الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
كتاب الملاحم
[باب ما يذكر في قَرْن المائة]
(أن الله يبعث لهذه الأمَّة على رأس كلّ مائة سنة مَنْ يجدّد لها دينها) قد أفردت في شرح هذا الحديث تأليفًا مستقلًّا سمّيته: "التنبيه بمن يبعثه الله على رأس كلّ مائة"، وأنا ألخّص فوائده هنا فأقول:
هذا الحديث اتّفق الحفّاظ على تصحيحه، منهم الحاكم في المستدرك، والبيهقي في المدخل، وممّن نصّ على صحّته من المتأخّرين الحافظ أبو الفضل بن حجر، وقد لهج المتقدّمون بذكر هذا الحديث، فأخرج الحاكم في المستدرك عقب رواية هذا الحديث عن ابن وهب عن يونس عن الزهري قال: فلمَّا كان في رأس المائة منّ الله على هذه الأمّة بعمر بن عبد العزيز، قال الحافظ ابن حجر: وهذا يشعر بأنّ الحديث كان مشهورًا في ذلك العصر، ففيه تقوية لسنده مع أنَّه قويّ لثقة رجاله. انتهى.
وقال أبو جعفر النحّاس في كتاب الناسخ والمنسوخ: قال سفيان بن عيينة: بلغني أنَّه يخرج في كلّ مائة سنة بعد موت النبيّ صلى الله عليه وسلم رجل من العلماء يقوّي به الله الدّين، وإنّ يحيى بن آدم عندي منهم. وقال أبو بكر البزّار: سمعت عبد الملك بن عبد الحميد الميموني يقول: كنت عند أحمد بن حنبل فجرى ذكر الشافعي، فرأيت أحمد يرفعه وقال: يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: "إنَّ الله يبعث لهذه الأمّة على رأس كلّ مائة سنة من يقرّر لها دينها"، قال: فكان عمر بن عبد العزيز على رأس المائة الأولى، وأرجو أن يكون الشافعي على رأس المائة الأخرى. وأخرج البيهقي من طريق أبي سعيد الفريابي قال: قال أحمد بن حنبل: "إنّ الله يقيّض للناس في رأس كلّ مائة سنة من يعلّم الناس السنن، وينفي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم الكذب"، فنظرنا فإذا في رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائتين الشافعي.
وأخرج أبو إسماعيل الهروي من طريق حميد بن زنجويه قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: يروى في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: "أنّ الله يمنّ على أهل دينه في رأس كلّ مائة سنة برجل من أهل بيتي، يبيِّن لهم أمر دينهم"، وإنِّي نظرت في مائة سنة فإذا هو رجل من آل رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائة الثانية فإذا هو محمد بن إدريس الشافعي.
قال القاضي تاج الدّين السبكي: ولأجل ما في هذه الرّواية من الزّيادة، لا أستطيع أن أتكلّم في المئين بعد الثانية، فإنَّه لم يذكر فيها أحد من أهل النبيّ صلى الله عليه وسلم، قال: ولكن هنا دقيقة ننبّهك عليها فنقول: لما لم نجد بعد المائة الثانية من أهل البيت من هو بهذه المثابة، ووجدنا جميع من قيل إنَّه مبعوث في رأس كلّ مائة ممّن تذهب بمذهب الشافعي وانقاد لقوله، علمنا أنَّه الإمام المبعوث الذي استقرّ أمر الناس على قوله، وبعث بعده في رأس كلّ مائة من يقرّر مذهبه. انتهى.
قلت: وهذا تأويل بعيد، والتأويل الظاهر أن نقول (1): إن أراد صلى الله عليه وسلم
(1) في أ: "يقول".
