الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
شيدت لطلبة العلم، ونزل للحجاج، والمجاورين، وغير ذلك من أعمال البر والرعاية، وإني لأعتقد جازما أن جميع ما كان ملتفا حول المسجد من مبان ودور كانت كلها أو جلها من الأوقاف التي خصصت للعناية بالعلم وطلبته. . .) (1).
وهذه الصورة من صور الاهتمام بالمدارس القرآنية في مكة المكرمة تماثلها تماما بقية البلاد الإسلامية، ويمكن الاستشهاد على صحة هذا بما كتبه العلامة المحقق الأستاذ محمد صلاح الدين منجد تنويها بسخاء الواقفين على المدارس القرآنية بدمشق، وإشادة بمكرماتهم، وتجسيدا لعطائهم، حيث يقول:(وقد وقف أولئك جميعا على هذه المدارس المتعددة المختلفة أوقافا وافرة من الأموال، والقرى، والضياع، والبساتين، والحوانيت، والخانات، والقاعات حتى أصبحت دمشق وأرباضها أوقافا لهذه المدارس المبثوثة في كل حي من أحيائها، بل في كل درب من دروبها، فكانت هذه الأوقاف تدر المال عليها، وترغب الطلاب في التعلم بها، والشيوخ في التعليم بها، لا يشغل بالهم أمر الدنيا، وطلب المعاش)(2).
(1) مكة المكرمة في القرن الرابع عشر الهجري، ص 99.
(2)
دور القرآن في دمشق، ص 6.
المطلب الثاني: الوقف على القراء
من مظاهر هذا الاهتمام نسخ القرآن بأيديهم، ومن ثم
إهداؤه إلى البلاد المقدسة: مكة المكرمة، والمدينة المنورة، وبيت المقدس، ليس هذا فحسب بل إنهم يوقفون العقارات، ويقدمون المكافآت السخية للقراء والمدرسين، والمهتمين بتعليم القرآن وتعلمه.
ومكة المكرمة مهبط الوحي، جديرة بأن تهتم معاهدها ومؤسساتها بالقرآن ودارسيه، ولهذا لم يفت الخلفاء، والملوك، والسلاطين هذا المعنى، فكانوا يتسابقون إلى بناء المدارس القرآنية وغيرها، وتشجيع القائمين عليها من القراء، والمعلمين، والفقهاء، وفي العهد القريب لمس المسلمون مزيد اهتمام الخلفاء العثمانيين، وكثرة القيام بخدمة الحرمين الشريفين، والبلدين المنيفين، والاعتناء بمصالحهما، وما يتعلق بهما، ويكثرون ذكرهما، ويبجلون أهلهما، وقد سجل التاريخ لهم من هذا مكرمات رفيعة، كان هذا شأن من قبلهم ومن بعدهم ممن كانت لهم ولاية على الحرمين الشريفين. وفيما يلي صور من عناية السلاطين المسلمين بالقرآن الكريم نسخا بأيديهم، وتحبيس الضياع والعقارات على القراء، وتلاوة القرآن الكريم في مكة المكرمة:
فقد سجل التاريخ نماذج عديدة للملوك وسلاطين المسلمين وأمرائهم صفحات مشرقة، صريحة في اعتنائهم بالقرآن الكريم، واهتمامهم به.
ففي سنة 738 هـ بعث السلطان أبو الحسن علي بن عثمان
بن يعقوب صاحب فاس إلى مكة مصحفا كتبه بخطه، وأخرج من خزائنه أموالا عينها على شراء الضياع بالمشرق؛ لتكون وقفا على القراء فيها.
قال الشيخ أحمد بن خالد الناصري السلاوي في كتاب الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى: (انتسخ السلطان أبو الحسن نسخة من المصحف الكريم بيده ليوقفه بالحرم الشريف حرم مكة؛ قربة إلى الله تعالى وابتغاء للمثوبة، وجمع الوراقين لتنميقها وتذهيبها، والقراء لضبطها وتهذيبها، وصنع لها وعاء مؤلفا من الآبنوس والعاج والصندل فائق الصنعة، وغشي بصفائح الذهب، ورصع بالجوهر والياقوت، واتخذ له أصونة الجلد، ومن فوقها غلائف الحرير والديباج وأغشية الكتان، وأخرج من خزائنه أموالا عينها لشراء الضياع بالمشرق؛ لتكون وقفا على القراء فيها)(1).
(ثم انتسخ السلطان أبو الحسن نسخة أخرى من المصحف الكريم على القانون الأول، ووقفها على القراء بالمدينة، وبعث بها من تخيره لذلك العهد من أهل دولته سنة أربعين وسبعمائة، وفعل مثل ذلك بحرم بيت المقدس.
قال العلامة أبو العباس المقري في نفح الطيب: كان السلطان أبو الحسن المديني قد كتب ثلاثة مصاحف شريفة بخطه، وأرسلها إلى
(1) إفادة الأنام، 3/ 6.
المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، ووقف عليها أوقافا جليلة) (1).
ومن هذه النماذج الرفيعة في العناية بالأوقاف في خدمة القرآن الكريم أوقاف السلطان مظفر شاه الكجراتي على القراء بمكة المكرمة في مدرسة شاهية المظفر، فقد كتب المصحف الشريف بخط يده ثم أودعه في المدرسة المظفرية، وبيان ذلك:
أنه في عام 925 هـ اشترى وكيل السلطان مظفر شاه الكجراتي بمكة المكرمة بيوتا عديدة بلغت قيمة جميعها ستة آلاف ومائتين وخمسين دينارا، وأوقفها على القراء في مدرسة شاهية المظفر.
وبعث السلطان مظفر شاه الكجراتي بنسخة المصحف الشريف التي نسخها بيده مع وفد رفيع المستوى من رجال دولته، وما إن وصل خبر وصول مراكب الهند إلى جدة وفيهم وفد السلطان حتى فرح الناس فرحا شديدا، واحتفل بمقدمهم في ثاني يوم دخولهم، ونزل حاملا على رأسه المصحف الشريف الذي وصل به، بخط السلطان مظفر شاه صاحب الصدقة العظيمة. . . وأمر بوضع المصحف في المسجد الحرام.
يقول العلامة جار الله بن العز بن فهد: (وأما الصدقة الواصلة صحبتهم فهي عظيمة لم يسبق صاحبها، وهي كل لك (2)
(1) إفادة الأنام، 3/ 69.
(2)
اللك معناه مائة ألف، وجمعه لكوك، وهو تعريب (لاكه) بالهندية، والأشرفي: اسم عملة ذهبية.