الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
فإنّه فصل في هذا المقام. وقال البيهقي في حديث فاطمة: إن الدجّال الأكبر الذي يخرج في آخر الزمان غير ابن صياد، وكان ابن صياد واحد الدجّالين الكذابين الذين أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بخروجهم، وقد خرج أكثرهم، وكأنَّ الذين يجزمون بأنَّ ابن صياد هو الدجّال لم يسمعوا بقصة تميم، وإلَّا فالجمع بينهما بعيد جدًّا، إذ كيف يلتئم أن يكون من كان في أثناء الحياة النبوية شبه المحتلم ويجتمع به النبيّ صلى الله عليه وسلم ويسأله، أن يكون في آخرها شيخًا مسجونًا في جزيرة من جزائر البحر موثقًا (1) بالحديد، يستفهم في خبر النبي صلى الله عليه وسلم هل خرج أو لا، فالأولى أن يحمل على عدم الاطّلاع، أمّا عمر فيحتمل أن يكون ذلك منه قبل أن يسمع قصّة تميم، ثمّ لمَّا سمعها لم يعد إلى الحلف المذكور، وأما جابر فشهد حلفه (2) عند النبيّ صلى الله عليه وسلم، فاستصحب ما كان اطّلع عليه من عمر بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم. انتهى.
***
[باب في خبر ابن صائد]
(1) في ب: "موثوقا".
(2)
في أ: "خلقه".
(عن ابن عمر أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم مرَّ بابن صياد)(1) الحديث قال الخطّابي: اختلف الناس في أمر ابن صيّاد، وأشكل أمره حتى قيل فيه كلّ قول، وقد سئل عن هذا فقيل؟ كيف يقارّ (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلًا يدّعي النبوة كاذبًا، ويتركه بالمدينة يساكنه في داره ويجاوره فيها، وما معنى ذلك، وما وجه امتحانه إياه بما جاء به من آية الدخان، وقوله بعد ذلك اخسأ فلن تعدو قدرك، قال: والذي عندي أنَّ هذه القصة إنّما جرت معه أيَّام مهادنة رسول الله صلى الله عليه وسلم اليهود وحلفائهم، وذلك أنَّه بعد مقدمه المدينة كتب بينه وبين اليهود كتابًا صالحهم فيه على أن لا يهاجوا، وأن يتركوا على أمرهم، وكان ابن صياد منهم أو دخيلًا (3) فيهم، وكان بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خبره وما يدّعيه من الكهانة وما يتعاطاه من الغيب، فامتحنه صلى الله عليه وسلم بذلك ليزور به أمره ويخبر شأنه، فلمَّا كلَّمه علم أنَّه مبطل وأنَّه من جملة السَّحرة أو الكهنة، أو ممَّن يأتيه رئي من الجنّ، أو يتعاهده شيطان فيلقي على لسانه بعض ما يتكلَّم به،
(1) في سنن أبي داود المطبوع: "صائد".
(2)
كذا في الأصل، وفي معالم السنن:"يقرّ".
(3)
في أ: "رجلا".
فلمَّا سمع منه قول الدخّ زبره وقال (اخسأ فلن تعدو قدرك) يريد أنَّ ذلك شيء اطّلع عليه الشيطان، فألقاه إليه وأجراه على لسانه، وليس ذلك من قبل الوحي السماوي إذ لم يكن له قدر الأنبياء الذين يوحى إليهم علم الغيب، ولا درجة الأولياء الذين يلهمون العلم ويصيبون بنور قلوبهم، وإنَّما كانت له تارات يصيب في بعض ويخطئ في بعض وذلك معنى قوله:(يأتيني صادق وكاذب) فقال له عند ذلك: (قد خلط عليك).
والجملة من أمره أنَّه كان فتنة امتحن الله به عباده المؤمنين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة، وقد امتحن قوم موسى عليه السلام في زمانه بالعجل، فافتتن به قوم وهلكوا، ونجا من هداه الله وعصمه منهم.
وقد اختلفت الرّوايات في أمره وفيما كان من شأنه بعد كبره، فروي أنَّه قد تاب عن ذلك القول ثمَّ إنَّه مات بالمدينة، وإنَّهم لمَّا أرادوا الصلاة عليه كشفوا عن وجهه حتى رآه الناس وقيل لهم "اشهدوا".