بقوله: "من أهل بيتي" أي: من قريش كما هو المراد في الخلافة، اتّسع الأمر وسهل، فإنَّ دائرة نسب قريش أوسع من دائرة نسب بني هاشم والمطّلب، وحينئذٍ فلا يعدم واحد من المذكورين أن يكون قرشيًّا وإن كنَّا لا نعرف اتّصال نسبه إلى قريش، وقد عرف ذلك يقينًا في الإمام فخر الدّين الرازي، فإنّه بكريّ من ذريّة أبي بكر الصدِّيق رضي الله عنه. وإن كان المراد ما هو أخصّ من ذلك احتاج إلى النَّظر فيه، والأظهر أنَّ المراد الأوّل، ويؤيّده أن عمر بن عبد العزيز قد عُدّ على رأس المائة الأولى بالإجماع، ومعلوم أنَّه ليس بهاشميّ ولا مطّلبي وإنّما هو أمويّ، وبنوا أميّة ليسوا من الآل على مذهب الشافعي رضي الله عنه وإنَّما هم من قريش الذي هو النّسب الأعمّ، وهم من ذرية عبد شمس، وعبد شمس هو أخو هاشم والمطّلب ونوفل، والأربعة أولاد عبد مناف، وقد سوّى النبي صلى الله عليه وسلم بين أولاد هاشم والمطّلب حيث أعطاهم سهم ذوي القربى وحرّم عليهم الصدقة فعدّوا من الآل، ولم يجر أولاد عبد شمس ونوفل مجراهم، فلم يعدّوا من الآل، فعدّ عمر بن عبد العزيز هنا من أهل البيت باعتبار عموم القرابة القرشيّة لا خصوص الهاشميّة والمطّلبيّة.
ثمَّ إنَّ ما ذكره (ابن)(1) السبكي من التأويل ينبو عنه لفظ الحديث بلا شكّ، فإنَّ لفظه صريح في أن المبعوث (نفسه)(2) رجل من أهل البيت، فكيف يكتفى في ذلك بكونه من غيرهم وهو متمذهب بمذهب ممّن هو من أهل البيت؟ ، هذا بعيد جدًّا، والصَّادق المصدوق خبره لا يخلف، فلا بدّ من أحد أمور، إمَّا حمل الحديث على عموم قريش كما قدَّمناه، وإمَّا حمله على ما هو أعمّ من كونه أهل البيت بالنَّسب أو بالولاء، فقد صحَّ الحديث:"إنَّ مولى القوم من أنفسهم"، وقد ألحق موالي آله صلى الله عليه وسلم بآله في تحريم الركاة عليهم، فلا يبعد أن يكون ذلك أيضًا هنا، وفي الحديث أنَّه صلى الله عليه وسلم قال لموليين له حبشي وقبطي:"إنّما أنتما رجلان من محمَّد"، رواه الطبراني
(1) غير موجود في ج.
(2)
غير موجود في أ.
بسند حسن، وفي الحديث:"سلمان منّا أهل البيت"، وفي حديث آخر أنّ ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: يا رسول الله، أَمِن أهل البيت أنا؟ قال:"نعم". وإمَّا أن يقال: لا يشترط في ذلك كونه من جهة الأب بل يكفي كونه من جهة الأمّ، وذلك شائع عندهم كثيرًا وإن لم يثبت به النسب، ففرق بين النّسب والأهلية.
وهذا المحمل الأخير هو الصَّحيح بل الصَّواب، لأنَّ إمامنا وأصحابنا صرَّحوا بذلك في بابي الوقف والوصيّة، قال ابن الصبَّاغ في الشامل: فرع: قال (في)(1) البويطي: إذا قال وقفت هذا على أهل بيتي، فأهل بيته أقاربه من قبل الرّجال والنساء. وكذا (2) ذكر الدّارمي في الاستذكار، وابن كجّ في التجريد في الوصيّة، وفي شرح الكبير للرَّافعي والرَّوضة للنووي، فيما لو أوصى لأهل بيت الرّجل، فالأصحّ أنَّه يدخل فيهم القرابة من جهة الرّجال والنساء والزوجات أيضًا. وقال ابن الرّفعة في الكفاية: إذا وقف على أهل بيته صرف إلى قرابته من جهة الرجال والنساء، حكاه في الشامل عن البويطي، وفي الحاوي حكاية ثلاثة أوجه؟ أحدها: يصرف إلى من ناسبه إلى الجدّ، والثاني: لمن اجتمع معه في الرّحم، والثالث: إلى كلّ من اتَّصل إليه بنسب أو سبب، قال صلى الله عليه وسلم:"سلمان منّا أهل البيت". انتهى.
فتلخّص من جميع ما تقدّم أنّ أهل البيت لا يختصّ بمن يثبت لهم نسب النبوّة ونحوها، بل يشمل أولاد البنات. إذا تقرّر ذلك فلا يبعد أن يكون المذكرون أمّ أحدهم، أو أمّ أبيه، أو أمّ أمّه، أو أمّ جدّه، أو أمّ جدّته، فما فوق من أهل البيت، إمّا علويّة، أو جعفريّة، أو عقيليّة، أو عبَّاسية، أو مطّلبيّة، أو نحو ذلك، فحيث ما كان في أصوله أمّ ولدته، أو ولدت أحدًا من أصوله وهي من أهل البيت، صدق عليه أنَّه من أهل البيت بلا شكّ، على ما هو صريح نصّ الشافعي والأصحاب، وبهذا يتّسع المجال جدًّا، فإن ذلك في أمّهات النَّاس كثير، وهو أحسن من التَّأويل الذي قاله
(1) غير موجود في أ.
