الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
(يوشك الفرات) هو النَّهر المشهور وهو بالتاء المجرورة على المشهور، ويقال: إنَّه يجوز أن يكتب بالهاء كالتابوت والتابوه والعنكوت والعنكبوه، أفاده الكمال ابن العديم في تاريخه نقلًا عن إبراهيم بن أحمد بن اللَّيث.
(أن يحسر) هو بفتح أوَّله وسكون ثانيه وكسر ثالثه والحاء والسين مهملتان، أي: ينكشف (عن كنز من ذهب) قال في فتح الباري: يحتمل أن يكون دنانير وأن يكون قطعًا وأن يكون تِبرًا.
(فمن حضره فلا يأخذ منه شيئًا) قال الحليمي في المنهاج: يشبه أن يكون هذا في آخر الزّمان الذي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن المال يفيض فيه فلا يقبله أحد، وذلك زمن عيسى عليه السلام، فلعلّ سبب هذا الفيض العظيم ذلك الكنز مع يضمنه (1) المسلمون من أموال المشركين، ويحتمل أن يكون نهيه عن الأخذ منه لتقارب الأمر وظهور أشراطه، فإنَّ الرُّكون إلى الدنيا والاستكثار منها مع ذلك جهل واغترار، ويحتمل أن يكون إذا حرصوا على النيل منه تدافعوا وتقاتلوا، ويحتمل أن يكون يجري مجرى المعدن فإذا أخذه أحدهم ثمَّ لم يجدوا من يخرج حق الله إليه لم يوثق بالبركة من الله فيه، فكان الانقباض عنه أولى.
قال القرطبي: التأويل الأوسط هو الذي عليه الحديث.
***
[باب خروج الدجّال]
(1) كذا في ب، وفي أ:"يصمنه"، أمَّا في ج فقد أصابها بلل فانمحت.
(لأنا بما مع الدجّال أعلم منه، إنّ معه نهرًا (1) من ماء ونهرًا من نار، فالذي ترون أنّه نار ماء، والذي ترون أنّه ماء نار) قال في فتح الباري: هذا يرجع إلى اختلاف المرئي بالنسبة إلى الرَّائي، فإمَّا أن يكون الدجَّال ساحرًا فيخيل الشيء بصورة عكسه، وإمّا أن يجعل الله باطن الجنة التي سخرها للدجال نارًا وباطن النار جنة، وهذا أرجح.
(1) في سنن أبي داود المطبوع: "بحرا".
(ما بعث نبيّ إلّا قد أنذر أمّته الدجّال) استشكل ذلك مع أن الأحاديث قد ثبتت أنه يخرج بعد أمور ذكرت، وأنّ عيسى يقتله بعد أنّ ينزل من السماء ويحكم بالشّريعة المحمدية، والجواب: إنَّه كان وقت خروجه أخفي على نوح ومن بعده، ولم يذكر لهم وقت خروجه، فحذّروا قومهم من فتنته، ويؤيّده قوله صلى الله عليه وسلم:(أن يخرج وأنا فيكم فأنا حجيجه دونكم) فإنَّه محمول على أن ذلك كان قبل أن يبيّن له وقت خروجه
وعلاماته، فكان صلى الله عليه وسلم يجوِّز أن يخرج ثمَّ حياته، ثمَّ بيَّن له (1) بعد ذلك حاله ووقت خروجه فأخبره، فبذلك يجمع بين الأخبار.
(ألا وإنّه أعور وإنّ ربّكم ليس بأعور) قيل السرّ في اختصاصه صلى الله عليه وسلم بالتنبيه المذكور، ولم يقله نبيّ لقومه مع أنَّه من أوضح الأدلّة في تكذيب الدجّال، أن الدجّال إنّما يخرج في أمته دون غيرها ممّن تقدّم من الأمم، ودلّ الخبر على أنّ علم كونه يختصّ خروجه بهذه الأمة، كان طوي عن غير هذه الأمة، كما طوي عن الجميع علم قيام الساعة، وإنَّما اقتصر على ذلك مع أنَّ أدلة الحدوث في الدجّال ظاهرة لأنّ العور أثر محسوس يدركه العالم والعامي ومن لا يهتدي إلى الأدلة العقليّة، فإذا ادّعى الربوبيّة وهو ناقص الخلقة، والإله يتعالى عن النقص، علم أنَّه كاذب.
