاصلة من الغلو، وتأمل كيفية

ص: 169

ضلال الناس عن صراط الله المستقيم للعظة والعبرة.

والغلو في مسائل الدين مما يسيء في الحقيقة إلى عقيدة الإسلام ومحاسنه، فالغلو في العبادات أو الأفكار أو العقائد أو التصرفات، ومعارضة قواعد الشريعة في التسهيل في مواضعه مما يستقبح حصوله في المجتمع المسلم القصد المتوسط.

فمثلا التبتل وعدم النكاح، أو الاعتزال وطول العبادة، أو صيام الدهر كله، كل هذه نماذج من الغلو والزيادة والإفراط في العبادة بما لم يأذن به الله، بل هو قدح في الشريعة وواضعها الذي شرع للناس عبادتهم؛ لأنه يتهم الشريعة بالنقص، فلهذا طلب الزيادة بالغلو.

ونجعل مثل هذا غافلا عن تكامل الشريعة في كل شيء، وأن العبادة ليست مقتصرة على الجوع وطول الذكر والصلاة. . . بل كل عمل يفعله الإنسان مما أباحه الله يكون عبادة، فالنكاح عبادة، والمشي عبادة، والتجارة عبادة. . . وعلى هذا فقس كل مسألة وقع فيها الغلو، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة، فقد كان أكمل العباد عبادة لربه، وهذا مقرر عند كل من شهد بعبودية الرسول لربه ورسالته.

ص: 170

ولئلا يكون الحديث إنشائيا فأحاول ذكر ما تيسر من الآثار التي تصورتها ووقعت، أو التي يمكن وقوعها، بناء على الترتيب السابق

ص: 170

للمسائل في المبحث الثاني، كالتالي:

1 -

أثر الغلو في الصفات:

فالمعطلة طلبوا تنزيه الله فردوا النصوص أو حرفوها، وعبدوا إلها لا يعرفون له صفة إلا أنه حي موجود، اعتمادا على مقررات عقولهم ومناطقهم، وهي لا تنفرد بتقرير المغيبات؛ إذ المعول فيها على السمعيات من الكتاب والسنة.

وقدموا المنهج العقلي على الأحكام الشرعية، فعملوا ما هو عنده حسنا، وتركوا ما اعتقدوه قبيحا ولو كان ثابتا العمل به عند المسلمين من أصل شرعهم، فارتكبوا المحرمات، وعللوا فعلهم لها بالتأويل والمجاز.

والمشبهة قد وصفوا الله تعالى بصفات النقص والتشبيه والتمثيل، فعبدوا ربا كالبشر في حقيقته، فهو محتاج لمخلوقاته كالعرش والسرير الذي يجلس عليه المخلوق، والجمل الذي يركبه يوم عرفة تعالى الله عن قولهم علوا كبيرا.

وسبق بيان منهج أهل السنة وأنه وسط بينهما قريبا في المبحث الأول في: " وسطية أهل السنة وأثرها ".

2 -

أثر الغلو في القضاء والقدر:

فعند الجبرية لا حرج على العبد في فعل ما يشاء حلالا أو حراما؛ لأنه مجبور على فعله لا اختيار له ولا إرادة.

ص: 171

وعليه يعطل أهم أصول شرائع الدين، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا تكون الدعوة إلى الله، بل تعطل الشرائع كلها بما فيها من أمر ونهي وحساب وجزاء؛ لأن العبد حسب ما أجبره عليه ربه ويسره له، فإذا رأيت العاصي يمارس معصيته والكافر يكفر، فلا ينكر قلبك ولا يتمعر وجهك لأنه ليس له إرادة في فعله، وإن أنكرت عليه قال: هذا جبر جبرت عليه.

أما القدرية فوصفوا الله تعالى بالعجز عن خلق فعل عبده، ووصفوا العبد بالمقابل بالقدرة على خلق فعل نفسه، وأنه يخلق ما لا يقدر الله على فعله.

بل وصفته الغالية بالجهل بما سيقع من عبده، والعلم بعدما يقع من فعله، بينما على ضده يكون سلوك الفرد القدري حيث لا رقيب عليه؛ لأنه مستقل بفعله وقدرته، لما نفوا تقدير الله لأفعال عباده حسنها وقبيحها، خيرها وشرها.

