الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
للوقف دورا فاعلا في مجال الرعاية الاجتماعية، يتمثل ذلك في المدارس والمحاضن التي أنشئت خصيصا للأيتام، يوفر لهم فيها المأكل والأدوات المدرسية، كما يتمثل دور الوقف في مجال الرعاية الاجتماعية في الأربطة بالإضافة إلى الأسبلة التي يقصد بها توفير ماء الشرب للمسافرين وعابري السبيل وجموع الناس، سواء داخل المدن أو خارجها، وقد أدت دورها الاجتماعي باقتدار رغم صعوبة استمرار مثل هذه المؤسسات الاجتماعية وبقائها فترات طويلة وعلى مدى أجيال متوالية، ويعود ذلك إلى حاجتها الكبيرة إلى موارد مالية دائمة لا تتوقف ولا تنضب، وقد تحقق لها ذلك بفضل من الله ثم بفضل نظام الوقف الذي ازدهر في تصاعد مع ازدهار الحضارة الإسلامية، ذلك أن الملاحظ في كثير من حلقات التاريخ وفي العديد من بلاد العالم توقف مؤسسات خيرية ضخمة عن أداء رسالتها بعد فترة من الزمن، بسبب نضوب مواردها المالية وإفلاسها، مما اضطرها إلى طلب مساعدة الخيرين بين حين وآخر، أما في الحضارة الإسلامية فإنه قل أن تجد مثيلا لهذه الظاهرة.
المبحث الثالث: أركان الوقف وشروطه
للوقف أركان لا يتم إلا بها، إلا أن العلماء اختلفوا في هذه الأركان، ومذهب الجمهور أن للوقف أربعة أركان: الواقف والموقوف والموقوف عليه والصيغة.
فالركن الأول: الواقف، وهو المكلف الرشيد الحر الذي صدر منه الإيجاب بإنشاء عقد الوقف.
والركن الثاني: الموقوف، وهو كل عين مملوكة يصح بيعها.
والركن الثالث: الموقوف عليه، وهو الذي يخصص الوقف أو ريعه عليه، سواء كان معينا كشخص أو جماعة، أو غير معين كجهة من الجهات.
والركن الرابع: الصيغة، وهو القول الذي دل على إنشاء عقد الوقف، وكذا الفعل الدال عليه، كما لو بنى مسجدا وخلى بينه وبين الناس، أو مقبرة وأذن في الدفن فيها.
وقد اتفق الفقهاء على أن المعتبر في الصيغة إيجاب الواقف، فيكون الوقف من العقود التي تنعقد من طرف واحد، ولا يعد قبول الموقوف عليه من أركان الوقف، لكن هل هو من شرطه؟؟
إن كان الموقوف عليه غير معين كالفقراء وطلبة العلم وما أشبه ذلك لم يعتبر قبولهم باتفاق أهل العلم، وإن كان معينا كشخص أو جماعة فجمهور العلماء على أنه لا يشترط قبولهم أيضا، هذا مذهب الحنفية والحنابلة وأحد الوجهين عند الشافعية، وذهبت المالكية وهو الوجه الآخر عند الشافعية ورواية عند الحنابلة إلى أنه يعتبر قبول الموقوف عليه المعين أو وليه إذا كان صغيرا ما وقف عليه (1).
(1) ينظر: شرح الخرشي على مختصر خليل 5/ 88، روضة الطالبين 5/ 322، المغني 6/ 187.
أما شروط الوقف فهي مرتبطة بالأركان السابقة، وهي كالتالي:
أولا: الشروط المعتبرة في الواقف.
يشترط في الواقف كي يصح منه عقد الوقف أن يكون أهلا للتبرع، والأهلية تعني: أن يكون حرا مكلفا رشيدا، فلا يصح الوقف من العبد لأنه لا يملك، وإن ملك فملكه قاصر؛ لأنه يؤول إلى سيده، ولا يصح من صغير مميزا كان أم غير مميز، ولا من المجنون، ولا من السفيه، لعدم أهليتهم للتبرع، وذلك لأن الوقف تبرع وإسقاط للملك بلا عوض فلم يصح من هؤلاء.
ثانيا: الشروط المعتبرة في الموقوف عليه.
الموقوف عليه إما أن يكون معينا كشخص أو جماعة، أو يكون جهة، فإن كان الموقوف عليه معينا فقد اشترط بعض الفقهاء أن يمكن تمليكهم، فخرج بذلك الوقف على المجنون والجني والملك، وألا يكون على معصية كما لو وقف على نائحة أو مغنية.
واشترط المالكية والشافعية قبول المعين للوقف، لكن ليس هذا شرطا في صحة الوقف، بل شرط في اختصاصه به، فلو لم يقبل فإنه لا يعود مطلقا، بل يكون للمصرف الذي بعده إن عين مصرفا، وإلا فيعود للفقراء والمساكين.