(وعن جابر قال: فقدنا ابن صيَّاد يوم الحرَّة) وهذا خلاف رواية من روى أنَّه مات بالمدينة. انتهى.
وقال القرطبي في التذكرة: الصَّحيح أن ابن صياد هو الدجّال لحلف جابر وابن عمر أنَّ ابن صيّاد الدجّال، وقد استدلّ من قال إنّ الدجّال ليس ابن صيّاد بحديث الجسَّاسة وما كان في معناه، والصَّحيح خلافه، ولا يبعد أن يكون بالجزيرة ذلك الوقت ويكون بين أظهر الصحابة في وقت آخر إلى أن فقدوه يوم الحرّة. انتهى.
قال الحافظ ابن حجر: ويؤيّده ما أخرجه أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن حسَّان بن عبد الرَّحمن عن أبيه قال: لما افتتحنا أصبهان كان بين عسكرنا وبين اليهود فرسخ، فكنَّا نأتيها فنمتار منها، فأتيتها يومًا فإذا اليهود يزفّون ويضربون فسألت صديقًا لي منهم، فقال: مَلكنا الذي نستفتح به على العرب يدخل، فبتّ عنده على سطح، فصليت الغداة فلمَّا طلعت الشمس إذا الوهج من قبل العسكر، فنظرت فإذا رجل عليه قبّة من ريحان
واليهود يزفّون ويضربون، فنظرت فإذا هو ابن صيّاد فدخل المدينة فلم يعد حتى الساعة. وفي مسند أحمد بسند صحيح عن أنس أنّ الدَّجال يخرج من يهودية أصبهان وهي قرية من قراها سمّيت يهودية لأنَّها كانت تختصّ بسكنى اليهود.
(وخبّأ له {يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ}) قال أبو موسى المديني: السرّ في كونه صلى الله عليه وسلم خبَّأ له هذه الآية، الإشارة إلى أن عيسى يقتله بجبل الدّخان.
(قال ابن صياد: هو الدّخ) بضمّ المهملة بعدها معجمة، في مسند أحمد من حديث أبي ذر "فأراد أن يقول الدّخان فلم يستطع فقال الدّخ" فقيل كان في لسانه شيء، وقيل إنَّه اندهش فلم يقع من لفظ الدّخان إلَّا على بعضه. وحكى الخطّابي أن الآية كانت حينئذٍ مكتوبة في يدّ النبي صلى الله عليه وسلم فلم يهتد ابن صياد منها إلَّا لهذا القدر الناقص على طريقة الكهنة، قال: ويحتمل أن يكون خبَّأها له في ضميره، وعلى هذا فيقال كيف اطلع ابن صياد أو شيطان على ما في الضمير؟ ويجاب باحتمال أنْ يكون النبي صلى الله عليه وسلم تحدَّث مع نفسه أو أصحابه بذلك قبل أن يختبره، فاسترق الشيطان ذلك أو بعضه.
ووهم من فسَّر قوله الدّخ بنبت يكون بين البساتين، وأشدّ وهمًا منه وقع عند الحاكم الزّخ بالزاي المفتوحة بدل الدّال، وفسَّره بالجماع، واتَّفق الأئمة على تغليطه.
(اخسأ فلن تعدو قدرك) أي: لن تتجاوز ما قدّر الله فيك، أو مقدور (1) أمثالك من الكهّان.
(1) في ج: "مقدار".
(رأيت جابر بن عبد الله يحلف بالله أنّ ابن صيّاد (1) الدّجال، فقلت: تحلف بالله؟ قال: إنّي سمعت عمر يحلف على ذلك عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينكر عليه) (2) قال البيهقي: ليس في حديث جابر أكثر من سكوت النبي صلى الله عليه وسلم على حلف عمر، فيحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم كان موقوفًا في أمره، ثمّ جاء الثَبت من الله تعالى بأنَّه غيره على ما تقتضيه قصَّة تميم.
