الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أقمت خلافة، وأزلت أخرى
…
جليل ما أقمت، وما أزلتا
قالوا: ولما ثقل أمره على المأمون، دس عليه خاله غالباً، فدخل عليه الحمام بسرخس، ومعه جماعة فقتلوه مفاوضة، وذلك يوم الجمعة ثاني شعبان من السنة المذكورة، وقيل في التي تليها، وعمره أربعون، وقيل إحدى وأربعون سنة وخمسة أشهر والله أعلم ولما قتل مضى المأمون إلى والدته، ليعزيها، فقال لها: لا تأسي عليه، ولا تجزعي لفقده، فإن الله قد أخلف عليك مني ولداً به يقوم مقامه، فمهما كنت تنشطين إليه فيه، فلا تنصصي عني منه. فبكت ثم قالت: يا أمير المؤمنين، وكيف لا أحزن على ولد النسبي، ولد مثلك " وسرخس " المذكور بالسين المهملة مكررة قبل الراء وبعد الخاء المعجمة الساكنة مدينة بخراسان.
ثلاث ومائتين
فيها استوثقت الممالك للمأمون، وقدم بغداد في رمضان، من خراسان، واتخذها سكناً. وتوفي الإمام المقرىء الحافظ حسين بن علي الجعفي مولاهم الكوفي، روى عن الأعمش وجماعة، قال أحمد: ما رأيت أفضل منه ومن سعد بن عامر الضبعي، وقال يحيى بن يحيى النيسابوري: إن بقي أحد من الأبدال، فحسين الجعفي، وقال بعضهم: كان مع تقدمة في العلم رأساً في الزهد والعبادة.
وفيها: توفي زيد بن الحباب أبو الحسين الكوفي، كان حافظاً صاحب حديث، واسع الدخل، صابراً على الفقر والفاقة.
وفيها توفي محمد بن بشر العبدي الكوفي الحافظ، قال أبو داود: هو أحفظ ممن كان بالكوفة في وقته.
وفيها: توفي أبو أحمد الزبيري محمد بن عبد الله بن الزبير الأسدي مولاهم الكوفي، قال أبو حاتم: كان ثقة حافظاً عابداً مجتهداً.
وفيها توفي أبو جعفر محمد بن جعفر الصادق، الملقب بالديباج، مات
بجرجان، ونزل المأمون في لحده. وكان عاقلاً شجاعاً متنسكاً. كان الديباج يصوم يوماً ويفطر يوماً.
وفيها: توفي الإمام أبو الحسن النضر بن شميل المازني البصري. كان رأساً في الحديث واللغة والنحو، والفقه والغريب والشعر وأيام العرب، صاحب سنة. وهو من أصحاب الخليل بن أحمد. ذكره أبو عبيدة وقال: ضاقت المعيشة على النضر بن شميل البصري بالبصرة، فخرج يريد خراسان فتبعه من أهل البصرة نحو ثلاثة آلاف رجل، ما فيهم إلا محدث أو نحوي أو لغوي أو عروضي أو اخباري، فلما صار بالمربد، جلس فقال: يا أهل البصرة، يعز علي فراقكم، والله لو وجدت كل يوم كيلجة باقلاً ما فارقتكم. قال: فلم يكن فيهم أحد يتكلف ذلك، وسار حتى وصل خراسان، وجمع بها مالاً، وكانت إقامته بمرو ونظير ضيق المعيشة عنه على ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى في ترجمة القاضي عبد الوهاب المالكي، وضيق معيشته ببغداد، وانتقاله إلى مصر، سمع النضر بن هشام بن عروة واسماعيل بن أبي خالد، وحميد الطويل، وعبد الله بن عون، وهشام بن حسان، وغيرهم من التابعين.
وروى عنه يحيى بن معين، وعلي بن المديني، وكل من أدركه من أئمة عصره. ودخل نيسابور فسمع عليه أهلها، وله مع المأمون نوادر، منها: أن المأمون روى عن هشيم بسنده المتصل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: إنه إذا تزوج الرجل المرأة لدينها وجمالها، كان فيها سداد من عود. ورواه بفتح السين من سداد، فرواه النضر من طريق آخر، عن عوف بن أبي جميلة بسنده المتصل: سداد، بكسر السين، فقال له المأمون تلحنني؟ فقال: إنما لحن هشيم.