وأهل السنة وسط بينهما:

فيقررون للعبد قدرة واختيارا ومشيئة، لا يجبره على فعله أحد، بل يفعل ما يفعله بمحض إرادته وحسب مشيئته، لكن فعله هذا وإرادته هذه داخلة في خلق الله تعالى له، كما أنها مسبوقة بعلم الله بها، فلا يعمل عملا إلا وقد سبق تقديره وإرادته في علم الله الأزلي، وكتبه عنده في كتابه الذي جرى بما كان ويكون إلى قيام الساعة.

ص: 172

وهم يفرقون بين إرادة الله العامة للشيء وبين محبته له ورضاه به، فالأولى: إرادة كونية قدرية عامة تظهر علم الله وكمال قدرته، والثانية: إرادة شرعية دينية من أجلها أرسل الله الرسل وأنزل الكتب؛ ليهدي من هدى على بينة، ويضل من ضل عن بينة.

وعليه فلا مستمسك لما يفعله العباد من خير وشر بالقدر أبدا عند أهل القرآن والسنة والإجماع.

وهم مع ذلك يعملون ويحرصون على إرادة الخير والطاعة، وما يحبه الله ويرضاه، ويتجنبون ما يسخطه ويبغضه ويكرهه سبحانه وتعالى، حيث ظهر بهذا أثر عقيدتهم في القضاء والقدر في سلوكهم وأعمالهم وأخلاقهم وعباداتهم، فيمن كان منهم متمسكا بهذه العقيدة عاملا بها، وإلا فهم متفاضلون في ذلك تفاضلهم في العقيدة أصلا.

3 -

أثر العقيدة في الأشخاص:

رفعهم فوق منازلهم التي أنزلهم الله فيها، الذي يؤدي إلى الاعتقاد فيهم بفعل الخير والشر، ومن ثم عبادتهم ودعاؤهم والاستعانة بهم مما هو صريح الشرك الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم بالدعوة إلى نبذه والتحذير منه دعوة ونذارة:{مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} (1).

(1) سورة الزمر الآية 3

ص: 173

التلبيس على الناس والعوام الجهلة بدين الله والافتراء عليهم، لأخذ أموالهم وابتزازها منهم بدعوى القربات إلى الأولياء والصالحين، وربط قلوب الناس بهم طمعا وتسلطا وترؤسا.

تعطيل ألوهية الله على خلقه واستحقاقه العبادة وحده لا شريك له منهم بوجوده عند هؤلاء الغلاة في ذوات من اتبعوهم، واعتقادهم واسطتهم إلى الله، فاكتفوا بهم عند الله وعن الله، واستغنوا عن الاتصال بالله مباشرة بعبادته ودعائه، فكانت القبور والأضرحة والمشاهد وسمة الشرك الأكبر.

فانظر إلى مجتمع تكون فيه الفوضى العقدية كيف يكون وصفه؟ فضلا عما قد يكون من المتبوعين لأولئك الأشخاص من المصادمات ما يستلزمه واقعهم.

وحسبك أن تدير رأسك في بلاد المسلمين التي ابتليت بهذا النوع - وهي كثيرة ولا حول ولا قوة إلا بالله - لتعرف الأثر السيئ والتخلف المقيت نتيجة تلك المعتقدات الباطلة.

4 -

أثر الغلو في الاعتقاد بالنبوة:

سيأتي كل مدع للنبوة أو الرسالة أو حتى مرتبة فوق منزلتهما بشرع يخالف ما عليه سابقه لا محالة، فكم تكون في الأرض من شريعة يتعبد الناس بها؟ وأي منها سيكون الأحق بالاتباع والعمل؟!

ما سيحصل من تنافس بين هؤلاء المدعين للنبوة مما ينتج عنه

ص: 174

سفك دماء وأخذ أموال بغير حق وفوضى، أو قل: غابة لا نظام يحكمها ولا عدل، كما وقع بين أتباع البابية ومؤسس البهائية محمد حسين المازنداري في مواقفه.

وسبق موقف أهل السنة من الغلو في النبوات.

5 -

أثر الغلو في بغض الصحابة وتكفيرهم:

القدح بنقلة الشريعة الكتاب والسنة، فإذا قدح في نقلهما فكيف الوثوق بهما؟ فيلزم تعطيلهما.

