الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الوراقين وكذب المؤلفين، فقال له أبو العيناء: فلم لا يكذب الوراقون عليك أيها الوزير؟ فكذبه الوزير، وعجب الحاضرون من إقدامه عليها. وشكا إلى الوزير عبيد الله بن سليمان سوء الحال فقال له: أليس قد كتبت إلى فلان من أمرك؟ قال: نعم، قد كتبت إلى رجل قد قصر من همته طول الفقر وذل الأسر ومعاناة الدهر، فأخفق سعي وخاب طلبي، فقال عبيد الله: أنت اخترته، فقال: وما علي أيها الوزير في ذلك، وقد اختار موسى من قومه سبعين رجلاً، فما كان فيهم رشد، واختار النبي صلى الله عليه وآله وسلم عبد الله بن أبي سرح كاتباً، فرجع إلى المشركين مرتداً واختار علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه أبا موسى الأشعري حاكماً له، فحكم عليه. وقوله: ذل الأسر يعني أنه أسره علي بن محمد صاحب الزنج بالبصرة، وسجنه فنقب السجن وهرب. ودخل أبو العيناء يوماً على الوزير أبي الصفر فقال: ما الذي أخرك عنا يا أبا العيناء. فقال: سرق حماري، قال: وكيف سرق " قال: لم أكن مع اللص فأخبرك، قال: فهل أتيتنا على غيره؟ فقال: أقعدني عن السير قلة يساري، وكرهت ذلة المكاري، ومنة العواري. وخاصم علوياً فقال العلوي: أتخاصمني وأنت تقول: اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد؟ فقال: لكنني أقول الطيبين الطاهرين ولست منهم.
ووقف عليه رجل من العامة فقال: من هذا؟ قال: رجل من بني آدم، فقال: مرحباً بك أطال الله بقاءك ما كنت أظن هذا النسل إلا قد انقطع. ومر بباب بعض من بغضه وهو مريض فقال لغلامه: كيف حاله. فقال: كما تحب، فقال: مالي لا أسمع الصراخ عليه وذكر له أن المتوكل قال: لولا أنه ضرير لنا دمناه، فقال: إن عفاني من روية الأهلة وقراءة نقش القصوص، فأنا أصلح للمنادمة. وقال له ابن مكرم يوماً يعرض به: كم عدة المكذبيين بالبصرة؟ فقال: مثل عدد البغائين ببغداد. وقال له المتوكل يوماً: ما تقول في دارنا هذه فقال: الناس بنوا الدار في الدنيا، وأنت بنيت الدار في دارك، فاستحسن كلامه.
ثلاث وثمانين ومائتين
فيها ظفر المعتضد برأس الخوارج هارون الشاري " بالشين المعجمة " وجيء به راكباً فيلاً، وزينت بغداد.
وفيها أمر المعتضد في سائر البلاد بتوريث ذوي الأرحام وإبطال دواوب المواريث في ذلك، وكثر الدعاء له. وكان قبل ذلك قد أبطل النيروز وقيد النيران وأمات
ستة المجوس.
وفيها توفي أبو العباس علي بن العباس المعروف بابن الرومي مولى عبيد الله بن عيسى بن أبي جعفر المنصور العباسي الشاعر المجيد المشهور صاحب النظم العجيب والتوليد الغريب، يغوص على المعاني النادرة، ويستخرجها من مكامنها، ويبرزها بأحسن صورة، ولا يترك المعنى حتى يستوفيه إلى آخره، ولا يبقي فيه بقية، وكان شعره غير مرتب، فرتبه أبو بكر الصولي على الحروف، وجمعه وراق بن عبدوس من جميع النسخ، فزاد على كل نسخة مما هو على الحروف وغيرها نحو ألف بيت، وله القصائد المطولة والمقاطيع البديعة، وله في الهجاء والمديح كل طريق ومليح، من ذلك قوله:
كم ضن بالمال أقوام وعندهم
…
وفر، وأعطى العطايا وهو يدان
أراكم ووجوهكم وسيوفكم
…
في الحادثات إذا دجون نجوم
منها معالم للهدى ومصالح
…
تجلو الدجى والأخريات رجوم
لما تؤذن الدنيا به من صروفها
…
يكون بكاء الطفل ساعة يولد
وإلا فما يبكيه منها وإنها
…
لأوسع مما كان فيه وأرغد
وله من المعاني البديعة قوله:
وإذا امرؤ مدح أمرأ لنواله
…
وأطال فيه فقد أراه هجاءه
لو لم يقدر فيه بعد المستقى
…
عند الورود لما أطال رشاءه
وكذلك قوله في ذم الخضاب:
إذا دام للمرء السواد فما خلت
…
شبيبة ظن السواد خضابا
فكيف يروم الشيخ أن خضابه
…
يظن سواداً أو يخال شبابا
قال بعض علماء الأدب: ما سبقه إلى هذا المعنى أحد. وله في بغداد وقد غاب عنها.
