الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
/إحدى ومائتين فيها عهد المأمون إلى علي بن موسى الرضا العلوي بالخلافة من بعده، وأمر الدولة بترك السواد، ولبس الخضرة، وأرسل إلى العراق بهذا، فعظم على بني العباس الذي ببغداد، ثم خرجوا عليه، وأقاموا منصور بن المهدي، ولقبوه بالمرتضى، وسيأتي ذكر ذلك، مع غيره في تاريخ موت علي بن موسى المذكور، في سنة ثلاث ومائتين إن شاء الله تعالى.
وفي السنة المذكورة أعني الأولى بعد المائتين أول ظهور بابك الخرمي، من الفرق الباطنية الزنادقة، فعاث وأفسد، وكان يقول بتناسخ الأرواح.
وفيها توفي حماد بن أسامة الكوفي الحافظ مولى بني هاشم، قال أحمد: ما كان أثبت، لا يكاد يخطىء، روى عن الأعمش والكبار.
وفيها توفي أبو الحسن الواسطي محدث واسط، روى عن الحسين بن عبد الرحمن، وعطاء بن السائب والكبار، وكان يحضر مجلسه ثلاثون ألفاً، فقال وكيع: أدركت الناس، والحلقة لعلي بن عاصم بواسط. وقال بعض المؤرخين: كان إماماً ورعاً صالحاً جليل القدر، وضعفه غير واحد لسوء حفظه.
اثنتين ومائتين
فيها توفي الإمام المقرىء النحوي اللغوي صاحب التصانيف الأدبية يحيى بن المبارك العدوي المعروف باليزيدي،، لصحبته يزيد بن منصور خال المهدي. كان نحوياً لغوياً شاعراً فصيحاً، أخذ عن الخليل من الغريب واللغة، وكتب عنه العروض، وله " كتاب النوارد في اللغة " ودخل مكة في رجب، فأقبل على العبادة والاجتهاد والصدقة الكثيرة، وقد حدث بها عن أبي عمرو بن العلاء وابن جريج.
وروى عنه محمد ابنه، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وإسحاق بن إبراهيم الموصلي،
وجماعة من أولاده، وأبو عمر الدوري، وأبو شعيب السوسي، وأبو حمدون الطيب بن إسماعيل، وأبو خلاد سليمان بن خلآد وغيرهم.
وخالف أبا عمرو في حروف يسيرة من القرآن، وكان يؤدب أولاد يزيد بن منصور خال المهدي، وإليه كان ينسب كما تقدم، ثم اتصل بهارون الرشيد، فجعل ولده المأمون حجره،. فكان يؤدبه، وكان ثقة، وهو أحد الفصحاء العالمين بلغات العرب، وله التصانيف الحسنة والنظم الجيد.
وأخذ علم العربية وأخبار الناس عن أبي عمرو الخليل بن أحمد كما مر، ومن كان معاصرهما، وكان يجلس في أيام الرشيد مع الكسائي في مجلس واحد، ويقرآن الناس، أن الكسائي يؤدب الأمين، ويأخذ عليه حرف حمزة، وهو يؤدب المأمون، ويأخذ عليه حرف أبي عمر، وقال: وجه إليه يوماً بعض خدمه فأبطأ عليه، فوجه إليه آخر فكذلك، قال: فقلت إن هذا الفتى ربما اشتغل بالبطالة.
فلما خرج مرت بحلة، وقومته، أو كما قال لتدلك عينه من البكاء، إذ قيل: هذا جعفر بن يحيى قد أقبل، فأخذ منه منديلاً فمسح عينيه، وجمع ثيابه عليه، وقام إلى فراشه، مد عليه متربعاً، ثم قبل ليدخل فدخل، وقمت عن المجلس، وخفت أن يشكوني إليه، فألقى منه ما أكره. قال: فأقبل عليه بوجهه، وحدثه حتى أضحكه، وضحك إليه.
فلما هم بالحركة دعا بدابتة، وأمر غلمانه فسعوا بين يديه، ثم سأل عني فجئت، فقال: خذ على ما بقي من حزبي، فقلت: يا أيها الأمير أطال الله بقاءك لقد خفت أن تشكوني إلى جعفر، فقال: حاشا لله، أتراني يا أبا محمد كنت أطلع الرشيد على هذا. فكيف بجعفر يطلع على أني محتاج إلى الأدب؟ يغفر الله لك، لقد بعد ظنك، خذ في أمرك، فقد خطر ببالك ما لا يكون أبداً، ولو عدت في كل يوم مائة مرة.
وحكى المرزباني وغيره قالوا: سأل المأمون اليزيدي عن شيء فقال: لا، وجعلني الله فداك يا أمير المؤمنين، فقال: لله درك، ما وضعت واواً قط موضعاً أحسن من موضعها في لفظها. انتهى.
قلت: وإنما حسن وضع الواو في لفظه المذكور، لأنه لو حذفها منه لاستحق بذلك الأدب من الملوك، بل القتل، لأنه حينئذ يكون نافياً لجعله فداء له، وإثباتها يثبت جعله فداء نفسه الكريمة مقدماً بقاءه على بقاء نفسه عند نزول النوائب، وذلك من أعظم الآداب وأحسن التخاطب.