(وإنّ بين عينه مكتوبًا) اسم (كـ ف ر)(2) قال ابن العربي: فيه إشارة إلى أن فعل وفاعل من الكفر إنَّما يكتب بغير ألف، وكذا هو في رسم المصحف وإن كان أهل الخط أثبتوا في فاعل الفاء فذلك لزيادة البيان.
(يقرؤه كلّ مسلم) زاد ابن ماجة: "كاتب وغير كاتب"، قال النووي: الصحيح الذي عليه المحقّقون أن الكتابة المذكورة حقيقة جعلها الله علامة قاطعة بكذب الدجال، فيظهر الله المؤمن عليها ويخفيها عمّن أراد شقاوته. وقال بعضهم: هي مجاز عن سِمة الحدوث عليه، وهو مذهب ضعيف، ولا يلزم من قوله:"يقرؤه كلّ مسلم كاتب وغير كاتب" أن لا تكون الكتابة حقيقة، بل يقدّر الله غير الكاتب على الإدراك فيقرأ ذلك وإن لم يكن سبق له معرفة الكتابة.
(إنَّ مسيح الدجّال) ذكر القرطبي في التذكرة أنه اختلف في تسميته دجّالًا على عشرة أقوال، وذكر شيخ شيوخنا الإمام مجد الدّين الشّيرازي
(1) في أ: "لهم".
(2)
في سنن أبي داود المطبوع: "كافر".
صاحب القاموس، أنَّه اجتمع له من الأقوال في سبب تسميته بالمسيح خمسون قولًا، وذكر القاضي أبو بكر بن العربي أنَّ من شدّد سينه أو أعجم حاءه فقد حرّف.
(أفحج) بفاء ساكنة ثمَّ حاء مهملة مفتوحة ثمّ جيم، قال الخطّابي: هو الذي إذا مشى باعد بين رجليه.
(أعور مطموس العين، ليس بناتئة) بنون ومثنّاة (ولا جحراء) بالمدّ، قال الخطّابي: هي التي قد انخسفت فبقي مكانها غائرًا (1) كالجحر، يقول إنّ عينه سادة لمكانها مطموسة أي ممسوحة ليست بناتئة ولا منخسفة.
وذكر صاحب النهاية أنَّها بتقديم الجيم على الحاء وقال: أي: ليست غائرة منجحرة في نُقْرتها، وقال الأزهري: إنَّها بتقديم الحاء على الجيم، قال الهروي: إن كان ذلك محفوظًا، فمعناه ليست بصلبة متحجّرة.
(عن النوّاس بن سمعان) قال ابن دحية: هو معدود في الشَّاميين، يقال: إنَّ أباه سمعان وفد على النبي صلى الله عليه وسلم ودعا له، وزوجه أخته الكلابية، وهي تعوَّذت منه، وبكسر السين قيّده علماؤنا المتقنون اللّغويون، وقيَّده جماعة من أشياخنا بالفتح. انتهى.
(ثمّ ينزل عيسى ابن مريم عند المنارة البيضاء شرقيّ دمشق) قال الحافظ عماد الدين بن كثير: قد جدّد بناء منارة في زماننا في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة من حجارة بيض، وكان بناؤها من أموال النّصارى الذين حرقوا المنارة التي كانت مكانها، قال: ولعلّ هذا يكون من دلائل النبوة الظاهرة حيث قيّض الله بناء هذه المنارة البيضاء من أموال النصارى لينزل عيسى عليها.
(1) في ب: "غائبا".