بالمقابل يكون تعبد الله بما نقله نفر من الصحابة علي وسلمان وعمار والمقداد وأبو ذر رضي الله عنهم، ونتولاهم، ونعتقد بهم، ونعتمد على أقوالهم، فيكونون هم المشرعين فلا كتاب ولا سنة؛ لقلة ما رووه بالنسبة إلى السنة والدين مما يفتح باب الكذب عليهم والقول عليهم بما لم يقولوه، كما امتلأت به كتب القوم به على علي وأبنائه من آل بيته.

انعدام الشريعة وظهور الجاهلية مرة أخرى، فلا توحيد ولا عبادات ولا نظام للحياة متكامل.

وأهل السنة في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بين الرافضة وغلاتهم وأشباهم، وبين الخوارج الجافين في حقهم الجاحدين لفضائلهم، فيرون عدالة الصحابة كلهم، فهم من حمل إلينا الكتاب والسنة وحفظوهما بحفظ الله لهما.

ص: 175

وهم كما قاله ابن مسعود فيما نقله عنه ابن أبي العز ص 383 من شرح الطحاوية، وأسنده عنه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وغيره:

" من كان منكم مستنا فليستن بمن قد مات، فإن الحي لا تؤمن عليه الفتنة، أولئك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا أفضل هذه الأمة، أبرها قلوبا، وأعمقها علما، وأقلها تكلفا، قوم اختارهم الله لصحبة نبيه وإقامة دينه، فاعرفوا لهم فضلهم، واتبعوهم في آثارهم، وتمسكوا بما استطعتم من أخلاقهم ودينهم، فإنهم كانوا على الهدى المستقيم " اهـ.

ونرى ما حصل بينهم من فتنة أوقدها أعداء الله، فكل من الصحابة بطائفتيهم مجتهد مأجور غير مأزور، متفاوتين في مقدار الأجر.

وفتنة سلم الله منها سيوفنا نسلم منها ألسنتنا، كما نظم القحطاني في نونيته قائلا:

دع ما جرى بين الصحابة في الوغى

بسيوفهم يوم التقى الجمعان

ققتيلهم منهم وقاتلهم لهم

وكلاهما في الحشر مرحومان

والله ينزع يوم الحشر كل ما

تحوي صدورهم من الأضغان

ص: 176

وأن عليا رضي الله عن الجميع أولى بالخلافة من معاوية، وهو أحق بها، والحق كان معه، ومعاوية ومن معه غير مأزورين وغير آثمين على اجتهادهم، فلن يعدموا إن شاء الله أجر الاجتهاد وإن فاتهم ثواب الإصابة.

ويرون الخلافة الراشدة - خلافة النبوة - هي خلافة أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورين وعلي ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج ابنته، ويرتبونهم في الفضل كترتيبهم في الخلافة على ما استقر عليه قول أهل العلم والسنة، وانعقد عليه إجماعهم، ويترضون عنهم أجمعين، وأنه لو أنفق المنفق مثل أحد ذهبا لم يبلغ مد أحدهم ولا نصيفه.

6 -

أثر الغلو في الأسماء والأحكام:

تعتقد الخوارج أن الفاسق كافر في الدنيا، مخلد في النار يوم القيامة، يجوز سلب ماله واستحلال دمه واسترقاقه وتطليق زوجته منه. . . وهو في الآخرة يائس من رحمة الله للجزم بأنه كافر ومخلد في نار جهنم.

أما المعتزلة فيوافقونهم في حكم يوم القيامة، فهؤلاء ضيقوا على الناس بمحاسبتهم بكبائرهم ومعاصيهم، فكم يبقى في الدين من رجل بعد هذا التشدد والتعسير؟

ص: 177

ولا يزال خطر أولئك الخوارج مستمرا حتى ظهرت في هذا الزمان طائفة تنادي بأفكارهم، وتؤصل أصولهم، هي جماعة مصطفى أحمد شكري (1398 هـ) في بلاد مصر، فمن أقوالها في مرتكب المعصية:

" لم يحدث أن فرقت الشريعة بين الكفر العملي والكفر القلبي، ولا أن جاء نص واحد يدل أو يشير أدنى إشارة إلى أن الذين كفروا بسلوكهم غير الذين كفروا بقلوبهم واعتقادهم، بل كل النصوص تدل على أن العصيان لله عملا والكفر به سلوكا واقعا هو بمفرده سبب العذاب والخلود في النار والحرمان من الجنة " اهـ.