(2)
في ب: "وكذلك".
ابن السبكي، فإنَّ في هذا إبقاء الحديث على ظاهره واللَّفظ على مدلوله وموضوعه.
والحاصل أنَّ لأهل البيت إطلاقات، أخصَّها انصرافه إلى بني هاشم والمطَّلب وهم الآل الذين تحرم عليهم الزّكاة بالأصالة، والثاني شموله لأزواجه صلى الله عليه وسلم أيضًا، وهو (1) أعمّ من الأوّل، والثالث شموله لمطلق الذريّة وإن لم يثبت لهم النّسب، كأولاد البنات وإن سفلن، ولمطلق القرابة سواء كانت من قبل الرّجال أم من قبل النّساء، وهذا أعمّ من الأوّلين، والرَّابع شموله للموالي أيضًا وهو أعمّ من الثلاثة، وهذان الأخيران تخرّج (2) عليهما هذه الرّواية التي نحن في تقريرها. ويؤيّد ما ذكرناه من أنَّ لأهل البيت إطلاقات، أنَّه ورد عن زيد بن أرقم أنَّه قال نساؤه من أهل بيته، وسئل مرّة أخرى من أهل بيته؟ قال: بلى إنَّ نساءه من أهل بيته ولكن أهل بيته الذين ذكرهم، من حرموا الصدقة بعده وهم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل العباس، أخرجه مسلم، ثمَّ قال باب الدّليل على أن أزواجه صلى الله عليه وسلم من أهل بيته في الصَّلاة عليهنّ، وأورد فيه حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:"من سرّه أن يكتال بالمكيال الأوفى إذا صلَّى علينا أهل البيت، فليقل اللهم صلّ على محمد النبيّ وأزواجه وذريّته وأهل بيته، كمّا صلّيت على إبراهيم إنّك حميد مجيد" أخرجه أبو داود، وقال البيهقي: فكأنَّه صلى الله عليه وسلم أفرد أزواجه وذريّته بالذكر على وجه التّأكيد، ثمَّ رجع إلى التّعميم ليدخل فيها غير الأزواج والذرية من أهل البيت.
قلت: والحديث المذكور صريح في أنَّ مطلق الذرية يطلق عليهم أهل البيت، فيشمل كلّ ولد من نسله، سواء نسب إليه كأولاد البنين أو كأولاد البنات كما هو مدلول لفظ الذريّة، وقد قال الفقهاء: لو وقف على أولاده وأولاد أولاده وذريّته ونسله وعقبه، دخل أولاد البنات وإن لم ينسبوا إليه، وفي التنزيل {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ} إلى قوله:{وَعِيسَى} ، ومعلوم أنَّ عيسى ابن بنت.
(1) في أ: "وهم".
(2)
في أ: "يخرّج".
هذا ما تحرّر والله أعلم، وقال الحاكم سمعت الشيخ أبا الوليد حسَّان بن محمد الفقيه يقول: كنَّا في مجلس القاضي أبي العباس بن سريج فقام إليه شيخ من أهل العلم فقال: أَبْشِر أيها القاضي فإنَّ الله يبعث على رأس كلّ مائة سنة من يجدّد لهذه الأمّة أمر دينها، وإنَّه بعث على رأس المائة عمر بن عبد العزيز، وبعث على رأس المائتين الشّافعي، وبعثك على رأس الثلاثمائة ثمَّ أنشأ يقول:
اثنان قد مضيا فبورك فيهما
…
عمر الخليفة ثمّ حلف السؤدد
الشّافعي الألمعي محمد
…
إرث النبوَّة وابن عمّ محمد
أبشر أبا العباس إنَّك ثالث
…
من بعدهم سقيا لنوبة (1) أحمد
فصاح ابن سريج وبكى وقال: لقد نعى إليَّ نفسي، فمات في تلك السنة. قال الحاكم: رويت أنا هذه الحكاية كتبوها، وكان ممَّن كتبها شيخ أديب فقيه، فلمَّا كان في المجلس الثاني قال لبعض الحاضرين: إنَّ هذا الشيخ قد زاد في تلك الأبيات ذكر أبي الطيب سهل بن محمد وجعله على رأس الأربع مائة فقال:
والرَّابع المشهور سهل محمد
…
أضحى إمامًا عند كلّ موحّد
تأوي إليه المسلمون بأسرهم
…
في العلم إن جا والخطب مؤيّد
لا زال فيما بيننا شيخ الورى
…
للمذهب المختار خير مجدّد
قال الحاكم: فلمَّا سمعت هذه الأبيات المزيدة سكتّ ولم أنطق وغمَّني ذلك، إلى أن قدّر الله وفاته تلك السنة.