(من حفظ عشر آيات من (أوَّل)(1) سورة الكهف عصم من فتنة الدجّال) وفي رواية مسلم: "من آخر الكهف"، قال النووي: قيل سبب ذلك، ما في أوَّلها من العجائب والآيات فمن تدبَّرها لم يفتتن بالدَّجال، وكذا في آخرها:{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا} . وقال القرطبي: اختلف المتأوَّلون في سبب ذلك، فقيل لما في قصَّة أصحاب الكهف من العجائب والآيات، فمن علمها لم يستغرب أمر الدجّال ولم يهله ذلك فلن يفتتن به، وقيل لقوله تعالى:{لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} تمسكًا بتخصيص البأس بالشدّة واللَّدنيّة، وهو مناسب لما يكون من الدجّال من دعوى الإلهية واستيلائه وعظم (2) فتنته، ولذلك عظّم النبي صلى الله عليه وسلم أمره وحذَّر عنه (3) وتعوَّذ من فتنته، فيكون معنى هذا الحديث أنَّ من قرأ هذه الآيات وتدبَّرها ووقف على معناها حَذِره فأمِن من ذلك، وقيل هذا من خصائص هذه السورة كلّها، فقد روي:"من حفظ سورة الكهف ثمّ أدركه الدجّال لم يسلّط عليه"، وعلى هذا يجتمع رواية من روى من أوَّل سورة الكهف ومن روى من أخرها، ويكون ذلك العشر على جهة الاستدراج في حفظها كلّها، وقيل إنَّما كان ذلك لقوله {لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ} فإنّه يهوَّن بأس الدجّال، وقوله:{وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2)} فإنَّه يهوّن الصبر على فتنة الدجال بما ظهر من جنّته وناره وتنعيمه وتعذيبه، ثمَّ ذمَّه تعالى لمن اعتقد الولد يفهم منه أنَّ من ادَّعى الإلهية أولى بالذمّ وهو
(1) غير موجود في ب.
(2)
في أ: "عظيم".
(3)
في أ: "فيه".
الدجّال، ثم قضيّة أصحاب (1) الكهف فيها عبر تناسب العصمة من الفتن، وذلك أن الله تعالى حكى عنهم أنَّهم قالوا:{رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا} ، فهؤلاء قوم ابتلوا فصبروا وسألوا إصلاح أحوالهم فأصلحت لهم، وهذا تعليم لكلّ مدعوّ إلى الشرك، ومن روى من آخر الكهف، فلما في قوله:{أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي} إلى آخر السورة، من المعاني المناسبة لحال الدجّال ولما في قوله:{وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100)} فإن فيه ما يهوّن ما يظهره الدجّال من ناره، وقوله:{الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي} تنبيه على أحوال تابعي الدجّال إذ قد عموا عن ظهور الآيات التي تكذّبه. انتهى.
وقال الشيخ سراج الدّين البلقيني: الحكمة في اختصاص هذه الآيات بهذه الفضيلة، أنَّه اجتمع فيها من التوحيد ونفي الإلهية عن غير الله، وتكذيب من كفر، ما لم يجتمع في غيرها، وذلك في قوله:{رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} الآية، نقلتُه من خط الشيخ وليّ الدّين العراقي في مجموع له، وقال الشيخ أكمل الدّين في شرح المشارق: قيل: يجوز أن يكون التخصيص بذلك لما فيها من ذكر التوحيد وخلاص أصحاب الكهف من شرّ الكفرة المتجبِّرة.
(1) في أ: "أهل".
(عن أبي هريرة أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم بقال: ليس بيني وبينه نبيّ) أوَّل الحديث عند أحمد: "الأنبياء إخوة لعلات، أمّهاتهم شتّى ودينهم واحد، وانّي أولى الناس بعيسى ابن مريم لأنّه لم يكن بيني وبينه نبيّ".
(وإنّه نازل) قال القرطبي في التذكرة: ذهب قوم إلى أنَّ بنزول عيسى يرتفع التكليف لئلَّا يكون رسولًا إلى أهل ذلك الزمان، يأمرهم عن الله وينهاهم، وهذا مَرْدود بقوله تعالى:{وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} ، وبقوله صلى الله عليه وسلم:"لا نبيّ بعدي" وغير ذلك من الأخبار، وإذا كان كذلك، فلا يجوز أن يتوهَّم أنّ عيسى عليه السلام ينزل بشريعة متجدّدة غير شريعة نبيّنا صلى الله عليه وسلم، بل إذا نزل فإنّه يكون يومئذ من أتباع محمد صلى الله عليه وسلم، كما أخبر صلى الله عليه وسلم حيث قال لعمر: "لو كان موسى حيًّا ما وسعه إلّا اتباعي صلى الله عليه وسلم، فعيسى عليه السلام إنّما ينزل مقرّرًا لهذه الشريعة ومجدّدًا لها، إذ هي آخر الشرائع، ومحمد صلى الله عليه وسلم آخر الرسل، فينزل حكمًا مقسطًا، وإذا صار حكمًا فإنّه لا سلطان يومئذ للمسلمين ولا إمام ولا قاضي ولا مفتي غيره، وقد قبض الله العلم وخلا الناس منه، فينزل وقد علم بأمر الله تعالى في السماء قبل أن ينزل ما يحتاج إليه من علم هذه الشريعة للحكم بين الناس والعمل به في نفسه، فيجتمع المؤمنون عند ذلك إليه ويحكّمونه على أنفسهم، إذ لا أحد يصلح لذلك غيره.
