الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
والحجاز، وصحب الإمام أبا إسحاق المروزي مدة، وتفقه عليه، وصار ببغداد معيد أبي علي بن أبي هريرة، وهو صاحب وجه في المذهب، وعليه تفقه القاضي أبو الطيب الطبري، وسمع من أصحاب المزني ويونس بن عبد الأعلى والمؤمل بن الحسن، وعقد له مجلس الإملاء في دار السنة.
خمس وثمانين وثلاثمائة
فيها توفي الصاحب المعروف بابن عباد، وهو أبو القاسم إسماعيل بن أبي الحسن عباد بن أحمد بن إدريس الطالقاني. كان نادرة الدهر وأعجوبة العصر في فضائله ومكارمه. أخذ الأدب من أبي الحسين أحمد بن فارس اللغوي، صاحب كتاب المجمل في اللغة. وأخذ عن أبي الفضل بن العميد وغيرهما. وقال أبو منصور الثعلبي في كتابه اليتيمة في حقه: ليست بحضرتي عبارة أرضاها للإفصاح عن علو محله في العلم والأدب وجلالة شأنه في الجود والكرم، وتفرده بالغايات في المحاسن، وجمعه أشتات المفاخر، لأن همه قوتي ينخفض عن بلوغ أدنى فواضله ومعاليه، وجهد وصفي يقصر عن أيسر فضائله ومساعيه. ثم شرع في شرح بعض محاسنه وطرف من أحواله. وقال أبو بكر الخوارزمي في حقه: الصاحب نشأ من الوزارة في حجرها، ودب ودرج من وكرها، ورضع أفاويق درها، وورثها عن آبائه، كما قال أبو سعيد الرستمي في حقه:
ورث الوزارة كابراً عن كابر
…
موصولة الأسناد بالأسناد
وروى عن العباد بن عباد: وقال بعضهم رأيت في أخباره أنه لم يسعد أحد بعد وفاته كما كان في حياته غير الصاحب، فإنه لما توفي أغلقت مدينة الري، واجتمع الناس على باب قصره ينتظرون خروج جنازته، وحضر مخدومه فخر الدولة، وسائر القواد، وقد غيروا لباسهم.
قلت إنه لم يسعد واحد بعد موته كما كان في حياته غيره من أرباب ولايات الدنيا، وما يفتخرون به من المناصب التي هي إن لم يسلم الله تعالى ما طيب، وهو أول من لقب بالصاحب من الوزراء، لأنه كان يصحب أبا الفضل بن العميد، فقيل له: صاحب بن العميد، ثم أطلق عليه هذا اللقب لما تولى الوزارة، وبقي علماً عليه.
وذكر الصابي في " كتاب الناجي " أنه إنما قيل له الصاحب لأنه صحب مؤيد الدولة منذ الصبا، وسماه الصاحب فاستمر هذا اللقب عليه، واشتهر به، ثم سمي به كل من تولى
الوزارة بعده. وكان أولاً وزير مؤيد الدولة أبي منصور بويه بضم الموحدة وفتح الواو وسكون المثناة من تحت وفي آخره هاء ساكنة ابن ركن الدولة الديلمي، تولى وزارته بعد أبي الفتح علي بن أبي الفضل بن العميد، فلما توفي مؤيد الدولة في سنة ثلاث وسبعين وثلاثمائة، استولى على مملكته أخوه فخر الدولة أبو الحسن، فأقر الصاحب على وزارته، وكان مبجلاً عنده معظماً نافذ الأمر، وكان حسن الفطنه. كتب بعضهم إليه رقعه أغار فيها على رسائله، وسرق جملة من ألفاظه، فوقع تحتها هذه:" بضاعتنا ردت إلينا ".
وحبس بعض عياله في مكان ضيق بجواره، ثم صعد السطح يوماً، فأطلع عليه، فرآه، فناداه المحبوس بأعلى صوته، فاطلع فرآه في سواء الجحيم، فقال الصاحب: اخسؤوا فيها ولا تكلمون " قلت ": معنى أنك خاطبتنا بخطاب من هو معذب فأجبناك بالجواب الذي يجاب به أهل النار.
