الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الطب، وكان يعرف لغة اليونانيين معرفة تامة، وهو الذي عرب كتاب إقليدس، ونقله من لغة اليونانيين إلى لغة العرب، ثم نقحه ثابت بن قرة، وهذبه كما تقدم في ترجمته، وكذلك كتاب المجسطي، وأكثر كتب الحكماء والأطباء كانت بلغة اليونانيين، فعربت، وكان حنين المذكور أشد اعتناء بتعريبها من غيره، وعرب غيره أيضاً بعض الكتب، ولولا ذلك التعريب لما انتفع أحد بتلك الكتب، لعدم المعرفة بلسان اليونان. لا جرم، كل كتاب لم يعربوه باق على حالا لا ينتفع به إلا من عرف تلك اللغة، وكان المأمون مغرياً بتعريبها وتحريرها وإصلاحها، ومن قبله جعفر البرمكي وجماعة أهل بيته أيضاً، لهم بها اعتناء. لكن عناية المأمون كانت أتم وأوفر، ولحنين المذكور مصنفات في الطب مفيدة. قال ابن خلكان: ورأيت في كتاب أخبار الأطباء أن حنيناً كان في كل يوم عند نزوله من الركوب يدخل الحمام، فيصب على رأسه الماء، ويخرج فيلتف قطيفة، ويشرب قدح شراب يعني من شراب الفساق ويأكل كعكة، ويتكىء حتى ينشف عرقه وربما نام ثم يقوم ويتبخر، ويقدم له طعام فروج كبير مسمن، قد طبخ بزبرباج، ورغيف وزنه مائتا درهم، فيحس من المرقة، ويأكل الفروج والخبز وينام. فإذا انتبه شرب أربعة أرطال شراباً عتيقاً يعني من الشراب المصحح للأبدان الهادم للأديان فإذا اشتهى الفاكهة الرطبة أكل التفاح الشامي والسفرجل، وكان ذلك دأبه إلى أن مات.
إحدى وستين ومائتين
فيها توفي الحافظ أحمد بن عبد الله بن صالح العجلي الكوفي، نزيل طرابلس المغرب صاحب التاريخ والجرح والتعديل.
وفيها توفي أبو شعيب السوسي صالح بن زياد مقرىء أهل الرقة وعالمهم، قرأ على يحيى اليزيدي، وروى عن عبد الله بن نمير وطائفة، وتصدر للإقراء، وحمل عنه طائفة.
وفيها توفي الشيخ الكبير الولي الشهير العارف بالله الخبير صاحب المقام العالي المشكور والحال الحالي المشهور أبو يزيد المسمى بطيفور بن عيسى، ذو الفضل السامي الفتى المعروف بالبسطامي، قيل له: بأي شيء وجدت هذه المعرفة؟ قال ببطن جائع، وبدن عار. وقيل: ما أشد ما لقيته في سبيل الله؟ فقال: لا يمكن وصفه. فقيل: ما أهون ما لقيت نفسك منك. فقال: أما هذا فنعم، دعوتها إلى شيء من الطاعات فلم تجب، فمنعتها الماء سنة. وكان يقول: لو نظرتم إلى رجل أعطى من الكرامات حتى يرتفع في الهوى، فلا تعتبروا به حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ الحدود وآداب الشريعة. وله مقالات علية، وكرامات سنية، ومجاهدات عظيمة، وشيم كريمة. توفي سنة إحدى، وقيل أربع وستين ومائتين.
وبسطام بفتح الموحدة وسكون السين وبالطاء المهملتين وبعد الألف ميم بلدة مشهورة من أعمال قومس. ويقال أنه أول بلاد خراسان من جهة العراق والله أعلم ومن جلالته وعظم هيبته قضية مشهورة مع الشاب الذي قال له أبو تراب: لو رأيت أبا يزيد وقد ذكرتها في غير هذا الكتاب ومختصرها أنه لما رآه وقد خرج من غيضة مات الشاب، فقال أبو تراب لأبي يزيد: قتلت صاحبنا. فقال: لا، بل كان صاحبكم صادقاً، وكان مستوراً عنه حاله، فلما رآنا تجلى له حاله في مرآتنا، فلم يطق حمل بطاقة فمات. فقال أبو يزيد: أقمت في الزهد ثلاثة أيام، زهدت في اليوم الأول في الدنيا، وزهدت في اليوم الثاني في الآخرة، وزهدت في اليوم الثالث فيما سوى الله تعالى.
وفي السنة المذكورة توفي الإمام الحافظ مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري، أحد أركان الحديث، وصاحب الصحيح وغيره. ومناقبه مشهورة، وسيرته مشكورة. رحل إلى العراق والحجاز والشام ومصر، وسمع يحيى بن يحيى النيسابوري، وأحمد بن حنبل. وإسحاق بن راهويه، وعبد الله بن مسلمة القعنبي وغيرهم، وقدم بغداد غير مرة، وروى عنه أهلها، وروي عنه أنه قال: صنفت هذا المسند الصحيح من ثلاثمائة ألف حديث مسموعة. وقد اختلف أئمة الحديث المتأخرون في تفضيل الصحيحين، فالأكثرون منهم فضلوا صحيح البخاري على صحيح مسلم، وبعضهم فضلوا صحيح مسلم، حتى قال أبو علي النيسابوري: ما تحت أديم السماء أصح من كتاب مسلم في علم الحديث. قلت: والمعروف أن كتاب البخاري أفقه، وكتاب مسلم أحسن سياقاً للروايات.
وقال الخطيب البغدادي: كان مسلم يناضل البخاري حتى أوحش ما بينه وبين محمد بن يحيى الذهلي بسببه، وقال أبو عبد الله محمد بن يعقوب الحافظ: لما استوطن البخاري بنيسابور أكثر مسلم من الإختلاف إليه، فلما وقع بين محمد بن يحيى والبخاري ما وقع في مسألة اللفظ نادى عليه، ومنع الناس من الإختلاف إليه حتى هجر وخرج من نيسابور. في تلك المحنة قطعه أكثر الناس غير مسلم، فإنه لم يتخلف عن زيارته، فأنهي إلى محمد بن يحيى أن مسلم بن الحجاج على مذهبه قديماً وحديثاً لم يرجع عنه. فقال: في مجلسه إلا من قال باللفظ: فلا يحل له أن يحضر مجلسنا. وأخذ مسلم الرداء فوق عمامته، وقام على رؤوس الناس، وخرج من مجلسه. وجمع كل ما كان كتب منه، وبعث به على ظهر حمال إلى باب محمد بن يحيى، فاستحكمت بذلك الوحشة، وتخفف عنه وعن زيارته.