الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
وفي السنة المذكورة توفي الإمام الحبر الحافظ أبو عبد الله محمد بن سعد كاتب الواقدي وصاحب الطبقات والتواريخ.
وفيها توفي الحافظ محدث بغداد أبو الحسن علي بن الجعد الهاشمي مولاهم، روى عن شعبة وابن أبي ذيب والكبار، وقيل: مكث سنين يصوم يوماً ويفطر يوماً.
إحدى وثلاثين ومائتين
فيها ورد كتاب الواثق على أمير البصرة يأمر بامتحان الأئمة والمؤذنين بخلق القرآن، وكان قد تبع أباه في امتحان الناس.
وفيها قتل أحمد بن نصر الخزاعي الشهيد، من أولاده أمراء الدولة، نشأ في علم وصلاح، وكتب عن مالك وجماعة، وحمل عن هشيم مصنفاته، قتله الواثق بيده لإمتناعه عن القول بخلق القرآن لكونه أغلظ للواثق في الخطاب، وقال له: يا صبي، وكان رأساً في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقام معه خلق من المطوعة، واستفحل أمره، فخافت الدولة من فتن تحصل بذلك.
وروي أنه صلبه، فاسود وجهه، فتغيرت قلوب من راه بهذا الوصف، ثم ابيض وجهه بعد ذلك، فراه بعضهم في النوم، فسأله عن ذلك فقال: لما صلبت رأيت النبي صلى الله عليه، وآله وسلم قد أعرض عني بوجهه، فاسود وجهي من ذلك، فسألته صلى الله عليه وآله وسلم عن ذلك، أي سبب إعراضه عني فقال صلى الله عليه وآله وسلم: إنما أعرضت حياء منك إذا كان قتلك على يد واحد من أهل بيتي، فعندها زال ذلك السواد الذي رأيتم عني، وهذا معنى ما قيل في ذلك والله أعلم.
وفيها توفي الإمام العلامة أبو يعقوب يوسف بن يحيى البويطي الفقيه صاحب الشافعي، مات في السجن والقيد ببغداد، ممتحناً بخلق القرآن، وكان عابداً دائم الذكر كبير القدر. قال الشافعي: ليس في أصحابي أعلم من البويطي، حمل من مصر في أيام الواثق فني زمن الفتنة، فامتنع من القول بخلق القرآن، فحبس حتى مات، وكان صالحاً متنسكاً، رحمة الله عليه.
قال الربيع بن سليمان: رأيت البويطي على بغلة، وفي عنقه غل، وفي رجليه قيد، وبين الغل والقيد سلسلة من حديد فيها طوية وزنها أربعون رطلاً.
وقال الشيخ أبو إسحاق في طبقات الفقهاء: وكان أبو يعقوب البويطى إذا سمع
المؤذن وهو في السجن يوم الجمعة، اغتسل ولبس ثيابه، ومشي حتى يبلغ باب السجن، فيقول السجان: أين تريد؟. فيقول: أجيب داعي الله، فيقول: ارجع عفاك الله فيقول: اللهم إنك تعلم أني قد أجبت داعيك فمنعوني.
وقال الربيع: كان الرجل ربما يسأل الشافعي عن المسألة فيقول: سل أبا يعقوب، فإذا أجابه أخبره، فيقول: هو كما قال: وقال الخطيب البغدادي: قال الشافعي: ليس أحد أحق بمجلس من يوسف بن يحيى، وقال الربيع: كنت عند الشافعي أنا والمزني وأبو يعقوب البويطي قال للبويطي: أنت تموت في الحديث، وقال لي: موتك في الحديث، وقال للمزني: هذا النواظر، الشياطين تطيعه.