وله نوادر وتصانيف كثيرة، منها كتاب " المحيط " في اللغة، وهو سبع مجلدات، و " كتاب الكشف " عن مساوىء شعر المتنبي و " كتاب أسماء الله تعالى "، وصفاته، وكتب أخرى، وله رسائل بديعة ونظم جيد من جملته قوله:
رق الزجاج ورضت الخمر
…
فتشابها فتشاكل الأمر
وكأنما خمر قدح
…
وكأنما قدح ولا خمر
قلت وهذان البيتان يتمثل بهما في الأمور المحتملة المتشابهة، وممن يتمثل بهما شيخ عصره وإمام دهره شهاب الدين السهروردي قدس الله روحه.
وحكى أبو الحسين الفارسي النحوي أن نوح بن منصور أحد ملوك بني ساسان كتب إليه ورقة يستدعيه ليفوض إليه وزارته وتدبير أهل مملكته، فكان من جملة اعتذاره إليه أنه يحتاج لنقل كتبه إلى أربعمائة جمل في الظل لمن يبقى بها من التحمل.
وقال الإمام الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: حكى لي من أثق به أن الصاحب بن عباد كان إذا انتهى إلى ذكر الباقلآني وابن فورك والأستاذ أبي إسحاق الأسفراييني وكانوا متناصرين من أصحاب الشيخ أبي الحسن الأشعري قال: الباقلآني بحر مغرق، وابن فورك جبل مطرق، والأسفراييني نار محرق.
قال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: وكأن روح القدس نفث في روعه، حيث أخبر عن هؤلاء الثلاثة بما هو حقيقة الحال فيهم. انتهى.
وأخبار الصاحب بن عباد كثيرة، وفضائله بين أهل هذا الفن شهيرة، اقتصرت منها
على هذه النبذة اليسيرة. وكانت وفاته ليلة الجمعة الرابع والعشرين من صفر من السنة المذكورة بالري، ثم نقل إلى أصبهان، ودفن بمحلة تعرف بباب درية، ولما خرج نعشه صاح الناس بأجمعهم وقيل الأرض ومشى فخر الدولة أمام الجنازة مع الناس، وقعدوا للعزاء أياماً.
وقال أبو القاسم بن أبي العلاء الشاعر الأصبهاني: رأيت في المنام قائلاً يقول: لم لم ترث الصاحب مع فضلك وشعرك فقلت: ألجمتني كثرة محاسنه، فلم أدر بما أبدأ منها، وخفت أن أقصر، وقد ظن في الاستيفاء لها. فقال: احفظ واسمع ما أقوله فقلت: قل.
قال: ثوى الجود والكافي معاً تحت حفرة فقلت: ليأنس كل منهما بأخيه فقال: هما اصطحبا حيين ثم تعانقا فقلت: ضجيعين في لحدٍ بباب درية فقال: إذا ارتحل الثاوون من مستقرهم فقلت: أقاما إلى يوم القيامة فيه ومما رثاه الشعراء قول أبي سعيد الرستمي:
أبعد ابن عباد يهش إلى السرى
…
أخو أهل ويستماح جواد
أبى الله إلا أن يموتا بموته
…
فما لهما حتى المعا معاد
وفي السنة المذكورة توفي الإمام الحافظ المشهور، صاحب التصانيف الدارقطني أبو الحسن علي بن عمر البغدادي الدارقطني. قال الحاكم: صار أوحد عصره في الحفظ والفهم والورع، وإماماً في النجاة، صادفته فوق ما وصف لي، وله مصنفات يطول ذكرها.