بلد صحبت به الشبيبة والصبا
…
ولبست ثوب العيش وهو جديد
فإذا تمثل في الضمير رأيته
…
وعليه أغصان الشباب تميد
وكان سبب موته في بغداد أن الوزير القاسم بن عبد الله وزير المعتضد كان يخاف من هجوه، فدس عليه ابن فراس، فأطعمه خشكنانة مسمومة، وهي في مجلسه، فلما أكلها أحس بالسم، فقال له الوزير: إلى أين تذهب. فقال إلى الموضع الذي بعثتني إليه. فقال:
سلم لي على والدي، فقال: ما طريقي على النار. فخرج من مجلسه وأتى منزله، وأياماً ثم مات. وكان الطبيب يتردد إليه ويعالجه بالأدوية النافعة للسم، فزعم أنه غلط عليه في بعض العقاقير.
قال إبراهيم بن محمد المعروف بنفطويه: رأيت ابن الرومي يجود بنفسه فقلت: ما حالك؟. فأنشد:
غلط الطبيب على غلط مورده
…
عجزت موارده عن الإصدار
والناس يلجون الطبيب وإنما
…
غلط الطبيب إصابة المقدار
وكان الوزير المذكور سفاكاً للدماء الصغير والكبير منه على وجل، لا يعرف أحد من أرباب الأموال منه نعمة، فلما توفي سنة إحدى وسبعين في خلافة المكتفي، وقد نيف الثلاثين، قال فيه عبد الله بن الحسين بن سعد.
شربنا عشية مات الوزير
…
سروراً ونشرب في ثالثه
فلا رحم الله تلك العظام
…
ولا بارك الله في وارثه
وفيها توفي قدوة السالكين، وحجة الله على العارفين، كريم المقامات وعظيم الكرامات، الولي الكبير المعظم الشهير أبو محمد سهل بن عبد الله التستري، قدس الله روحه، في شهر المحرم، وله نحو من ثمانين سنة، وله كلام جليل في السلوك والمواعظ وكان سبب سلوكه للطريق خاله محمد بن سوار، فإنه قال: كنت ابن ثلاث سنين، وكنت أقوم بالليل أنظر إلى صلاة خالي محمد بن سوار، وكان يقوم بالليل، وكان يقول: يا سهل اذهب ونم، فقد شغلت قلبي. وقال ليس يوماً خالي: ألا تذكر الله الذي خلقك؟. فقلت: كيف أذكر؟. فقال: قل بقلبك في الليل في فراشك ثلاث مرات من غير أن تحرك به لسان: الله معي، الله ناظري، الله شاهدي، فقلت ذلك عشر ليالي، ثم أعلمته فقال: قلها كل سبع مرات، فقلت ذلك، ثم أعلمته فقال: قلها كل يوم إحدى عشرة مرة. كذا قال بعضهم، وقال في الرسالة: قل في كل ليلة إحدى عشرة. وأرى هذا أصح وأنسب إذ الليل وقت الغفلة، والذكر فيه أفضل. قال: فقلت ذلك، فوقع في قلبي حلاوته. فلما كان بعد سنة قال لي: احفظ ما علمتك. ثم دم عليه إلى أن تدخل القبر، فإنه سينفعك في الدنيا والآخرة، قال: فلم يزل على ذلك سنين، فوجدت له حلاوة في سري، ثم قال لي يوماً خالي: كان الله معه وهو ناظره، وشاهده كيف يعصيه، إياك والمعصية. قال: فبعثوا بي إلى الكتاب فقلت: إني أخشى أن يفرق علي همي، ولكن شارطوا المعلم أني أذهب إليه ساعة، فأتعلم وأرجع. فحفظت القرآن وأنا ابن ست أو سبع، وكنت أصوم الدهر وقوتي خبز الشعير