وفيها توفي أبو تمام الطائي: حبيب بن أوس الحوراني، متقدم شعراء عصره في ديباجة لفظه وصناعة شعره وحسن أسلوبه، وله: كتاب الحماسة الدال على غزارة فضله واتقان معرفته وحسن اختياره، وله مجموع آخر سماه " فحول الشعراء " جمع فيه بين طائفة كثيرة من شعراء الجاهلية والمخضرمين والإسلاميين و " كتاب اختيارات من شعر الشعراء "، كان له من المحفوظات ما لا يلحقه فيه غيره قبل، كان يحفظ أربعة آلاف ديوان الشعر غير ألف أرجوزة للعرب غير القصائد والمقاطيع، ومدح الخلفاء، وأخذ جوائزهم، وجاب البلاد، وقصد البصرة، وبها عبد الصمد بن المعدل الشاعر، فلما سمع بوصوله وكان في جماعة من غلمانه وأتباعه خاف من قدومه أن يميل الناس إليه، ويعرضوا عنه، فكتب إليه قبل دخوله البلد:
أنت بين اثنين تبرز للناس
…
وكلتاهما بوجه مذال
أيما يبقى لوجهك هذا
…
بين ذل الهوى وذل السؤال
فلما وقف على هذا النظم أضرب عن مقصده ورجع، وقال: قد شغل هذا ما يليه، فلا حاجة لنا فيه، ولما قال ابن المعدل هذا النظم، كتبه ودفعه إلى وراق، وكان هو وأبو تمام يجلسان إليه، ولا يعرف أحدهما الآخر، وأمره أن يدفعه إلى أبي تمام، فلما قرأ الورقة أبو تمام قال:
أتى ينظم قول الزور والفند
…
وأنت أنقص من لا شيء في العدد
أسرجت قلبك من غيظ على خنق
…
كأنها حركات الروح في الجسد
أقدمت ويلك من هجوي على خطر
…
كالعير يقدم من خوف على الأسد
وحضر عبد الصمد، فلما قرأ البيت الأول قال: ما أحسن، علم بالجدل أوجب زيادة ونقصاناً على معدوم، ولما نظر إلى البيت الثاني قال: الإسراج من عمل الفراشين، ولا مدخل له ها هنا، ولما قرأ البيت الثالث عض " على شفته وقال: فيك قلت، يعني بقوله فيك: إشارة إلى قوله: " كالعير تقدم من خوف على الأسد "، لأنهم قد ذكروا في باب انقياد بعض المكولات لبعض الأكلات أن الحمار يرمي بنفسه على الأسد إذا شم ريحه.
وقال بعض العلماء: خرج من قبيلة طيىء ثلاثة، كل مجيد في بابه: حاتم الطائي في جوده، وداود بن نصير الطائي في زهده، وأبو تمام حبيب بن أوس في شعره، وقد اشتهر أنه لما قال في مدح بعض الخلفاء:
إقدام عمرو في سماحة حاتم
…
في علم أحنف في ذكاء إياس
قال له الوزير: أتشبه أمير المؤمنين بأجلاف العرب؟ فأطرق ساعة، ثم رفع رأسه وأنشد:
لا تنكروا ضربي له من دونه
…
مثلاً سروداً في الندى والناس
فالله قد ضرب الأقل لنوره
…
مثلاً من المشكاة والنبراس
الفتيلة: للمصباح والمعنى: يعني قوله: " الله نور السموات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح "" النور: 35، "، الآية والنبراس: الفتيلة للمصباح، والمعنى أنه لما أنكر عليه في تشبيه الخليفة بعمرو بن معد يكرب وبحاتم، استشعر منهم اللوم في ذلك وعدم الجائزة وانحطاطها، فافتتح التفكر ملتمساً عذراً في كلام العرب وأشعارهم وأمثالهم، فلم يجد ما يشفي، ولا ما يكفي، فضرب عنان فكرته إلى كتاب الله تعالى وجواهر آية من فاتحته، إلى أن وجد ما دفع عنه المحذور في سورة النور، وظفر من الدليل بما يشفي الغليل، فأعجب من حضره بانفاذ قريحته، وسرعة. قدح زناد فكرته، فقال الوزير للخليفة، أي شيء طلبه أعطيه إياه، فإنه لا يعيش أكثر من أربعين يوماً، لأنه قد ظهر في عينيه الدم من شدة الفكرة، وصاحب هذا لا يعيش إلا هذا القدر، فقال الخليفة: ما تشتهي، قال: الموصل، فأعطاه إياها، فتوجه إليها، وبقي هذه المدة المذكورة ومات، هكذا قيل: وقال بعض أصحاب التواريخ: هذه القصة لا صحة لها أصلاً، فقد ذكر أبو بكر
الصولي في " كتاب أخبار أبي تمام " أنه لما أنشد هذه القصيدة لأحمد بن المعتصم، وانتهى إلى قوله، إقدام عمر والبيت المذكور، قال أبو يوسف يعقوب بن صباح الكندي الفيلسوف وكان حاضراً لأمر فوق من وصفت. فأطرق قليلاً ثم زاد البيتين المذكورين.
ولما أخذت القصيدة من يده لم يجدوا فيها هذين البيتين، فعجبوا من سرعة فطنته، قال أبو يوسف وكان فيلسوف العرب: هذا الفتى يموت قريباً، ثم قال بعد ذلك: وقد روي على خلاف ما ذكرته، وليس بشيء والصحح هو هذا، قال: وقد تبعتها، وحققت صورة ولاية الموصل، فلم أجد سوى أن الحسن بن وهب، ولآه يعني الموصل، فأقام أقل من سنتين ثم مات بها.