وحسبي أن أشير إلى آثار تلك الفرقة على الناس:

1 -

اعتزال أفرادها المجتمع المصري؛ لأنه كافر راض بالكفر.

2 -

تصفية وقتل كل من خالفهم أو رد عليهم - ومنهم ذهبي مصر -؛ لأن من خالفهم فهو كافر حيث قامت عليه الحجة، فلم يقتنع بها، وتجري عليه أحكام المرتد.

3 -

عندهم كل من يحكم بغير ما أنزل الله يكون كافرا

ص: 178

كفرا مخرجا عن الملة جملة، دون التفصيل كما هي طريقة المحققين من أهل السنة في وجوب التفصيل.

4 -

التكفير بالمعاصي والخلود بها في نار جهنم.

5 -

تشويه صورة سماحة الإسلام بين الناس، ووافق ذلك لمزهم بالتطرف، وجماعة التكفير والهجرة، وتفرق المسلمين، وبث الفوضى والخوف وعدم الأمن بينهم، وهذا مشاهد في أماكن شتى عند أضراب هؤلاء، ومع الأسف الشديد أنهم يعتقدون أن تصرفهم هذا ديانة لله وجهاد، جهلا بالعلم والدين ومقاصده.

6 -

دعواهم بأنهم جماعة المهدي المنتظر لاتحاد الزمان الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم بوجود المهدي فيه.

وهكذا كل قول أو طائفة تنتحل مثل أفكار الخوارج ومعتقداتهم لا بد أن ينتج عنه نظير ما ينتج عن هذه الطائفة من الآثار غير المحمودة طبعا وعقلا، فضلا عن الشرع الحنيف.

وعند المرجئة المؤمن على رأيين:

1 -

من أوقفوا الإيمان على مجرد المعرفة والإقرار القلبي بالله وبرسوله، فكذبوا بالقرآن، وشهدوا بالإيمان لإبليس وفرعون.

وعليه فلا حاجة إلى دعوة الكفرة غير الملحدين؛ لأن غالبية الكفرة ممن يقرون بالله ويؤمنون به في قلوبهم، لا فرق بين المؤمن والكافر إلا بالجهل بالرب أو جحوده، هذا عند المرجئة المحضة من

ص: 179

الجهمية ومن وافقهم.

2 -

من حد الإيمان بالنطق باللسان فقط - وهم الكرامية - وإن جحد قلبه، فعلى هذا اسم المؤمن عندهم في الدنيا شمل المنافق والمعاند والزنديق؛ لأنهم أظهروا كلمة الإيمان نطقا، وإن لم يعتقدوها قلبا أو يطبقوها عملا.

أما في الآخرة فعند المعرفية من المرجئة - كالجهمية المحضة وغيرهم - لا يدخل النار إلا الملاحدة المنكرون بقلوبهم وألسنتهم وجود الله، والمكذبون بقلوبهم الرسول صلى الله عليه وسلم.

وعند الكرامية كل من نطق بلسانه دخل الجنة، وإن كان ما في قلبه خلاف ذلك، ومن لم ينطق بلسانه، بل اكتفى بتصديق قلبه وإيمانه ويقينه، فهو من أهل النار.

وبقية المرجئة مترددون ومنتقلون في هذا بينهما بشيء من الزيادة والنقصان، فمن ناقص على قولهم ومن زائد عليه كما سبق الكلام عليهم تفصيلا.

فعلى ذلك لا يضر أهل المعاصي والفسوق والمنكرات، بل الكفرة ما داموا عارفين لربهم ورسوله، مقرين لهما بقلوبهم أو ناطقين بالشهادتين بألسنتهم، فهم مع ما هم عليه من كبائر أو كفر ولو شركا مع الله، هم من أهل الجنة قطعا عند هؤلاء.

فإذا ما الحاجة إلى إرسال الرسول إلى أهل مكة وغيرهم وهم لا يعبدون الأصنام إلا لتقربهم إلى الله؟ فهم مقرون بالله مؤمنون

ص: 180

به وبالأنبياء، مثل محمد وإبراهيم وإسماعيل صلى الله عليهم وآلهم وسلم.

وهؤلاء العصاة مهما كانوا عليه من معصيتهم أو كفرهم فهم كاملو الإيمان، فلا حاجة إلى جهاد المشركين.