فإن قيل: فما الحكمة في نزوله في ذلك الوقت دون غيره؟
فالجواب عنه من ثلاث أوجه:
أحدها: يحتمل أن يكون ذلك لأن اليهود يدّعون أنَّهم قتلوه، وقد ضرب الله عليهم الذلَّة فلم تقم لهم راية ولا كان لهم في بقعة من بقاع الأرض سلطان ولا قوَّة ولا شوكة، ولا يزالون كذلك حتى تقرب السَّاعة، فيظهر الدجّال وتبايعه (1) اليهود فيكونون يومئذ جنده مقدرين أنّهم ينتقمون به من المسلمين، فإذا صار أمرهم إلى هذا أنزل الله تعالى الذي عندهم أنَّهم قد قتلوه، وأبرزه لهم ولغيرهم من المنافقين والمخالفين حيًّا، ونصره على
(1) في ج: "وتتابعه".
رئيسهم وكبيرهم المدّعي للرّبوبيّة فقتله، وهزم جنده من اليهود فلا يجدون يومئذٍ مهربًا.
والوجه الثاني: يحتمل أن يكون إنزاله لدنوّ أجله، لا لقتال الدجّال، لأنَّه لا ينبغي لمخلوق من التراب أن يموت في السماء، لكن أمره يجري على ما قال (9) الله تعالى:{مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى} ، فينزله الله تعالى ليقرّه في الأرض مدّة يراه فيها من يقرب منه ويسمع به من نأى عنه ثمّ يقبضه، فيتولّى المؤمنون أمره ويصلِّي عليه ويدفن كما دفن الأنبياء وينشر إذا نشر معهم، هذا سبب إنزاله، غير أنَّه يتَّفق في تلك الأيام (من خروج الدجّال باب لُدّ ما وردت به الأخبار)(2)، فإذا اتّفق ذلك وكان الدجّال قد بلغ من فتنته أن ادّعى الربوبيّة ولم ينتصب لقتاله أحد من المؤمنين لقلّتهم، كان هو أحق بالتوجّه إليه ويجري قتله على يديه، فعلى هذا الوجه يكون الأمر بإنزاله لأنَّه ينزل لقتال الدجّال قصدًا.
والوجه الثَّالث: أنَّه وجد في الإنجيل فضل أمّة محمد صلى الله عليه وسلم، فدعى الله أن يجعله منهم فاستجاب دعاءه ورفعه إلى السَّماء إلى أن ينزل آخو الزمان، مجدّدًا لما درس من دين الإسلام دين محمّد صلى الله عليه وسلم، فيوافق خروج الدجال فيقتله، ولا يبعد عن هذا أن يقال إن قتاله الدجّال يجوز أن يكون من حيث إنَّه إذا حصل بين ظهراني الناس (3) وهم مفتونون قد عمَّ فرض الجهاد وأعيانهم، وهو أحدهم، لزمه من هذا الفرض ما يلزم غيره فلذلك يقوم به، وذلك داخل في اتباع نبينا صلى الله عليه وسلم. انتهى.
(بين ممصّرتين) قال في النهاية: الممصّرة من الثياب التي فيها صفرة خفيفة.
(1) في ب: "قاله".
(2)
في التذكرة للقرطبي: "من بلوغ الدّجال باب لدّ، هذا ما وردت به الأخبار".
(3)
في ب: "المسلمين".
(فيدقّ الصليب) أي: يكسره (ويقتل الخنزير) قال الخطّابي: معناه تحريم اقتنائه وأكله.
وقال غيره: أي يبطل دين النصرانية بأن يكسر الصليب حقيقة، ويبطل ما يزعمه النَّصارى من تعظيمه، ووقع في الأوسط للطبراني "ويقتل الخنزير والقرد"، وإسناده لا بأس به.
قلت: وظهر لي في مناسبة ذلك أنَّها من مسخ بني إسرائيل.
(ويضع الجزية) قال الخطّابي: معناه أنَّه يضعها على أهل الكتاب ويحملهم على الإسلام ولا يقبل منهم غيره.