وقال الخطيب كان فريد عصره، وقريع دهره، ونسيج وحده. وإمام وقته، انتهى إليه علم الأثر والمعرفة بمذاهب العلماء والأدب والشعر، قيل إنه يحفظ دواوين جماعة وقال أبو ذر الهروي: قلت للحاكم: هل رأيت مثل الدارقطني. فقال: هو لم ير مثل نفسه، فكيف أنا؟ وقال البزقاني: كان الدارقطني يملي علي العلل من حفظه وقال القاضي أبو الطيب الطبري: الدارقطني أمير المؤمنين في الحديث وقال غيره: أخذ الفقه عن أبي سعيد الأصطخري الفقيه الشافعي. " قلت " يعني الإمام المشهور صاحب الوجوه في المذهب، قيل بل أخذه عن صاحب لأبي سعيد، وأخذ القراءات عرضاً وسماعاً عن محمد بن الحسن النقاش، وعلي بن سعيد القزاز، ومحمد بن الحسين الطبري، ومن في طبقتهم وسمع من ابن مجاهد وهو صغير، وروى عنه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني صاحب حلية الأولياء
وجماعة كثيرة. وصنف " كتاب السنن "، و " المؤتلف والمختلف " وغيرهما، وخرج من بغداد إلى مصر قاصداً أبا الفضل جعفر بن الفرات وزير كافور الأخشيذي، فإنه بلغه أن أبا الفضل عازم على تأليف مسند، فمضى إليه ليساعده عليه، وأقام عنده مدة، وبالغ أبو الفضل في إكرامه، وأنفق عليه نفقة واسعة، وأعطاه شيئاً كثيراً، وحصل له بسببه مال جزيل، ولم يزل عنده حتى فرغ المسند. وكان يجتمع هو والحافظ عبد الغني على تخريج المسند وكتابته، إلى أن تبحر. وقال الحافظ عبد الغني المذكور: أحسن كلاماً على حديث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثلاثة: علي بن المديني في وقته، وموسى بن هارون في وقته، والدارقطني في وقته أو كما قال.
وسأل الدارقطني يوماً أحد أصحابه: هل رأى الشيخ مثل نفسه. فامتنع من جوابه، وقال: قال الله تعالى " فلا تزكوا أنفسكم " سورة النجم، آية 32، فألح عليه فقال: إن كان في فن واحد، فقد رأيت من هو أفضل مني، وإن كان من اجتمع فيه ما اجتمع في فلان، كان متفنناً في علوم كثيرة.
قلت: فهذا ما لخصته من أقوال العلماء في ترجمته، وكل ذلك مدح في حقه، إلا سفره إلى مصر من أجل الوزير المذكور، فإنه وإن كان ظاهره كما قالوا لمساعدة له في تخريج المسند المذكور، فلست أرى مثل هذا الإيقاع بأهل العلم، ولا بأهل الدين. ثم لما كان مثل هذه المساعدة بعض أهل العلم والدين لا يشوبه شيء من أمور الدنيا كان حسناً منه، وفضلاً وحرصاً على نشر العلم، والمساعدة في الخير. وبعيد عن تطاوع النفوس لمثل هذا إلا إذا وفق الله، وذلك نادر أو معدوم، وما على الفاضل المتدين من أرباب الولايات ألفوا أو لم يألفوا نعم، لو أرسل إليه بعضهم وقال: أرو عني كتابي وكان فيه نفع للمسلمين فلا بأس، فقد روينا عن شيخنا رضي الدين أربعين حديثاً، تخريج السلطان للملك، فظفر صاحب اليمن، وتوفي الدارقطني رحمه الله، وقد قارب الثمانين، أو كاد يبلغها، وصلى عليه الشيخ أبو حامد الأسفراييني.
وفي السنة المذكورة " توفي " الحافظ المفسر الواعظ صاحب التصانيف: أبو حفص ابن شاهين عمر بن أحمد البغدادي. قال الحسين بن المهدي بالله: قال لنا ابن شاهين صنف ثلاثمائة وثلاثين مصنفاً، منها " التفسير الكبير " ألف جزء، و " المسند " ألف وثلاثمائة
جزء، و " التاريخ " مائة وخمسون جزءاً. وقال ابن أبي الفوارس: ابن شاهين ثقة مأمون، جمع وصنف ما لم يصنفه أحد.
