الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ثلاث عشرة ومائتين
فيها توفي علي بن جبلة الشاعر المشهور أحد فحول الشعراء المبرزين، من الموالي، ولد أعمى، قيل: بل عمي من جدري أصابه وهو ابن سبع سنين، وكان أسود أبرص. قال ابن خلكان ومن فضائله الفائقة القصيدة التي يقول فيها:
إنما الدنيا أبو دلف
…
بين مغزاه ومختضره
فإذا ولى أبو دلف
…
ولت الدنيا على أثره
كل من في الأرض من عرب
…
بين باديه إلى حضره
يستعير منك مكرمة
…
مكتبها يوم مفتخره
قلت: وحكى بعض أهل المعاني والبيان أن المأمون قال لأبي دلف الأمير المشهور:
أنت الذي قال فيك الشاعر: إنما الدنيا أبو دلف، وأنشد الأبيات، قال: لا يا أمير المؤمنين، بل أنا الذي قال في علي بن جبلة أو قال الشاعر:
أبا دلف، يا أكذب الناس كلهم
…
سواي فإني في مديحك أكذب
فأعجب المأمون ذلك منه، ورضي عنه، لقه عزه في ظرافته وسرعة فهمه المنجي له من الردىء بما اتقى به من الهجاء، فلم يمشه البلاء، بل دفع حيلة باتقائه بهجاء ابن جبلة. ويحكى أن ابن جبلة المذكور مدح حميد بن عبد الحميد الطوسي بعد مدحه لأبي دلف بالقصيدة المذكورة، فقال له حميد: ما عسى أن تقول فينا بعد قولك في أبي دلف كذا وكذا. فقال: أصلح الله الأمير، قد قلت فيك ما هو أحسن من هذا، قال: وما هو. فأنشد:
إنما الدنيا حميد وأياديه الجسام
…
فإذا ولى حميد فعلى الدنيا السلام
فتبسم ولم يرد جواباً، فأجمع من حضر المجلس من أهل العلم والمعرفة بالشعر أن هذا أحسن مما قاله في أبي دلف، فأعطاه، وأحسن جائزته، وقال ابن المعتز في طبقات الشعراء: ولما بلغ المأمون خبر هذه القصيدة غضب غضباً شديداً، وقال: اطلبوه حيثما كان، وأتوني به، فطلبوه فلم يقدروا عليه، لأنه كان مقيماً بالجبل، فلما اتصل به الحزب هرب إلى الجزيرة الفراتية، وقد كانوا كتبوا إلى الآفاق أن يؤخذ حيث كان، فهرب من
الجزيرة حتى توسط البلدان الشاميات، فظفروا به فأخذوه وحملوه مقيداً إلى المأمون، فلما صار بين يديه قال له: يا ابن اللخناء أنت القاتل في قصيدتك للقاسم بن عيسى، يعني أبا دلف " كل من في الأرض من عرب "، وأنشد البيتين، جعلنا ممن يستعير المكارم والإفتخار به. قال: يا أمير المؤمنين، أنتم أهل بيت لا يقدس بكم، لأن الله تعالى أحبكم لنفسه على عباده، وآتاكم الكتاب والحكم ملكاً عظيماً، وإنما ذهبت في قولي إلى أقران القاسم بن عيسى من هذه الناس وأشكاله، قال: والله ما أبقيت أحداً، ولقد أدخلتنا في الكل، وما استحل دمك بكلمتك هذه، ولكن استحله بكفرك في شعر، حيث قلت في عبد ذليل مهين، فأشركت بالله العظيم، وجعلت معه ملكاً قادراً، وهو قولك:
أنت الذي تنزل الأيام منزلها
…
وتنقل الدهر من حال إلى حال
وما مددت مدى طرف إلى أحد
…
إلا قضيت بأرزاق وآجال
ذاك الله عز وجل يفعله، أخرجوا لسانه من قفاه، فمات، وذكره صاحب كتاب الأغاني، كما ذكر ابن المعتز في قضيته مع المأمون.
قال ابن خلكان: ورأيت في " كتاب البارع " في أخبار الشعراء المولدين تأليف ابن المنجم هذين البيتين لخلف بن مرزوق مولى علي بن ريطة والله أعلم بالصواب مع بيت ثالث وهو:
تزور سخطاً فتمسي البيض راضية
…
ويستهل فتبكي أعين المال
لقد أبدع في هذا البيت بمدحه جامعاً وصفين محمودين عند العرب مع حسن صنيعه في كليهما، وهما الشجاعة والكرم، فالشجاعة في قوله:" تزور سخطاً فتمسي البيض راضية "، يعني: يقصد الأعداء فتمسي السيوف راوية بدمائهم، فكنى عن ربها برضائهما والكرم في قوله:" ويستهل فتبكي أعين المال " يعني: يضحك استبشاراً بالضيفان، فيعقر ويذبح لهم السمان، وفي ضمن ذلك بكاؤها بما عرض لها من الأحزان.
ومن مدحه لحميد:
ويكفي سابهن الدنيا حميد
…
فقد أضحوا له فيها عيالاً
كأن أباه آدم حين أوصى
…
إليه أن يعولهم فعالاً
ولما مات حميد المذكور في يوم عيد الفطر سنة عشر ومائتين رثاه بقصيدة من جملتها:
فآدابنا ما أدب الناس قبلنا
…
ولكنه لم يبق للصبر موضع