وقال أبو حفص عمر بن علي المطّوعي في كتاب المذهب في ترجمة الإمام سهل الصعلوكي: كان إمام الدّنيا بالإطلاق، وشافعي عصره بالإطباق وقد أنشد فيه بعض أهل عصره:
(1) كذا في أ، وفي ب:"لنونة" وفي ج: "لنبوه". والأبيات في طبقات الشافعية للسبكي 1/ 202 (ط: هجر 1413 هـ - 1992 م) وفيها تربة.
إنا روينا عن نبيّ الهدى
…
في السنة الواضحة الساميه
بأنَّ لله أمرًا قائما
…
بالدِّين في كلّ تناهي مائه
فعمر الحبر حليف العلى
…
قام به في المائة الباديه
والشافعي المرتضى بعده
…
قرره في المائة الثانيه
وابن سريج بعده قد أتى
…
في المائة الثالثة التاليه
والشيخ سهل عمدة للورى
…
في المائة الرابعة الخاليه
قال الشيخ تاج الدِّين السبكي: وكان على رأس المائة حجَّة الإسلام الغزالي، وعلى السَّادسة الإمام فخر الدّين الرَّازي، وعلى السابعة الشيخ تقي الدين بن دقيق العيد باتّفاق من أدركنا من مشايخنا.
وقال ابن الأثير: اختلف العلماء في تأويل هذا الحديث، كلّ واحد في زمانه وأشاروا إلى القائم الذي يجدّد للناس دينهم على رأس كلّ مائة سنة، وكان كلّ قائم قد مال إلى مذهبه وحمل تأويل الحديث عليه، وذهب بعض العلماء إلى أنَّ الأولى أن يحمل الحديث على العموم، فإنَّ قوله عليه السلام:"إنَّ الله يبعث لهذه الأمَّة على رأس كلّ مائة سنة من يجدِّد لها دينها"، لا يلزم منه أن يكون المبعوث على رأس المائة رجلًا واحدًا، بل قد يكون واحدًا وقد يكون أكثر منه، فإن انتفاع الأمة بالفقهاء وإن كان انتفاعًا عامًّا في أمور الدين، فإن انتفاعهم بغيرهم أيضًا كثير، مثل أولي الأمر، وأصحاب الحديث، والقرَّاء، والوعَّاظ، وأصحاب الطبقات من الزهاد، ينفعون بفنّ لا ينفع به الآخر، إذ الأصل في حفظ الذين حفظ قانون السياسة، وبثّ العدل والتناصف الذي به تحقن الدماء، ويتمكّن من إقامة قانون الشرع، وهذه وظيفة أولي الأمر، وكذلك أصحاب الحديث ينفعون بضبط الأحاديث التي هي أدلَّة الشرع، والقرّاء ينفعون بحفظ القراءات وضبط الرّوايات، والزهَّاد ينفعون بالمواعظ والحثّ على لزوم التقوى والزهد في الدّنيا، فكلّ واحد ينفع بغير ما ينفع به الآخر، فالأحسن والأجدر أن يكون ذلك إشارة إلى حدوث جماعة من الأكابر المشهورين على رأس كلّ مائة سنة، يجدِّدون للناس دينهم، ويحفظونه عليهم في أقطار الأرض.
قال: لكن الذي ينبغي أن يكون المبعوث على رأس المائة رجلًا مشهورًا معروفًا مشارًا إليه في كلّ فنّ من هذه الفنون، فإذا حمل تأويل الحديث على هذا الوجه كان أولى وأشبه بالحكمة.
قال: وقد كان قبل كلّ مائة أيضًا من يقوم بأمور الدّين، وإنّما المراد بالذكر من انقضت المائة وهو حيّ عالم مشهور مشار إليه. انتهى كلام ابن الأثير.
