الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وتولى هو بعد البرامكه وزاره الرشيد، وفي ذلك يقول أبو نواس:
ما دعى الدهر آل برمك لما
…
أن رمى ملكهم بأمر فظيع
إن دهراً لم يرع عهداً ليحيى
…
غير راع ذمام آل ربيع
ومات الرشيد، والفضل مستمر على وزارته، فكتب إليه أبو نواس يعزيه بالرشيد ويهنئة بولاية ولده الأمين:
تعز أبا العباس عن خير هالك
…
بأكرم حي كان، أو هو كائن
حوادث أيام، يدور صروفها
…
لهن مساوي مرة ومحاسن
وفي الحي بالميت الذي غيب الثرى
…
فلا أنت مغبون ولا الموت غابن
وفي السنة المذكورة توفيت السيدة الكريمه صاحبة المناقب الجسيمة نفيسة بنت الحسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهم، صاحبة المشهد الكبير المفخم الشهير بمصر، دخلت إليها مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه وعن الجميع، وقيل: بل مع أبيها الحسن، وكانت نفيسة من النساء الصالحات. ويروى أن الإمام الشافعي لما دخل مصر، حضر عندها، وسمع عنها الحديث، ولما توفي، أدخلت جنازته إليها، فصلت عليه في دارها، وكانت في موضع مشهدها اليوم، ولم تزل به إلى أن توفيت في شهر رمضان من السنة المذكورة، ولما ماتت عزم زوجها إسحاق بن جعفر على حملها إلى المدينة ليدفنها هناك، فسأله المصريون بقاءها عندهم، فدفنت في الموضع المعروف بها اليوم بين القاهرة ومصر، وكان يعرف ذلك المكان بدرب السباع، فخرب الدرب ولم يبق هناك سوى المشهد، وقبرها معروف مزور مشهور، قيل: الدعاء عنده مستجاب رضي الله تعالى عنها.
قلت: وقد قصدت زيارة مشهدها، فوجدت عنده عالماً من الرجال والنسوان والصحاح والعميان، ووجدت الناظر جالساً على الكرسي، ققام لي، وأنا لا أعرفه، فمضيت للزيارة، ولم ألتفت إليه، ثم بلغني أنه عتب علي، فأجبته بما معناه: إني غير راغب في الميل إلى أولي الحشمة والمناصب.
تسع ومائتين
فيها توفي عثمان بن عمر بن فارس العبدي البصري الرجل الصالح ويعلى بن
عبيد الطنافسي، والحسن بن موسى الأشيب بالشين المعجمة وبعدها مثناة من تحت ثم
وفي السنة المذكورة، وقيل في سنة إحدى عشرة، وقيل ثلاث عشرة، وقيل ست عشرة مائتين، توفي الإمام العلامة معمر بن المثنى التيمي، تيم قريش مولاهم أبو عبيدة. قال الحافظ: لم يكن في الأرض خارجي ولا جماعي أعلم بجميع العلوم منه، وقال ابن قتيبة في العوارف: كان الغريب وأخبار العرب وأيامها أغلب عليه، وكان مع معرفته، ربما لم يقم لبيت من الشعر، بل يكسره، وذكر فيه أشياء مما تقدح فيه، قال: وكان يرى رأي الخوارج.