وقال في النهاية: أي يحمل الناس على دين الإسلام فلا يبقى ذمّي تجري عليه الجزية، وقيل أراد أنَّه لا يبقى فقير، لاستغناء النَّاس بكثرة الأموال فتوضع الجزية وتسقط، لأنَّه إنَّما شرعت لتردّ في مصالح المسلمين وتقوية لهم، فإذا لم يبق محتاج لم تؤخذ.
وقال القاضي عياض: يحتمل أن يكون المراد بوضع الجزية تقريرها على الكفار من غير محاباة، وتكون كثرة المال بسبب ذلك، وتعقبه النووي فقال: الصواب أنَّ عيسى لا يقبل إلَّا الإسلام، ويؤيده أن في رواية أحمد "وتكون الدَّعوة واحدة" ثمَّ قال النووي: ومعنى وضع عيسى الجزية مع أنَّها مشروعة في هذه الشريعة، لكن مشروعيتها مقيدة بنزول عيسى، لما دل عليه هذا الخبر، وليس عيسى بناسخ لحكم الجزية، بل نبيّنا صلى الله عليه وسلم هو المبيّن لغايتها بقوله هذا.
(ويهلك المسيح الدجّال) زاد أحمد "ثمَّ تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل، والنّمار مع البقر، والذئاب مع الغنم ويلعب الصبيان بالحيَّات".
(فيمكث في الأرض أربعين سنة) قال الحافظ عماد الدين بن كثير: يشكل عليه ما ثبت في صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو أنَّه يمكث في الأرض سبع سنين، قال: اللَّهم إلَّا أن تحمل هذه السَّبع على مدَّة إقامته
بعد نزوله، ويكون ذلك مضافًا إلى مكثه فيها قبل رفعه إلى السَّماء، وكان عمره إذ ذاك ثلاثًا وثلاثين سنة على المشهور.
قلت: وقد أقمت سنين أجمع بذلك، ثمَّ رأيت البيهقى قال في كتاب البعث والنشور: هكذا في هذا الحديث أن عيسى يمكث في الأرض أربعين سنة، وفي صحيح مسلم من حديث عبد الله بن عمرو في قصّة الدجّال:"فيبعث الله عيسى ابن مريم فيطلبه فيهلكه ثمّ يلبث النّاس بعده سبع سنين ليس بين اثنين عداوة"، قال البيهقي: ويحتمل أنّ قوله ثمَّ يلبث النَّاس بعده، أي: بعد موته فلا يكون مخالفًا للأوَّل. انتهى. فترجَّح هذا التأويل عندي من وجوه؛ أحدها: أنّ حديث مسلم ليس نصًّا في الإخبار عن مدَّة لبث عيسى، وذلك نصَّ فيها، والثاني: أنَّ "ثمَّ" تؤيِّد هذا التأويل لأنَّها للتَّراخي، والثالث قوله:"يلبث الناس بعده" فيتّجه أنَّ الضمير فيه لعيسى لأنَّه أقرب مذكور، والرَّابع أنَّه لم يرد في ذلك سوى هذا الحديث المحتمل ولا ثاني له، وورد مكث عيسى أربعين سنة في عدَّة أحاديث من طرق مختلفة، منها هذا الحديث الذي أخرجه أبو داود وهو صحيح، ومنها ما أخرجه الطّبراني من حديث أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:"ينزل عيسى ابن مريم فيمكث في الناس أربعين سنة"، ومنها ما أخرجه أحمد في الزهد عن أبي هريرة قال:"يلبث عيسى ابن مريم في الأرض أربعين سنة، لو يقول للبطحاء: سيلي عسلًا؛ لسالت عسلًا"، ومنه ما أخرجه أحمد في مسنده عن عائشة مرفوعًا من حديث الدجّال:"فينزل عيسى ابن مريم فيقتله ثمَّ يمكث عيسى في الأرض أربعين سنة إمامًا عادلًا وحكمًا مقسطًا"، وورد أيضًا من حديث ابن مسعود عند الطّبراني، فهذه الأحاديث المتعدِّدة الصّريحة أولى من ذلك الحديث الواحد المحتمل.
(ثمَّ يتوفى فيصلّي عليه المسلمون) قال الحافظ أبو القاسم بن عساكر: تكون وفاته بالمدينة فيصلّي عليه هنالك ويدفن بالحجرة النبويّة. وقد روى الترمذي عن عبد الله بن سلام قال: "مكتوب في التّوراة صفة محمد وعيسى ابن مريم يدفن معه".
* * *