وقال الحافظ عماد الدين بن كثير في كتابه (1) البداية والنهاية: قد ذكر كلّ طائفة من العلماء في رأس كلّ مائة سنة عالمًا من علمائهم، ينزّلون هذا الحديث عليه، وقال طائفة من العلماء: بل الصَّحيح أنَّ الحديث يشمل أكثر من واحد ممَّن يقوم بفرض الكفاية في الأقطار.
وقال الحافظ ابن حجر في مناقب الشافعي: حمل بعض الأئمَّة "من" في الحديث على أكثر من الواحد، وهو ممكن بالنِّسبة لرواية "مَنْ"، لكن الرواية التي بلفظ:"رجل" أصرح في إرادة الواحد، من الرّواية التي جاءت بلفظ "من" الصلاحية "من" للواحد فما فوقه) (2).
قال: ولكن الذي يتعيّن فيمن تأخّر، الحمل على أكثر من الواحد، لأنَّ في الحديث إشارة إلى أن المجدّد المذكور يكون تجديده عامًّا في جميع أهل ذلك العصر، وهذا ممكن في حقّ عمر بن عبد العزيز جدًّا، ثمَّ في حقّ الشافعي، أمَّا من جاء بعد ذلك فلا يعدم من يشاركه في ذلك.
وقال الحافظ زين الدين العراقي في نظم له:
والظن أنّ الثامن المهدي من
…
ولد النبي أو المسيح المهتدي
فالأمر أقرب ما يكون فذو الحجى
…
متأخّر وليسود غير مسود
وقال الإمام بدر الدِّين الأهدل في الرّسالة المرضيّة في نصرة مذهب
(1) في أ: "كتاب".
(2)
في ج: "لصلاحيته للواحد فما فوقه".
الأشعريّة: ما ذكر العراقي من أنَّ على رأس المائة الثامنة المهدي أو عيسى ابن مريم لاقتراب الساعة لم يصحّ، فنحن الآن في سنة ثلاثين وثمانمائة ولم يقع شيء من ذلك، وقد ذكر جماعة أنَّ المبعوث على رأس المائة الثامنة سراج الدّين البلقيني، جزم به شمس الدّين بن الجزري في مشيخته وغيره، ويحتمل أنَّه الشيخ زين الدّين العراقي وكان حافظ عصره في الحديث (1) مع الدّيانة والأمانة والتصانيف النافعة، ويحتمل كلاهما، فإنَّ المجدّد قد يكون واحدًا أو أكثر.
قال: واعلم أنَّ المجدّد إنَّما هو لغلبة الظنّ ممَّن عاصره من العلماء، بقرائن أحواله والانتفاع بعلمه، ولا يكون المجدّد إلًا عالمًا بالعلوم الدينية الظاهرة والباطنة، ناصرًا للسنة قامعًا للبدعة، ثمَّ قد يكون واحدًا في العالم كلّه كعمر بن عبد العزيز لانفراده بالخلافة، وكالإمام الشافعي لإجماع المحقّقين على أنَّه أعلم زمانه، وقد يكون اثنين وجماعة إن لم يتحصّل الإجماع على واحد بعينه. قال: ثمَّ قد يكون في أثناء المائة من هو أفضل من المجدّد على رأسها، كذا رأيته لبعض المتأخِّرين، وإنَّما كان التجديد على رأس كلّ مائة لانخرام علماء المائة غالبًا، واندراس السنن وظهور البدع، فيحتاج حينئذٍ إلى تجديد الدّين، فيأتي الله من الخلف بعوض من السَّلف، وعلى هذا المعنى ينزّل "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق ما أقاموا الدّين، لا يضرّهم من خذلهم" الحديث. ولمَّا عيَّن الإمام أحمد في المائتين الأولتين عمر بن عبد العزيز والشافعي، تجاسر من بعده على تعيين من ذكرناه، وإنَّما عيّن من ذكر على رأس كلّ مائة بالظن ممّن عاصره وحصول الانتفاع به وبأصحابه وبمصنَّفاته. قال: ويحتمل أن يبقى تاسع على رأس المائة التاسعة التي نحن فيها ويكون المهدي أو عيسى ابن مريم في المائة العاشرة عند تمام الدور والعدد العربي. انتهى كلام ابن الأهدل.
قلت: وقد منَّ الله تعالى عليّ فجعلني على رأس هذه المائة التَّاسعة،
(1) في ب: وكان حافظ دهره في الحديث.