وهم يتركون الملاحدة والمفسدين يعيثون في الأرض الفساد بجامع أنهم مؤمنون، ويقفون أمام الدعوات الإصلاحية كدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب الإصلاحية شهوة وهوى، حتى لم يسلم له الميزان بين الفئتين، ويوسعون دائرة الإيمان ويدخلون فيها الزنادقة وأكفر الكفرة.

وأهل السنة والجماعة يرون أن الإيمان قول باللسان وعمل بالأركان واعتقاد بالجنان، يزيد بطاعة الرحمن، وينقص بطاعة الشيطان، فقولهم هو الوسط، وعليه يكون اعتماد الحياة، ومن خلاله يكون تنظيمها، وهو المنهج المعتدل الذي جعله الله للناس هدى ورحمة وطريقا سويا لا عوج فيه ولا أمتا، وبه تحصل السعادتان في النشأتين.

فيقفون أمام جميع المنكرات ويأمرون بالمعروف، وينهون عن المنكر، ويأخذون على يد السفيه المفسد للمسلمين، ويأطرونه على الحق أطرا، ولو لم يندفع شره إلا بقتله قتلوه تحصيلا للمصلحة العامة العظمى، وإنفاذا لحكم الله فيمن لم

ص: 181

يتق شره إلا به، وعندئذ لا يقوم بقتله أفراد أهل السنة أو آحادهم (لئلا يفتاتوا على إمام المسلمين)، بل الذي يقوم به الحاكم الشرعي حكما وولي الأمر تنفيذا.

وهم يدعون الناس إلى الإسلام ويجاهدون عليه؛ لأنه دين الله الحق الصحيح المأمور باتباعه من كل أحد من العالمين: {لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ} (1)، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} (2)، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا} (3).

وهم مع ذلك لا يقنطون أهل المعاصي من رحمة الله ويؤيسونهم من رحمته، بل يأخذون بجانب الحب والرجاء والخوف في دعوتهم، وكل حسب ما يناسبه.

(1) سورة الأنعام الآية 19

(2)

سورة الأنبياء الآية 107

(3)

سورة سبأ الآية 28

ص: 182

ثالثا: علاج الغلو

وبعد فمن إتمام الكلام على الغلو بعد ذكر أسبابه ومشكلاته وآثاره فمن المناسب أن أختم ذلك بذكر بعض الأساليب المفيدة في علاج الغلو، في أي باب من أبواب الدين، وفي أي زمان من أزمنة الناس.

ولا يوجد علاج جامع مانع شاف مبرئ إلا:

ص: 182

أ - التمسك بالكتاب والسنة الصحيحة عملا وقولا واعتقادا في شتى ميادين الحياة، وعلى اختلاف أحوالها، على علم وهدى وبصيرة، لا بهوى وجهل، أو عدم اعتبار للقواعد الشرعية.

ب - سلوك منهج خير الناس وأفضلهم كما شهد لهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعدم مفارقة الجماعة، وإحداث ما لم يأذن به الله في الدين من البدع والمذاهب والجماعات.

فلا بد من تقرير هذين الأمرين العظيمين، والدندنة عليهما في شتى الميادين، والسعي إلى تحقيق ذلك في ميدان العمل والتطبيق ليجني الناس ثمارهما الطيبة.

ومن الأساليب التي يمكن إيرادها في هذه المناسبة الآتي:

1 -

رفع الجهل، وذلك بأحكام الشريعة الإسلامية والسنن النبوية، بطلب الحق والبصيرة في تلك الأحكام، وبتعلم العلم والعكوف عليه دراسة وحفظا وفهما ودعوة وعملا.

2 -

الحرص على سلامة المنهج المتبع لآثار السابقين الموافقة لقواعد الشريعة، والمحققة لمقاصدها وغايات أحكامها وشرائعها الكلية والتفصيلية، بعيدا عن النظرة الشخصية أو الطائفية الضيقة.

3 -

دعوة أولئك الذين يدخلون إلى الإسلام بالحكمة والموعظة الحسنة، وخفض الجانب لهم، حتى إذا كانت في نفوسهم مقاصد مكيدة فإنها تزول بإذن الله، واستخدام ما يمكن من الأساليب اللينة

ص: 183

الحقة حتى لو ظهر غلو، عسى أن يتركوه أو تكون مرحلة زلت فيها أقدامهم، سرعان ما يرجعون ويثوبون عنها.