وذكر غيره أن هارون الرشيد أقدمه من البصرة إلى بغداد سنة ثمان وثمانين ومائة، وقرأ عليه بها شيئاً من كتبه، وأسند الحديث إلى هشام بن عررة وغيره، وروى عن علي بن المغيرة، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو عثمان المازني، وأبو حاتم السجستاني، وعمر بن شعبة النميري وغيرهم، وقال أبو عبيدة: أرسل إلي الفضل بن الربيع إلى البصرة في الخروج إليه، فقدمت عليه، وكنت أخبر عن تحيره، فأذن لي، فدخلت عليه وهو في جلس طويل عريض، فيه بساط واحد قد ملىء وفي صدره فرش عالية لا يرتقى عليها إلا كرسي، وهو جالس على الفرش، فسلمت عليه بالوزارة، فرد وضحك إلي، واستدناني من فرشه، ثم سألني وبسطني وتلطف بي وقال: فأنشدني، فأنشدته من عيون أشعار جاهلية أحفظها، فقال: قد عرفت أكثر هذه، وأريد من مليح الشعر، فأنشدته، فطرب وضحك وزاد شاطاً، ثم دخل رجل في زي الكتاب، وله هيئة حسنة، فأجلسه إلى جانبي، وقال: أتعرف هذا؟ قلت: لا، فقال: هذا أبو عبيدة، علامة أهل البصرة، قدمنا لنستفيد من علمه، فدعا له لرجل، ثم التفت إلي وقال لي: كنت إليك مشتاقاً، وقد سألت عن مسألة، أفتأذن لي أن أعرفك إياها؟. قلت: هات، فقال: قال الله تعالى: " طلعها كأنه رؤوس الشياطين ":) الصافات: 65، (وإنما وقع الوعد والإيعاد بما قد عرف، وهذا لم يعرف، قال، فقلت: إنما كلم الله العرب على قدر كلامهم، أما سمعت قول امرىء القيس:
أتقتلني، والشر في مضاجعي
…
ومسنونه زرق كأنياب أغوال
وهم لم يروا الغول قط، ولكنه لما أمر الغول بهولهم أو عدوا به، فاستحسن الفضل والسائل في ذلك، وأزمعت منذ ذلك اليوم أن ضع كتاباً في القرآن لمثل هذا وأشباهه، وما يحتاج إليه من علمه، فلما رجعت إلى البصرة، عملت كتابي الذي سميته " المجاز "، وسألت عن الرجل، فقيل لي: هو من كتاب الوزير وجلسائه.
وبلغ أبا عبيدة أن الأصمعي يعيب عليه كتاب المجاز، وقال يتكلم في كتاب الله برأيه، فسأل عن مجلس الأصمعي، في أي يوم هو، فركب حماره في ذلك اليوم، ومر بحلقته، فنزل عن حماره وسلم عليه، وجلس عنده، وحادثه، ثم قال له: يا أبا سعيد ما تقول في الخبز، أي شيء هو. فقال: هو الذي نخبزه ونأكله، فقال أبو عبيدة: فقد فسرت كتاب الله برأيك، فإن الله تعالى قال حكاية " أحمل فوق رأسي خبزاً ") يوسف: 36، (فقال الأصمعي: هذا شيء بان لي فقلته، ولم أفسر برأي، فقال أبو عبيدة، والذي تغيب علينا كله شيء بان لنا فقلناه، ولم نفسره برأينا، وقام يركب حماره وانصرف.
وزعم الباهلي صاحب كتاب المعاني، أن طلبة العلم كانوا إذا أتوا مجلس الأصمعي، اشتروا البعر في سوق الدر، وإذا أتوا مجلس أبي عبيدة اشتروا الدر في سوق البعر، لأن الأصمعي كان حسن الإنشاد والزخرفة لردي الأخبار والأشعار، حتى يحسن عنده القبيح، والفائده عنده مع ذلك قليلة، وأن أبا عبيدة كان معه سوء عبارة مع فوائد كثيرة وعلوم جمة.
قال المبرد: كان أبو زيد الأنصاري أعلم من الأصمعي وأبي عبيدة بالنحو، وكانا بعده يتقاربان.
وكان أبو عبيدة كمل القوم، لا يحكي عن العرب إلا الشيء الصحيح، وحمل أبو عبيدة الأصمعي إلى مجلس هارون للمجالسة، فاختار الأصمعي لأنه كان أصلح للمنادمة. وقيل لأبي نواس: ما تقول في الأصمعي. فقال: بلبل في قفص، قيل: فما تقول في أبي عبيدة. قال: ذاك أديم وطغوى علم، قيل: فما تقول في خلف الأحمر؟ قال: جمع علوم الناس وفهمها.
ولما قدم أبو عبيده على موسى بن عبد الرحمن الهلالي، وطعم من طعامه، صب بعض الغلمان على ذيله مرقة، فقال موسى: قد أصاب ثوبك مرق، وأنا أعطيك عوضه عشرة ثياب، فقال أبو عبيدة: لا عليك، فإن مرقكم لا يؤذي، أي: ما فيه دهن، ففطن لها موسى وسكت.
وكان الأصمعي إذا أراد دخول المسجد قال: انظروا لا يكون فيه ذاك، يعني أبا عبيدة، خوفاً من لسانه، وقيل: كان مدخول النسب، مدخول الدين، يميل إلي مذهب الخوارج، وإلى بعض الأمور القبيحة والله أعلم، وكانت تصانيفه تقارب مائتي مصنف.