قال الحافظ ابن حجر: وبه تمسَّك ابن حزم في أنَّ الدجّال غير ابن صياد، وطريقه أصحّ وتكون الصفة التي في ابن صياد وافقت ما في الدجال. وقد تكلَّم ابن دقيق العيد على مسألة التقرير في أوائل شرح الإلمام فقال ما ملخّصه: إذا أخبر شخص بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم عن أمر ليس فيه حكم شرعي، فهل يكون سكوته صلى الله عليه وسلم دليلًا على مطابقة ما في الواقع، كما وقع لعمر في حلفه على أنَّ ابن صيَّاد هو الدجّال فلم ينكر عليه، فهل يدلّ عدم إنكاره على أن ابن صيَّاد هو الدجّال كما فهمه جابر حتى صار يحلف عليه ويستند إلى حلف عمر أو لا يدل؟ فيه نظر، قال: والأقرب عندي أنَّه لا يدلّ، لأنَّ مأخذ المسألة ومناطها هو العصمة من التقرير على باطل، وذلك متوقّف على تحقق البطلان، ولا يكفي فيه عدم توقّف الصحة، إلَّا أنَّ يدّعي مدّع أنّه يكفي في وجوب البيان عدم تحقّق الصّحة فيحتاج إلى دليل وهو عاجز عنه نعم التقرير يسوّغ الحلف على ذلك على عْلبة الظن لعدم توقّف ذلك على العلم، انتهى.
وقد أخرج نعيم بن حماد شيخ البخاري في كتاب العتق من طريق جبير بن نفير وشريح (3) بن عبيد وعمرو بن الأسود وكثير بن مرّة قالوا
(1) في سنن أبي داود المطبوع: "ابن صائد".
(2)
في سنن أبي داود المطبوع: "فلم ينكره رسول الله صلى الله عليه وسلم".
(3)
في ب: "سريج".
جميعا: "الدجّال ليس هو بإنسان وإنَّما هو شيطان موثّق بسبعين حلقة في بعض جزائر اليمن، لا يعلم من أوثقه سليمان عليه السلام أو غيره، فإذا آن ظهوره قدّ الله محنه كلّ عام حلقة، فإذا أبرز أتته أتان عرض ما بين أذنيها أربعون ذراعًا، فيضع على ظهرها منبرًا من نحّاس ويقعد عليها، ويتبعه قبائل الجنّ يخرجون له خزائن الأرض".
وذكر ابن وصيف المؤرّخ: الدَّجال من ولد شِقّ الكاهن المشهور، قال: ويقال بل هو شق نفسه، أنظره الله وكانت أمّه جنيّة فأخذه سليمان فحبسه في جزيرة من جزائر العرب.
قال الحافظ ابن حجر: وأقرب ما يجمع به بين ما تضمّنه حديث تميم وكون ابن صيَّاد هو الدجّال بعينه هو الذي شاهده تميم موثوقًا، وأنَّ ابن صيّاد شيطان تبدا في صورة الدجّال تلك المدة إلى أن توجّه إلى أصبهان فاستقرّ مع قرينه إلى أن تجيء المدّة التي قدّر الله خروجه فيها. وأخرج أبو نعيم في تاريخ أصبهان عن كعب الأحبار قال: لم ينزل خبر الدجّال في التوراة والإنجيل وإنَّما هو في بعض كتب الأنبياء. قال الحافظ ابن حجر: وأخلق بهذا الخبر أن يكون باطلًا، فإن في الحديث الصَّحيح أن كلّ نبيّ قبل نبيّنا أنذر قومه الدجّال.
قلت: لا منافاة، فلا يلزم من إنذارهم به نزول خبره في التوراة والإنجيل، فهذا القرآن الذي هو أجلّ الكتب قدرًا وأجمعها لكلّ شيء لم ينزل فيه خبر الدجّال صريحًا وإنَّما أنذر به صلى الله عليه وسلم في سنّته، فكذلك يكون الإنذار به من الأنبياء في أحاديثهم دون الكتب المنزلة من الله، وقد ذكر أنّ عدم التصريح به في القرآن لحكمة وهي الاستهانة (1) به والتحقير لشأنه.
(1) في ب يمكن قراءتها: "الأسخرية".