لكن إذا لم يجد العلاج باللين والحسنى فآخر الدواء الكي؛ لئلا يستفحل المرض في جسد الأمة وينتشر، وقطعا للمرض، واستئصاله لمصلحة المريض وغيره، وحبذا لو طبق هذا المنهج مع الشباب الذين لديهم نزعات غلو أو كانوا جماعات. . . ما لم نحس الزيادة في الغلو، حتى لا يولد العنف تصلبا وزيادة غلو وتشدد وتمسك بالرأي (كما تعالج بعض الأنظمة الغلو والتطرف).

4 -

التربية الإيمانية الصحيحة على منهج القرآن، وبنبراس من تربية النبي صلى الله عليه وسلم لأمته وأصحابه على سبيل الخصوص، حيث قضى عليه السلام على ما بدر من مظاهر الغلو بأسلوب تربوي حقيق بأن يحتذى ويطبق، حتى صار الصحابة ومن كانت عنهم مظاهر الغلو أمثلة يقتدى بهم في العدل والإحسان والاعتدال والوسطية المأمور بها شرعا.

التربية على منهج السماحة والمودة وخفض الجانب للمخالفين إلى حد معين، وإحسان الظن بالمخالف ما لم يصل الأمر إلى غير المرغوب فيه ما أمكن إلى ذلك سبيلا.

التربية على التأدب مع الله ورسوله صلى الله عليه وسلم ومع أصحابه وأهل العلم، تأدب التلميذ مع معلمه والطفل مع مربيه.

ص: 184

يتأدب مع أهل العلم، فلا يتجرأ عليهم ويماريهم أو يتطاول عليهم ويباحثهم بالحسنى واللطف.

5 -

التحاكم في الأفكار والمناهج والأعمال إلى محكمة الكتاب والسنة النبوية الصحيحة، بفهم من لغة العرب وفهم الصحابة لهما، وأن يكون الحوار الصادق الهادئ الناشد للحق تحت مظلة مصادر الشريعة الأصلية المتفق عليها عند المسلمين، فينزع ما يتعلق به من هوى أو فكر أو آراء قبل دخول عتبة هذه الخيمة تجردا لله، وطلبا للحق ضالته المنشودة.

6 -

مجانبة التعصب المذموم للآراء أو أقوال الأئمة مهما علت رتبتهم وارتفعت منزلتهم، ما لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل يجب أن يكون المقصد هو طلب العلم والدليل السمعي الموافق للعقل الصحيح والفطرة المستقيمة؛ إذ لا ينفكان عن بعضهما.

7 -

ترك الجرأة على العلم وتجاوز درجاته، والقفز إلى أعلى مراتبه، واعتبار فهم الصحابة وأقوالهم في تفسير النصوص، وفهوم العلماء الراسخين بالفهم والرأي من الكتاب والسنة، والاستقلالية دون سابق علم وبصيرة من لغة عربية صحيحة مدركة المقاصد والمعاني، وإحاطة بالعموميات من أصول الشريعة قبل خصوصياتها.

8 -

قيام العلماء والأئمة بواجبهم في هذا الميدان، وبدورهم المطلوب منهم، برفعهم الجهل عن الناس بأن يكونوا مصابيح لهم

ص: 185

في الدجى تهديهم إلى الطريق المعتدل السوي، وأن يكونوا قدوة لعامة الناس كحال العلماء المخلصين، وترك ما يكون بينهم من خلافات شخصية أو طائفية، والنزول عند الحق مهما كان قائله، ومعاشرة الناس في واقعهم، وتلمس مشاكلهم وحاجاتهم.

ولن يتم هذا الأمر في الحقيقة إلا بتضافر الجهود بين الولاة والعلماء، إذ هما هنا كجناحي الطائر لسلامة الأمة وأمنها وعقيدتها.

ص: 186

رابعا: طريقة السلف في علاج الغلو

وذلك بالإتيان على نماذج قليلة توضح منهجهم في معالجتهم للمحدثات، ووسائل الغلو من الأفكار الوافدة، أو المولدة الغالية.