وذكر الصولحي: قال له ابن الزيات: يا أبا تمام، إنك لتجلي شعرك من جواهر لفظك وبديع معانيك ما يزيد حسناتها على الجوهر في أجياد الكواعب، وما يدخر لك شيء من جزيل المكافآت، إلا ويقصر عن شعرك في المواساة، وكان بحضرته فيلسوف فقال له: إن هذا الفتى يموت شاباً، فقيل له: ومن أين حكمت عليه بذلك. فقال: رأيت فيه من الحدة والذكاء والفطنة مع لطافة الحس وجودة الخاطر، ما علمت أن النفس والروحانية تأكل جسمه، كما يأكل السيف المهند غمده قالوا: وكذا كان. لأنه مات وقد نيف على ثلاثين سنة.
وقال بعضهم: هذا يخالف ما سيأتي في تاريخ مولده ووفاته، وذلك أن ولادته كانت في تسعين ومائة، وقيل ثمان وثمانين ومائة، وقيل اثنتين وسبعين ومائة، وقيل اثنتين وتسعين ومائة، في قرية من بلد الجيد، بين دمشق وطبرية ونشأ بمصر، وتوفي بالموصل في سنة إحدى وثلاثين ومائتين، وقيل سنة ثمان وعشرين، وقيل تسع وعشرين سنة، وقيل اثنتين وثلاثين ومائتين.
قلت: وهذا الإعتراض ليس بصحيح، فإنه يصدق كونه نيف على ثلاثين على بعض هذه الروايات، فإنه على رواية ولادته في سنة اثنتين وتسعين، وموته في سنة ثمان وعشرين يكون عمره ستاً وثلاثين سنة.
قال ابن خلكان: رأيت قبره في الموصل، وإليه الإشارة بقول ابن عنين:
سقى الله روح الغوطتين، ولا أرى
…
من الموصلي الفيحاء إلا قبورها
قال البحتري: وبنى عليه أبو نهشل بن حميد الطوسي قبة، وممن رثاه الحسن بن وهب بقوله:
فجع القريض بخاتم الشعراء
…
وغريد روضها حبيب الطائي
ماتا معاً فتجاورا في حفرة
…
وكذاك كانا قبل في الأخباء
ورثاه محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم بقوله:
نبأ أتى من أعظم الأنباء
…
لما ألم مقلقل الأحشاء
قالوا: حبيب قد توى، فأجبتهم
…
ناشدتكم، لا تجعلوه الطائي
وفيها توفي إمام اللغة محمد بن زياد المعروف بابن الأعرابي من موالي بني العباس، وقيل: من موالي بني شيبان، والأول أصح، وكان راوية الأشعار واللغة، أخذ الأدب عن أبي معاوية الضرير والمفضل الضبي والكسائي وأخذ عنه من الأئمة: إبراهيم الحربي وثعلب وابن السكيت. وغيرهم، وناقش العلماء، واستدرك عليهم، وخطأ كثيراً من نقلة اللغة، وكان يزعم أن الأصمعي وأبا عبيدة لا يحسنان شيئاً، وكان يحضر مجلسه خلق كثير من المستفيدين.
قال ثعلب: كان يحضر مجلسه زهاء مائة إنسان، وكان يسأل ويقرأ عليه، فيجيب من غير كتاب، ولزمته بضع عشرة سنة، ما رأيت بيده كتاباً قط، ولقد أملى على الناس ما يحمل على أحمال، ولم ير أحد في علم الشعر أغزر منه، وله من التصانيف بضع عشر مصنفاً، منها كتاب النوادر، وكتاب الخيل، وكتاب تفسير الأمثال، وكتاب معاني الشعر.
ورأى يوماً في مجلسه رجلين يتحادثان، فقال لأحدهما: من أين أنت؟. فقال: من اسبيجاب " بكسر الهمزة وسكون السين المهملة وكسر الموحدة وسكون المثناة من تحت وقبل الألف جيم وبعدها موحدة "، مدينة في أقصى بلاد الشرق، وسأل الآخر فقال: من الأندلس وهي معروفة في أقصى بلاد المغرب، فتعجب من ذلك وأنشأ:
رفيقان شتى، ألف الدهر بيننا
…
وقد يلتقي الشتاء فيما تلقان
ثم أملى على من حضر مجلسه بقية الأبيات وهي:
نزلنا على قيسية يمنية
…
لها نسب في الصالحين هجان
فقالت وأرخت جانب الستر بيننا
…
من أية أرضي أمنا الرجلان؟
فقلت لها: أما رفيقي فقوم
…
تميم، وأما أسرتي فيمان
رفيقان شتى ألف بيننا
…
وقد يلتقي الشتاء فيما تلقان