وفيها توفي أبو الحسن محمد بن عبد الله المعروف بابن سكرة، الأديب الهاشمي العباسي البغدادي، الشاعر المشهور، لا سيما في المزاح والمجون. وكان هو وابن نجاح يشبهان في وقتهما بجرير والفرزدق، ويقال إن ديوان ابن سكرة يزيد على خمسين ألف بيت. قال الثعالبي: وهو شاعر متسع العبارة في أنواع الإبداع، فاق في قول الظرف والملح على الفحول والأفراد، جاد في ميدان المجون والسخف ما أراد. قالوا وهو من ولد علي بن المهدي بن أبي جعفر المذكور المنصور الخليفة العباسي ومن بديع تشبيهه ما قاله في غلام رآه وفي يده غصن عليه زهر:
غصن بان بدا وفي اليد منه
…
غصن فيه لؤلؤ منظوم
فتحيرت بين غصنين في ذا
…
قمر طالع وفي ذا نجوم
ويقال إن الملحي البغدادي الشاعر كتب إلى ابن سكرة الهاشمي:
يا صديقاً أفادنيه زمان
…
فيه ضيق بالأصدقاء ونصح
بين شخصي وشخصك بعد
…
غير أن الخيال بالوصل سمح
إنما أوجب التباعد منا
…
أنني سكر وأنك ملح
فكتب إليه ابن سكرة:
هل يقول الخليل يوماً لخل
…
شاب منه محض المودة قدح
بيننا سكر فلا تفسدنه
…
أم يقول بيني وبينك ملح؟
هكذا صوابه. أعني إن الأبيات الأولى لابن سكرة، والبيتين الأخيرين للملحي، خلاف ما رأيته في بعض التواريخ، حيث عكس ذلك، وهو غير مناسب لمفهوم نظمهما. ولابن سكرة أيضاً في الشباب:
لقد بان الشباب وكان غصناً
…
له تمر وأوراق تظلك
وكان البعض منك فمات فاعلم
…
متى ما مات بعضك مات كلك
وله أيضاً من أبيات له في هجاء بعض الرؤساء:
ولا تقل ليس في عيب
…
قد تقذف الحرة العفيفه
والشعر نار بلا دخان
…
وللقوافي رؤى لطيفه
كم من ثقيل المحل شام
…
هوت به أحرف خفيفه
لو هجي المسك وهو أهل
…
لكل مدح لصار جيفه
وله:
قيل ما أعددت للبر
…
د فقد جاء بشدة
قلت: دراعة عري
…
تحتها جية رعدة
وله في الشتاء الكافات المشهورة.
وفي إعراضها قلت مشيراً إلى نصحتين: الأولى لبني الدنيا الراغبين، والثانية لبني الدين الزاهدين:
وهي كانون مصطل، ففصل
…
الشتاء يا صاح بالبرد مقبل
وأوله في الفجر سبع لشوكه
…
وشمس تجدي لذي شوى وتوكل
بأول كانونين خامس عشرة
…
تكون فإن كنت أنصحت فقل
فخذ عشر كافات خلت عن خلاعة
…
على الفسق تغري الفاسقين وتحمل
كل الكبش واكتس بالكسافي أريكة
…
للحلا زكت والكبش عندك يكمل
ولكن أولى النصح ما فيه قلته
…
وإن لم أكن ممن إذا قال يفعل
تمسكن وكن في كن كونك ناسكاً
…
وكل كلما يلقى إليك التوكل
تأس بمسكين وواس بممكن
…
وفكر بمن فوق المزابل ينزل
وللنفس قل هل من نعيم ورفعة
…
كمثل جنان هم بها منك أفضل
بخمس ما بين سابقون بخيرها
…
لهم في علاها فوق رأسك منزل
وهذا إذا صادفت سعد عناية
…
وقرب بها باقون من تلك يدخل
قصور وحور لا تطاق صفاتها
…
وكل نعيم ما له العقل يعقل
إلهي بجاه المصطفى لا حرمتنا
…
نعيماً بها يا نعم مولى مؤمل
وصل على تاج العلى سيد الورى
…
رسول كريم لا يساويه مرسل
وفي السنة المذكورة توفي الفقيه العلامة الزاهد الورع الخاشع البكاء المتواضع، أبو بكر الأودني، شيخ الشافعية ببخارى. ومن غرائب وجوهه في المذهب أن الربا حرام في كل شيء، فلا يجوز بيع شيء بجنسه متفاضلاً.
وفيها توفي أبو محمد يوسف بن أبي سعيد الحسن بن عبد الله السيرافي النحوي