قال: فما الفرق بينهما. قال: السداد: بالفتح: القصد في الدينه والسبيل. والسداد بالكسر: البلغة. وكل ما سددت به شيئاً، فهو سداد. قال: أو تعرف العرب ذلك. قال: نعم، هذا العرجى يقول:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا
…
ليوم كريهة وسداد ثغر
فقال المأمون: قبح الله من لا أدب له. ثم أخذ القرطاس وكتب، ولا يدري ماذا كتب، ثم قال: إذا أمرت أن تترب يعني الكتاب كيف تقول؟ قال: أترب. قال: فهو ماذا قلت: مترب. قال: فمن الطين؟ قال: طين. قال: فهو ماذا؟ قال: مطين: فقال هذه أحسن من الأولى. ثم قال: يا غلام أتربه وطينه، ثم أرسل بالكتاب إلى وزيره الفضل بن سهيل مع غلامه، وبعث معه النضر بن شميل، فلما قرأ الفضل الكتاب قال: يا نضر: إن أمير المؤمنين أمر لك بخمسين ألف درهم، فما كان السبب فيه؟ فأخبره، فقال: لحنت أمير المؤمنين قال: كلا، إنما لحن هشيم، فتبع أمير المؤمنين لحانه. فأمر له بثلاثين ألف درهم أخرى، فأخذ ثمانين ألف درهم بحرف استفيد منه. والبيت الذي استشهد به هو لعبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان الأموي العرجي الشاعر المشهور، وهو من جملة أبيات، منها قوله:
أضاعوني، وأي فتى أضاعوا
…
ليوم كريهة وسداد ثغر
وصبر عند معترك المنايا
…
وقد شرعت أسنتها بنحر
وسبب عمله لهذه الأبيات أنه حبسه محمد بن هشام المخزومي خال هشام بن عبد الملك، وكان والياً على مكة. وأقام في حبسه تسع سنين حتى مات في الحبس، من أجل أنه كان يشبب بأمه، ولم يكن ذلك عن محبة له فيها، بل ليفضح ولدها المذكور، وعاش ثمانين سنة.
وفيها: توفي الإمام الحبر أبو زكريا يحيى بن آدم الكوفي المقرىء الحافظ الفقيه صاحب التصانيف.
وفيها: توفي أزهر بن سعد الباهلي مولاهم البصري. روى الحديث عن حميد الطويل، وروى عنه أهل العراق، وكان صحب أبا جعفر المنصور قبل أن يلي الخلافة، فلما وليها جاءه مهنئاً، فحجبه المنصور فترصد له في يوم جلوسه العام وسلم عليه، فقال له المنصور: ما جاء بك؟ قال: جئت مهنئاً بالأمر، فقال المنصور: أعطوه ألف دينار، وقولوا له: قد سمعت أنك مريض، فجئت عائداً، فقال: أعطوه ألف درهم، وقال: قد قضيت وظيفة العيادة، فلا تعد إلي فإني قليل الأمراض. فمضى وعاد في قابل، فحجبه، فدخل عليه في مثل ذلك المجلس، فسلم عليه، فقال له المنصور: ما جاء بك؟ فقال: سمحت منك دعاء، فجئت لأتعلمه منك، فقال له: يا هذا إنه غير مستجاب، إني في كل سنة أدعو الله تعالى به أن لا تأتيني وأنت تأتيني.
وله وقائع وحكايات مشهورة، قلت: وهذا من المنصور حلم، وطول روح، وهو
غريب بالنسبة إلى سطوته، ولو وقع مثل هذا التكرار والمعاودة مع الحجاج لكان يفضي إلى قتل أو عقوبة شديدة، ووقوع مثل هذا مع المنصور مع بذل هذه الأموال أمر عجيب.
وفيها: توفي الإمام الجليل المعظم سلالة السادة الأكارم أبو الحسن علي بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن زين العابدين علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، أحد الأئمة الأثني عشر، أولي المناقب الذين انتسبت الإمامية إليهم، وقصروا بناء مذهبهم عليه. وكان المأمون قد زوجه ابنته أم حبيية، وجعله ولي عهده، وضرب اسمه على الدينار والدرهم. وكان السبب في ذلك أنه استحضر أولاد العباس الرجال منهم والنساء، وهو بمدينة مرو من بلاد خراسان، وكان عددهم ثلاثة وثلاثين ألفاً بين كبير وصغير، واستدعى علياً المذكور، فأنزله أحسن منزل، وجمع خواص الأولياء، وأخبرهم أنه نظر في أولاد العباس وأولاد علي بن أبي طالب، فلم يجد أحداً في وقته أفضل، ولا أحق بالخلافة من علي الرضا فبايعه، وأمر بإزالة السواد من اللباس والأعلام، وإبدال ذلك بالخضرة.
ونمي الخبر إلى من بالعراق من أولاد العباس، فعلموا إن في ذلك خروج الأمير عليهم، فخلعوا المأمون، وبايعوا منصور بن المهدي عم المأمون، ولقبوه بالمرتضى، فضعف عن الأمر وقال: إنما أنا خليفة المأمون. فتركوه وعدلوا إلى أخيه إبراهيم بن المهدي، بايعوه بالخلافة، ولقبوه بالمبارك، وذلك يوم الجمعة لخمس خلون من المحرم من السنة المذكورة، وقيل سنة اثنتين وثلاث مائة.
وجرت بالعراق حروب شديدة وأمور مزعجة، والشرح في ذلك يطول.
وكانت ولادة علي الرضا يوم الجمعة في بعض شهور سنة ثلاث وخمسين ومائة بالمدينة، وقيل: بل ولد في سابع شوال، وقيل: ثامنه، وقيل سادسه سنة إحدى وخمسين ومائة، وتوفي: خامس ذي الحجة، وقيل: ثالث عشر ذي القعدة سنة ثلاث، وقيل: في آخر يوم من صفر سنة اثنتين ومائتين بمدينة طوس، وصلى عليه المأمون، ودفنه ملتصق قبر أبيه الرشيد.
وكان سبب موته على ما حكوا، أنه كل عنباً فكثر منه، وقيل: بل مات مسموماً،