ومن الشروط أيضا أن يكون الوقف على بر وطاعة؛ لأن
الوقف صدقة وطاعة فلا بد أن تصادف محلا تظهر فيه القربة والطاعة، ومذهب المالكية ألا يكون على معصية محضة.
أما إذا كان الموقوف عليه جهة كالمساجد والمدارس والأربطة والمستشفيات وغيرها فيشترط أن تكون جهة بر وطاعة وقربة، فلا يصح الوقف على جهة معصية، كالوقف على قطاع الطرق أو على المبتدعة أو على المغنين ونحوهم، لما فيه من التعاون على الإثم والعدوان، والله تعالى يقول:{وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} (1)، ولأن في الوقف على المعصية إشاعة لها وتقوية لجانبها، وهذا مناف لمقاصد الشرع في الأوقاف، ولأن الوقف قربة وطاعة فكيف يتقرب إلى الله تعالى بالمعصية؟. ثالثا: الشروط المعتبرة في محل الوقف، وهو الذي يرد عليه عقد الوقف ومن تلك الشروط:
1 -
أن يكون الوقف مالا، مباح النفع مطلقا، فخرج ما لا نفع فيه، وما نفعه محرم كالخمر والخنزير، وما منفعته مقيدة بالضرورة كالميتة.
2 -
أن يكون مملوكا؛ لأن التبرع تصرف ينقل الملك، فلا يجوز لإنسان أن يتصرف فيما لا يملكه ولا ولاية له عليه.
3 -
أن يكون معلوما حين الوقف فلا يصح وقف المجهول
(1) سورة المائدة الآية 2
كالحصة والشيء.
4 -
اشترط جمهور العلماء دوام الانتفاع بالعين، فلا يصح وقف طعام لأكل، ولا ريحان لشم، لعدم دوام الانتفاع بهذه الأمور.
رابعا: الشروط المعتبرة في صيغة الوقف:
يشترط في صيغة الوقف شروط أهمها:
1 -
أن تكون دالة على الجزم بالعقد، فلا ينعقد الوقف بالوعد به، كما لو قال: سأقف على ذريتي، وما أشبه ذلك.
2 -
أن تكون الصيغة لفظا، فلا ينعقد بالصيغة الفعلية، وهذا الشرط قال به الحنفية والشافعية، وذهب المالكية والحنابلة إلى أن الصيغة الفعلية تكفي للدلالة على الوقف وينعقد بها.
ومن المعلوم أن شرط الواقف إذا لم يكن إصلاحا أو كان إثما فلا يجوز اعتباره ولا حرمة له، كما لو شرط التعزب في الموقوف عليه أو الترهب.
بل لو شرط ما هو مكروه، أو تضمن شرط ترك ما هو أحب إلى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فلا حرمة لشرطه، ولا إثم على من غير شرطه.
قال ابن القيم رحمه الله: (ولا يحل لأحد أن يجعل هذا الشرط المخالف لكتاب الله عز وجل بمنزلة نص الشارع، ولم يقل هذا أحد من أئمة الإسلام. . . فإذا شرط الواقف القراءة على القبر كانت
القراءة في المسجد أولى وأحب إلى الله ورسوله وأنفع للميت. . . ومن ذلك: أن يشرط عليه إيقاد قنديل على قبر، أو بناء مسجد عليه، فإنه لا يحل تنفيذ هذا الشرط ولا العمل به، فكيف ينفذ شرط لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعله؟) (1).
ومن هنا تتبين أهمية الألفاظ في الوقف، وأن الصيغة الفعلية لا تكفي للدلالة عليه ما لم يقترن بها اللفظ، أو قرينة قوية دالة عليه.
3 -
أن تكون الصيغة دالة على التنجيز، فلا يصح الوقف المعلق، ولا المضاف إلى شرط مستقبل؛ لأن الوقف فيه معنى تمليك المنافع والغلة، والتمليكات يبطلها التعليق.
4 -
أن يقع الوقف لازما، فلا يصح شرط الخيار فيه، كأن يقول: داري وقف على أني بالخيار شهرا، فإذا علقه بشرط الخيار بطل، والعلة فيه ما سبق في شرط التنجيز، ولأن الخيار شرع للتروي والتفكير في عاقبة الأمر، وهذا إنما يكون في الأمر المتردد بين المصلحة والمضرة.
والوقف مصلحة محضة للواقف في الدنيا والآخرة، أما في الدنيا فصلة الأقارب وبر الأحباب إن كان الموقوف عليه معينا، ونفع عموم المسلمين وتحقيق مصالحهم إن كان الوقف على جهة.
وما كان هذا شأنه فلا حاجة إلى التروي فيه، ومن هنا فلا
(1) إعلام الموقعين 3/ 96، 97.