وطريقتهم:

لزوم الجماعة ما أمكن وعدم مفارقتها، وهي جماعة المسلمين، وقد يعبر عنهم بجماعة المسلمين أو المجتمعين على إمام معين، وعدم الخروج على الأئمة والصبر عليهم، فعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:«من رأى من إمامه ما يكرهه فليصبر، فإن من فارق الجماعة شبرا فمات فميتته جاهلية (1)» متفق عليه.

(1) صحيح البخاري الفتن (7054)، صحيح مسلم الإمارة (1849)، مسند أحمد (1/ 297)، سنن الدارمي السير (2519).

ص: 186

أي: يكره ما يأتي من معصية الله، لا لهوى نفسه وخصوصها وزخرف الدنيا.

وعلى هذا كان معظم السلف، فلم يكونوا جملتهم يخرجون على أئمة الجور الظلمة، وحسبك بالحجاج بن يوسف بقسوته وظلمه، ومع هذا فلم يذكر عن أحد من الصحابة الخروج عليه، بل كانوا يصلون خلفه ويبغضون ما يأتي منه من المعاصي والظلم، منهم ابن عمر وابن عباس وأنس بن مالك، حيث وجد البعض منهم محنا منه وتعنتا وظلما.

ذم الجدال والخصام في الدين، وكثرة القيل والقال بدون طلب الحق ووجود الدليل، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدال، ثم قرأ: (2)» رواه الحاكم وغيره.

وعلى هذا درج السلف فكانوا يحذرون من الجدال فيما لا ينفع أشد التحذير، وأيضا في التحذير من أهله، ومن ذوي الهوى المتبع والشح المطاع، وإعجاب كل ذي رأي برأيه، كما صرح به

(1) سنن الترمذي تفسير القرآن (3253)، سنن ابن ماجه المقدمة (48)، مسند أحمد (5/ 256).

(2)

سورة الزخرف الآية 58 (1){مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ}

ص: 187

حديث أبي ثعلبة الخشني رضي الله عنه.

فقد روى اللالكائي (1) بسنده إلى علي بن أبي طالب أنه قال: " إياكم والخصومة، فإنها تمحق الدين " اهـ، وروي بنحوه عن ابن عباس والحسن بن علي ومحمد ابن الحنفية والأحنف بن قيس والفضيل بن عياض ومسلم بن يسار وغيرهم كثيرا.

فالخصومات تمحق الدين وتنبت النفاق، وهي ساعة جهل العالم التي يستسيغها الشيطان ليدرك بها هواه، ويثيره على الباطل.

- وروى الآجري في الشريعة ص 56 بسنده عن معن بن عيسى قال: " انصرف مالك بن أنس من المسجد وهو متكئ على يدي، فلحقه رجل يقال له: أبو الحورية، كان يتهم بالإرجاء، فقال: يا عبد الله اسمع مني شيئا أكلمك به أحاجك، وأخبرك برأي، فقال مالك: فإن غلبتني؟ قال: إن غلبتك اتبعني، قال: فإن جاء رجل آخر فغلبنا؟ فقال أبو الحورية: نتبعه، فقال مالك: يا عبد الله بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بدين واحد وأراك تتنقل من دين إلى دين " اهـ.

وقال عمر بن عبد العزيز: " من جعل دينه غرضا للخصومات

(1) انظر: رقم 211 - 224 من شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة ص 54 وما بعدها.

ص: 188

أكثر التنقل " اهـ (1).

نعم فقد كانوا رحمهم الله يدفعون المراء ما أمكنهم إلى ذلك سبيلا.

وروى اللالكائي كذلك بسنده عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: " أيها الناس إن هذا القرآن كلام الله عز وجل، فلا أعرفن ما عظمتموه على أهوائكم، فإن الإسلام قد خضعت له رقاب الناس فدخلوه طوعا وكرها، وقد وضعت لكم السنن فلم يترك لأحد مثالا إلا أن يكفر عبد عمد عين، فاتبعوا ولا تبتدعوا، فقد كفيتم، اعملوا بمحكمه، وآمنوا بمتشابهه " اهـ.

وروى اللالكائي (2) بسنده عن إبراهيم النخعي قوله: " لفتنة المرجئة أخوف على هذه الأمة من فتنة الأزارقة " اهـ.

وقال الزهري رحمه الله: " ما ابتدعت في الإسلام بدعة أضر على الملة من هذه - يعني المرجئة - " اهـ (3).

وقال أيوب لسعيد بن جبير: لا تجالس المرجئة، ولما رآه

(1) اللالكائي في شرح اعتقاد أهل السنة رقم 1827.

(2)

رقم 1086، وعبد الله بن أحمد 1/ 313، والآجري في الشريعة ص 143.

(3)

الشريعة للآجري ص 144.

ص: 189

مجالسا أحدهم نهاه (1).

وسئل رييعة شيخ مالك عن قوله تعالى: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (2): كيف استوى؟ فأجاب: الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، ومن الله الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التصديق (3) " اهـ.

ومثله ما صح عن مالك بن أنس إمام دار الهجرة أنه دخل عليه رجل في المسجد وهو يملي فيه حديث النبي صلى الله عليه وسلم، وقال:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى} (4) كيف استوى؟ فأطرق مالك رأسه حتى علته الرحضاء أو غشي عليه، فلما أفاق قال: أين السائل؟ ثم قال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أراك إلا مبتدعا، فأمر فأخرج من المسجد.

«وعن ابن الديلمي قال: وقع في نفسي شيء من القدر، فأتيت أبي بن كعب فقلت له: يا أبا منذر إنه وقع في نفسي شيء من القدر، وقد خشيت أن يكون فيه هلاك ديني، فحدثني من ذلك بشيء لعل الله أن ينفعني.

فقال: " لو عذب الله أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو

(1) اللالكائي رقم 1810، والشريعة ص 144.

(2)

سورة طه الآية 5

(3)

رواه اللالكائي رقم 665، وروي نحوه عن مالك 663، 664.

(4)

سورة طه الآية 5

ص: 190

غير ظالم لهم، ولو رحمهم لكانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم، ولو كان لك مثل أحد ذهبا فأنفقته في سبيل الله ما قبل الله منك حتى تؤمن بالقدر، وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك، فإنك إن مت على غير هذا دخلت النار، ولا عليك أن تأتي عبد الله بن مسعود فتسأله ".

قال: فأتيته فأجاب مثله، ثم حذيفة بن اليمان فأجابني بمثلها، ثم زيد بن ثابت فقال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه. . . "(1)» وساقه.

وقال ابن مسعود: " ما كان كفر بعد نبوة إلا كان معه التكذيب بالقدر "(2).

وقال ابن عباس: " القدر نظام التوحيد، فمن وحد الله ولم يؤمن بالقدر كان كفره بالقضاء نقضا للتوحيد، ومن وحد الله وآمن بالقدر كان العروة الوثقى لا انفصام لها ".

واشتهر قول عمر بن عبد العزيز في القدر ورسالته إلى سائله،

(1) سنن أبي داود السنة (4699)، سنن ابن ماجه المقدمة (77)، مسند أحمد (5/ 185).

(2)

رواه الآجري في الشريعة ص 204.

ص: 191

وكذا قول الشعبي في مخازي الرافضة.

وهذا قليل من كثير مما ورد عن القوم، وجمعه ومظنته كتب أصول السنة كالسنة لابن أبي عاصم، وعبد الله بن أحمد، وكتب عثمان الدارمي، والشريعة للآجري، والإبانة لابن بطة، وشرح أصول السنة للالكائي، ومقدمة منهاج السنة النبوية لابن تيمية، وغيرها.

وفي الجملة فموقف السلف من البدع في هذه النقاط مجملة:

1 -

جهادهم باللسان والسنان كما وقع من الصحابة للخوارج ولغلاة الرافضة، وبالجملة تنوعت مواقفهم حسب كل عصر وما يناسبه، وحسب كل قضية وما يلازمها ويلابسها في الفكرة والواقع، بما يقطع شرها ويحد خطرها.

2 -

التحذير من المراء والجدل، وبيان الغلو وتوضيحه في المسائل العينية، والتحذير من طوائفه.

3 -

النهي عن مخالطة أهل البدع والجلوس والحديث معهم.

4 -

هجر أهل البدع، وعدم نكاحهم والصلاة عليهم.

5 -

بيان خطرهم وعظم فتنتهم.

6 -

إلزامهم الحجة بألفاظ قليلة الكلمات تحوي معاني عظيمة، وذلك فيمن كان سائلا مسترشدا.

هذا والله تعالى أعلم، وصلى الله على عبده ورسوله محمد وآله وصحبه وسلم تسليما.

ص: 192