وقال بعضهم: دخل اليزيدي يوماً على الخليل بن أحمد، وهو جالس على وسادة، فأوسع له وأجلسه معه، فقال له اليزيدي: أحسبني ضيقت عليك، فقال الخليل: ما ضاق موضع على متحابين، والدنيا لا تسع متباغضين.
وقال اليزيدي: دخلت على المأمون والحنيا غضة وعنده " نعم " تغنيه، وكانت من أجمل أهل دهرها، فأنشدت.
وزعمت أني ظالم فهجرتني
…
ورميت في قلبي بسهم نافذ
فنعم هجرتك فاغفري وتجاوزي
…
هذا مقام المستجير العائذ
ولقد أخذتم من فؤادي أنسه
…
لا مثل ربي كف ذاك الآخذ
فاستعادها المأمون الصوت ثلاث مرات، ثم قال: يا يزيدي، أيكون شيء أحسن مما نحن فيه؟. قلت: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: وما هو؟ قلت: الشكر لمن خولك هذا الإنعام العظيم فقال: أحسنت وصدقت. ووصلني وأمر بمائة ألف درهم يتصدق بها، وحكي: أنه وقع بين اليزيدي والكسائي تنازع في هذا البيت:
لا يكون العير مهراً
…
لا يكون المهر مهر
فقال الكسائي: يجب أن يكون مهراً منصوباً على أنه خبر كان، ففي البيت على التقدير أقوال، وقد علم كون حرف الروي فيما قبله مرفوعاً، فقال اليزيدي: الرفع صواب، لأن الكلام قد تم عند قوله: لا يكون الثانية، وهي مؤكدة للأولى ثم استأنف وقال: المهر مهر، وضرب بقلنسوته الأرض، وقال: أنا أبو محمد، فقيل له: اتكتني بحضرة أمير المؤمنين. والله إن خطأ الكسائي مع حسن أدبه، لأحسن من صوابك مع سوء أدبك. فقال: إن حلاوة الظفر أذهب عني حسن التحفظ.
وفيها: توفي الفضل بن سهل وزير المأمون أبو العباس السرخسي أخو الحسن بن سهل وعم بوران التي تزوجها المأمون، قالوا: لما وزر للمأمون، استولى عليه حتى ضايقه في جارية أراد شراءها، وكانت فيه فضائل. وتلقب بذي الرياستين، وكان من أخبر الناس بعلم النجوم وأكبرهم إصابة في أحكامه فيها.
حكى أبو الحسين السلامي في تاريخ ولاة الخراسان أنه لما عزم المأمون على إرسال
طاهر بن الحسين إلى محاربة أخيه الأمين، نظر الفضل بن سهل في مسألته، فوجد الدليل في وسط السماء،. وكان ذا عينين، فأخبر المأمون بأن طاهراً يظفر بالأمين. وتلقب بذي اليمينين، فكان الأمر كذلك. فتعجب المأمون من إصابة الفضل، ولفب طاهراً بذلك. وولع المأمون بالنظر في علم النجوم، قال السلامي: ومما أصاب الفصل بن سهل فيه من أحكام النجوم، أنه اختار للطاهر بن الحسين حين سمي للخروج إلى الأمين وقتاً عقد فيه لواء، فسلمه إليه ثم قال له: لقد عقدت لك لواء لا يحل خمساً وستين سنة. وكان بين خروج طاهر بن الحسين إلى وجه علي بن عيسى بن هامان مقدم جيش الأمين وقبض يعقوب بن الليث بنيسابور، خمساً وستين سنة.
ومن إصاباته أيضاً ما حكم به على نفسه. وذلك أن المأمون طالب والدة الفضل بما خلفه، فحملت إليه سكة مختومة مقفلة، ففتح قفلها فإذا صندوق صغير مختوم، فإذا فيه درج، وفي الدرج رقعة حرير مكتوب فيها: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قضى الفضل بن سهل على نفسه، قضى أنه يعيش ثمان وأربعين سنة، ثم يقتل بين ماء ونار، فعاش هذه المدة ثم قتله غالب " خال المأمون " في حمام بسرخس كما سيأتي إن شاء الله تعالى وله غير ذلك إصابات كثيرة.
ويحكى أنه قال يوماً لثمامة بن الأشرس: ما أدري ما أصنع في طلاب الحاجات، فقد كثروا علي وأضجروني. فقال له: زل عن موضعك، وعلي أن لا يلقاك أحد منهم، قال: صدقت. وانتصب لقضاء أشغالهم. وكان قد مرض بخراسان، وأشفى على التلف. فلما أصاب العافية، جلس للناس، فدخلوا عليه، وهشوا بالسلامة، وتصرفوا في الكلام، فلما فرغوا من كلامهم، أقبل على الناس وقال: إن في العلل لنعماً، لا ينبغي للعاقل أن يجهلها بمحيص الذنوب والتعرض لثواب الصبر، والإيقاظ من الغفلة، والإذكار بالنعمة في حال الصحة، واستدعاء التوبة، والحض على الصدقة، وقد مدحه جماعة من أعيان الشعراء، وفيه يقول بعضهم، وقيل ابن أيوب التيمي:
لعمرك ما الأشراف في كل بلدة
…
وإن عظموا للفضل إلا ضائع
ترى عظماء الناس للفضل خشعاً
…
إذا ما بدا والفضل لله خاشع
تواضع لما زاده الله رفعة
…
وكل جليل عنده متواضع
وقال فيه مسلم بن وليد الأنصاري من جملة قصيدة: