الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويقال أنه اكتحل بكذا وكذا من الملح لعتاد السهر، وكان يبالغ في تعليم الشرع، وإذا دخل رمضان جد في الطاعات ويقول: هذا شهر عظمه ربي عز وجل، فأنا أولى بتعظيمه.
ودخل يوماً على شيخه الجنيد، فوقف بين يديه، وصفق بيديه وأنشد:
عودوني الوصال والوصل عذب
…
ورموني بالضد والضد أصعب
زعموا حين عاتبوا أن ذنبي
…
قر طبعي لهم وما ذاك أذنب
ألا وحق الخضوع عند التلاقي
…
ما جزاء من يحب إلا يجب
فقال الجنيد: نعم يا أبا بكر. وكانت امرأة الجنيد عنده حاضرة، فأرادت أن تشتري منه، فقال لها الجنيد: لا عليك، وهو غائب لا يراك. ثم بكى بعد إنشاده فقال الجنيد: اشتري منه الآن فقد حضر.
وقال بعضهم: دخلت على الشبلي يوماً في داره، وهو يصيح ويقول: على بعدك لا يصبر من عادته القرب، ولا يقوى على هجرك من يتمه الحب، فإن لم ترك العين فقد أبصرك القلب.
وقال الشبلي: رأيت معتوهاً عند جامع الرصافة يقول: أنا مجنون، أنا مجنون، فقلت له: لم لا تصلي. فأنشأ يقول:
يقولون زرنا واقض واجب حقنا
…
وقد أسقطت حالي حقوقهم عني
إذا هم رأوا حالي فلم يأنفوا لها
…
ولم يأنفوا منها أنفت لهم مني
وقال بعضهم: دخلت على الشبلي، فرأيته ينتف شعر حاجبه بالملقاط، فقلت له: سيدي، إنك تفعل هذا، وألمه يعود إلي، فقال: ظهرت لي الحقيقة فلم أستطع حملها، فإذا دخل على نفسي الألم لكي يستتر عني، فلا وجدت الألم، ولا هي استترت عني، ولا أنا أطيق حملها. وكان أبوه من حجاب الدولة، وله مقالات وحكايات وعجيبات، ذكرت شيئاً منها في غير هذا الكتاب.
وقد سأله بعض الفقهاء عن مسألة في الحيض امتحاناً فأجابه، وذكر فيها ثمانية عشر قولاً للعلماء، وكان قد أراد تخجيله وإظهار جهله في مجلسه بين الخلق، لكون خلقتهم بطلت باجتماع الناس على الشبلي، ولم يكن عند ذلك الفقيه من الأقوال المذكورة سوى ثلاثة.
خمس وثلاثين وثلاث مائة
فيها تملك سيف الدولة دمشق بعد موت الإخشيذ، فحاربه به جيوش مصر، فدفعته
إلى " الرقة " بعد حروب وأمور واصطلح معز الدولة بن بويه، وناصر الدولة بن حمدان.
وفيها توفي الفقيه الإمام أبو العباس ابن القاص الطبري الشافعي، وله مصنفات مشهورة، تفقه على الإمام أبي العباس بن سريج.
وفيها توفي العلامة الأخباري الأديب، صاحب التصانيف محمد بن يحيى البغدادي الصولي الشطرنجي، قال ابن خلكان: كان أحد الأدباء الفضلاء المشاهير، روى عن أبي داود السجستاني، وأبي العباس ثعلب والمبرد وغيرهم.
وروى عنه الإمام الحافظ أبو الحسن الدارقطني، والإمام أبو عبد الله المرزباني وغيرهما ونادم المكتفي ثم المقتدر ثم الراضي، وكان أغلب فنونه أخبار الناس، وله رواية واسعة ومحفوظات كثيرة، وكان حسن الإعتقاد، جميل الطريقة، مقبول القول، وكان أوحد وقته في لعب الشطرنج، لم يكن في عصره مثله في معرفته، والناس الأن يضربون به المثل، فيقولون لمن يبالغون في حسن لعبه: فلان يلعب الشطرنج مثل الصولي.
قال ابن خلكان: ورأيت خلقاً كثيراً يعتقدون أن الصولي هو الذي وضع الشطرنج وهو غلط، فإن الذي وضعه " صصه " بالصاد المهملة المكررة بكسر الأولى منها وفتح الثانية وتشديدها وسكون الهاء في آخره ابن داهر الهندي، وضعه للملك " شيرام " بكسر الشين المعجمة وسكون الياء المثناة من تحتها والراء المكررة بعد الياء والميم، وكان " أزدشير " يفتح الهمزة والدال وسكون الراء بينهما وكسر الشين المعجمة وسكون المثناة من تحت وفي آخره راء، ابن بابك أول ملوك الفرس الأخيرة، قد وضع " النرد "، ولذلك قيل له " النردير " نسبة إلى واضعه المذكور، وجعله مثلا للدنيا وأهلها، فرتب الرقعة اثني عشر بعدد شهور السنة، وجعل القطع ثلاثين قطعة بعدد أيام كل شهر، وجعل الفصوص مثل القدر، ويقبله أهل الدنيا فالكلام في هذا يطول ويخرج عما نحن بصدده، فافتخرت الفرس بوضع النرد على ملك الهند، وكان ملك الهند يومئذ بلهيت " بفتح الموحدة وسكون اللام وفتح الهاء وسكون المثناة من تحت وبعدها مثناة من فوق على ما ضبطه بعض الناسخين " والله أعلم بصحة ذلك.
قلت: واسم الملك المذكور مخالف لما تقدم، من أن اسم الملك الذي وضع له شيرام، ويحتمل أن يكون أحد اللفظين إسماً له، والآخر لقباً. فلما وضع الشطرنج المذكور
قضت حكماء ذلك العصر بترجيحه على النرد، ويقال أن " صصه " لما وضعه وعرضه على الملك المذكور أعجبه، وفرح به كثيراً، وأمر أن يكون في بيت الديانات، ورآها أفضل ما عمل، لأنها آلة الحرب، وعز الدين والدنيا، وأساس لكل عدل، وأظهر الشكر والسرور على ما أنعم عليه في ملكه بها. وقال لصصه: اقترح علي ما تشتهي، فقال: اقترحت أن تضع حبة بر في البيت الأول، ولا تزال تضعفها في كل بيت حتى تنتهي إلى آخرها، فمهما بلغ تعطيني. فاستصغر الملك ذلك، وأنكر عليه كونه قابله بالبر واليسير التافه الحقير، وكان قد أضمر له شيئاً كثيراً فقال: ما أريد إلآ هذا، وأصر على ذلك، فأجابه إلى مطلوبه، وتقدم له به، فلما قيل لأرباب الديوان أحسبوه قالوا: ما عندنا حب يفي بهذا، ولا بما يقاربه. فلما قيل للملك ذلك استنكر هذه المقالة، وأحضر أرباب الديوان، وسألهم فقالوا: لو جمع كل حب من البر في الدنيا، ما بلغ هذا القدر، فتعجب من مقالهم، وطالبهم بإقامة البرهان على ذلك، فقعدوا وحسبوه، وظهر لي صدق قولهم، فقال الملك: لصصه: أنت في اقتراحك ما اقترحت أعجب حالاً من وضعك الشطرنج.
قال ابن خلكان: وطريق هذا التضعيف أن يضع الحاسب في البيت الأول حبة، وفي الثاني حبتين، وفي الثالث أربع حبات، وفي الرابع ثماني حبات، وهكذا إلى آخره، فكلما انتقل إلى بيت أضعف ما قبله، وأثبته فيه. قال: ولقد كان في نفسي شيء من هذه المبالغه حتى اجتمع لي بعض حساب الإسكندرية، وذكر لي طريقاً يتبين صحة ما ذكروه، وأحضر لي ورقة بصورة ذلك، وهو أنه ضاعف الأعداد إلى البيت السادس عشر، وأثبت فيه وثلاثين ألفاً وسبع مائة وثماني وستين حبة، وقال: يجعل هذه الجملة مقدار قدح، قال: فغيرناها، فكانت كذلك، والعهدة عليه في هذا النقل، ثم ضاعف القدح في أبي السابع عشر، وهكذا حتى بلغ بيته في البيت العشرين، ثم انتقل إلى الوبيات ومنها إلى الأرادب، ولم يزل يضاعفها حتى انتهت في الأربعين إلى مائة ألف أردب، وأربعة وسبعين ألف أردب وسبع مائة واثنتين وستين أردباً وثلاثين أردباً. وقال: يجعل هذه الجملة في شونة، فقال: يجعل هذه مدينة، فإن المدينة لا يكون فيها أكثر من هذه الشون، وأي مدينة يكون فيها هذه الجملة من الشون؟. ثم ضاعف المدن حتى انتهت إلى بيت الرابع والستين، وهو آخر أبياته، دفعه الشطرنج إلى ستة عشر ألف مدينة وثلاثمائة وأربع وثمانين مدينة، وقال: نعلم أن ليس في الدنيا مدن أكثر من هذا العدد، فإن دور كرة الأرض معلوم بطريق الهندسة، وهو ثمانية آلاف فرسخ، بحيث لو وضعنا طرف حبل على أي موضع كان من الأرض وأدرنا الحبل على كرة الأرض، حتى، انتهينا بطرف الآخبر إلى ذلك الموضع
الأرض، والتقى طرف الحبل، فإذا مسحنا ذلك الحبل كان طوله أربعة وعشرين ألف ميل، وهي ثمانية آلاف. قال: وذلك قطعي لا شك فيه.
وقد أراد المأمون أن يقف على حقيقة ذلك، وكان معروفاً بعلوم الأوائل وتحقيقها
ورأى فيها أن دور كرة الأرض عشرون ألف ميل. فسأل بني موسى بن شاكر - وكانوا قد اجتهدوا في معرفة علم الهندسة وغيرها من علم الأوائل - فقالوا: نعم، هذا قطعي، فقال: أريد منكم أن تعلموا الطريق الذي ذكره المتقدمون، حتى يبصر هل ينجز ذلك أم لا. فسألوا عن الأراضي المتساوي البلاد فقيل لهم: صحراء سنجار في غاية الاستواء، وكذلك وطأة الكوفة، فأخذوا معهم جماعة ممن يثق المأمون إلى أقوالهم، ويركن إلى معرفتهم بهذه الصناعة، وخرجوا إلى صحراء سنجار، فوقفوا في موضع منها، وأخذوا ارتفاع القطب الشمالي ببعض الآلات، وضربوا في ذلك الموضع وتداً، وربطوا فيه حبلاً طويلاً، ثم مشوا إلى الجهة الشمالية على الاستواء من غير انحراف. إلى يمين أو شمال، بحسب الإمكان، فلما فرغ الحبل نصبوا في الأرض وتداً آخر، وربطوا فيه حبلاً آخر، ومشوا إلى جهة الشمال أيضاً كفعلهم الأول، ولم يزل دأبهم ذلك، كلما فرغ الحبل ضربوا وتداً، وربطوا فيه طرف ذلك الحبل الذي فرغ، وطرف حبل آخر، ومشوا إلى جهة الشمال حتى انتهوا إلى موضع، أخذوا فيه ارتفاع القطب المذكور، فوجدوا قد زاد عن الارتفاع الأول درجة. فمسحوا ذلك القدر الذي قدروه من الأرض بالحبال، فبلغ ستة وستين ميلاً وثلثي ميل.
ومن المعلوم أن عدد درج الفلك ثلاثمائة وستون درجة، لأن الفلك مقسوم باثني عشر برجاً، كل برج ثلاثون درجة، فضربوا عدد درج الفلك الثلاث مائة والستين، في ستة وستين ميلاً وثلثين التي هي حصة كل درجة، فكانت الجملة أربعة وعشرين ألف ميل، وهي ثمانية آلاف فرسخ، وهذا محقق لا شك فيه، فلما عاد بنو موسى إلى المأمون، وأخبروه بما صنعوا وكان موافقاً لما رآه في الكتب القديمة من استخراج الأوائل طلب تحقيق ذلك في موضع آخر أيضاً، فصيرهم إلى أرض الكوفة، ففعلوا فيها كما فعلوا في سنجار، فتوافق الحسابان، فعلم المأمون صحة ما حرره القدماء في ذلك. انتهى كلام ابن خلكان في ذكر مساحة دور كرة الأرض.
قلت: فعلى هذا يكون دور كرة الأرض مسيرة ألف مرحلة، وذلك مسيرة ثلاث سنين إلا ثمانين يوماً في مسير النهار دون الليل، أو الليل دون النهار، لأن المرحلة ثماني فراسخ، والفرسخ ثلاثة أميال، كما هو معلوم في حساب مسافة القصر الشرعية. ولكن هذا ينافي ما قد اشتهر أن الأرض مسيرة خمسمائة سنة، مع أن طول الشيء أقل من دوره، وتعلم من
ذلك أيضاً أن في كل ثلاث مراحل إلا خمسة أميال وثلث في السير إلى جهة الشمال يرتفع القطب درجة، ويكون عرض البلد الذي انتهى إليها زائداً بدرجة على عرض التي ابتدأ بالسير منها، بالثلاث المراحل المذكورة، إذ كانت المرحلة أربعاً وعشرين ميلاً، كما قدروها في مسافة القصر.
ومما يدلك على صحة هذا، أن عرض " المدينة المشرفة " تزيد على عرض مكة المعظمة بثلاث درج، والله أعلم. وهذا لعمري يخالف ما قيل في أثر، وورد في الخبر أن الأرض مسيرة خمسمائة عام، والله سبحانه العلام.
رجعنا إلى كلام ابن خلكان وقال: يعلم ما في الأرض من المعمور، وهو قدر ربع الكرة بطريق التقريب، وقد انتشر الكلام، وخرجنا عن المقصود، ولكنه ما خلا عن فائدة أحببت إثباتها، ليقف عليها من يستنكر ما قالوه في تضعيف الخبر المذكور في رقعة الشطرنج، يعني أنه يبلغ قدره إلى ما ذكر، وإن كان ذلك مما يستنكر.
ثم قال: ولنرجع إلى حديث الصولي: حكى المسعودي في كتاب مروج الذهب قال: وقد ذكر أن الصولي في بدء دخوله على الإمام المكتفي لعب مع الماوردي بالشطرنج، وكان الماوردي متقدماً عند المكتفي، متمكناً من قبل، معجباً به للعب، فلما لعبا جميعاً بحضرة المكتفي حمد المكتفي حسن رأيه في الماوردي، وتقدم الحرمة والألفة على نصرته وتشجيعه وتنبيهه، حتى أدهش ذلك الصولي في أول وهلة، فلما اتصل اللعب بينهما، وجمع له الصولي هذه وقصده بكليته، غلبه غلبة لا يكاد يرد عليه شيئاً، وتبين حسن لعب الصولي للمكتفي، فعدل عن هواه ونصرته للماوردي، وقال له عاد ماء وردك بولاً.
قال ابن خلكان: وأخبار الصولي، وما جرى له أكثر من أن تحصى، ومع فضائله والاتفاق على تفننه في العلوم، وخلاعته وظرافته، ما خلا من منتقص هجاه هجواً لطيفاً، وهو أبو سعيد العقيلي بضم العين المهملة وفتح القات فإنه رأي له بيتاً مملوءاً كتباً، قد صنفها، وجلودها مختلفة الألوان، وكان يقول: هذه كلها سماعي وإذا احتاج إلى معاودة شيء منها قال: يا غلام هات الكتاب الفلاني، فقال أبو سعيد المذكور هذه الأبيات:
إنما الصولي شيخ
…
أعلم الناس خزانة
إن سألناه بعلم
…
طلب منه إبانة