الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
قال: [سَجَدْنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}. و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}](1). وفي رواية قال: [سجدَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}. و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}].
موضوع السورة
انشقاق السماء ومد الأرض يوم الدين وسعادة المؤمنين وشقاء الكافرين
-
منهاج السورة
-
1 -
تشقق السماء ودكّ الجبال وبسط الأرض وإخراج الأموات من بطنها لمشهد الحشر.
2 -
كل ما يلقى الإنسان في هذه الدنيا من العناء والجهد في سبيل اللَّه يلقى ثوابه عند ربه الكريم.
3 -
من أوتي كتاب أعماله بيمينه فقد ظفر بالفوز العظيم، ومن أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يصلى نار الجحيم.
4 -
قَسَمُ اللَّه بالشفق، والليل وما جمع، والقمر إذا استوى واجتمع، أن العباد مدعوون لتتابعٍ في الأحوال: من الغنى والفقر والموت والبعث ثم العرض، فما لأكثرهم لا يؤمنون.
5 -
الكفار موعدهم إلى نار الجحيم، والمؤمنون مستقرهم في جنات النعيم.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (578) ح (108 - 109)، وأخرجه أبو داود (1407)، والنسائي (2/ 162)، والترمذي (573)، وابن ماجة (1058)، وأخرجه ابن حبان (2767).
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
15. قوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)}.
في هذه الآيات: تصدُّع السماء ودَكُّ الجبال وبسط الأرض وإخراجها ما فيها من الأموات لمشهد الحشر العظيم، وكل ما يلقى الإنسان في هذه الدنيا من العناء والجهد في سبيل اللَّه يقابله به الرحمان الكريم، فمن أوتي كتاب أعماله بيمينه فقد ظفر بالفوز العظيم، ومن أوتي كتابه وراء ظهره فسوف يصلى نار الجحيم.
فقوله تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} . أي انصدعت، وتفطّرت، وكانت أبوابًا. وذلك يوم القيامة.
وقوله تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} . أي: أطاعت ربها واستمعت لأمره لها بالانشقاق، وحُقَّ لها أن تطيع وتنقاد وتسمع. قال ابن عباس:({وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}: سمعت لربها. قال: حقّقت لطاعة ربها). وقال سعيد بن جبير: ({وَحُقَّتْ}: وحقّ لها).
والمقصود: وحُقَّ لها أن تطيع أمر ربها، فهو العظيم الواحد القهار الذي لا يمانع أمره ولا يخالف.
وقوله تعالى: {وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} . أي بُسِطت، ودكت جبالها، حتى صارت قاعًا صفصفًا. قال ابن كثير:({وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ} أي: بُسْطَتْ وَفُرِشَت وَوُسِّعت).
وقوله تعالى: {وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ} . أي: أخرجت ما فيها من الأموات وطرحته على ظهرها، {وَتَخَلَّتْ} أي: تبرأت منهم وتخلّت عنهم إلى اللَّه لينفذ فيهم أمره. قال قتادة: ({وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ}: أخرجت أثقالها وما فيها). وقال سعيد بن جبير: (ألقت
ما في بطنها من الموتى، وتخلت ممن على ظهرها من الأحياء). وقال النسفي:({وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا}: ورمت ما في جوفها من الكنوز والموتى. {وَتَخَلَّتْ}: وخلت غاية الخلو حتى لم يبق شيء في باطنها كأنها تكلفت أقصى جهدها في الخلو).
وقوله تعالى: {وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} . قال ابن جرير: (يقول: وسمعت الأرض في إلقائها ما في بطنها من الموتى إلى ظهرها أحياء، أمرَ ربها وأطاعت {وَحُقَّتْ} يقول: وحَقَّقها اللَّه للاستماع لأمره في ذلك، والانتهاء إلى طاعته). وقال القاسمي: ({وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} أي انقادت له في التخلية، وحق لها ذلك، وإعادة الآية للتنبيه على أن ذلك تحت سلطان الجلال الإلهي وقهره ومشيئته. وجواب {وَإِذَا} محذوف للتهويل بالإبهام. أي: كان ما كان مما لا يفي به البيان. أو لاقى الإنسان كدحه، كما قال).
وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} . هو خلاصة هذه الحياة. والمراد جنس الإنسان، فيشمل المؤمن والكافر. والمعنى: إنك أيها الإنسان ساع إلى ربك سعيًا، وعاملٌ عملًا، وسوف تلاقي ربك بعملك.
قال ابن عباس: ({يَاأَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ} يقول: تعمل عملًا تلقى اللَّه به خيرًا كان أو شرًا). فالضمير في {فَمُلَاقِيهِ} يعود على {رَبِّكَ} أي: فملاق ربك، أو يعود على الكدح والعمل، وكلا المعنيين متلازم.
أخرج الحاكم والطيالسي بسند حسن عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [قال جبريل: يا محمدُ! عِشْ ما شِئت فإنك مَيِّت، وأحْبِبْ ما شِئت فإنك مُفَارقه، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه](1).
قلت: والآية تنبيه للعاقل أن يلتمس في كدحه طاعة اللَّه ويجتنب ما يسخطه. كما قال قتادة: (إن كَدْحَكَ -يا ابن آدمَ- لضعيف، فمن استطاع أن يكون كدحُه في طاعة اللَّه فليفعَلْ، ولا قوة إلا باللَّه).
وقوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} .
أي: من أعطي كتاب أعماله بيمينه، تعرض عليه سيئاته، ثم يغفرها اللَّه من غير أن يناقشه الحساب.
(1) حديث حسن. أخرجه الحاكم (4/ 325)، والطيالسي (1755)، والبيهقي في "الشعب"(10540) من حديث جابر بن عبد اللَّه، وإسناده حسن.
فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: [قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ليسَ أحَدٌ يُحاسَبُ إلا هَلَكَ"، قالت: قلتُ: يا رسول اللَّه، جعلني اللَّه فِداءَكَ، أليس يقول اللَّه عز وجل: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا} قال: ذاكَ العَرْضُ يُعْرَضونَ، ومن نوقِشَ الحِسابَ هَلَكَ](1).
وفي رِواية: [ليس ذاك بالحساب، ولكن ذلك العرض، مَنْ نوقِشَ الحساب يوم القيامة عُذِّب]. وفي لفظ: [ذاكِ العرض، ولكن من نوقِشَ المحاسَبَةَ هلك].
وأخرج الترمذي بسند صحيح عن أنس، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[مَنْ حُوسِبَ عُذِّب](2).
وأخرج أحمد والطبري بسند صحيح عن عائشة قالت: [سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول في بعض صلاته: "اللهم حاسبني حسابًا يسيرًا". فلما انصرف قلتُ: يا رسول اللَّه! ما الحساب اليسير؟ قال: أن يُنْظَرَ في كتابه فَيُتجاوزَ له عنه، إنه من نوقش الحساب -يا عائشة- يومئذ هلك](3).
وقوله تعالى: {وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} . أي: وينصرف إلى أهله في الجنة {مَسْرُورًا} أي: مغتبطًا قرير العين. قال قتادة: (إلى أهل أعدّ اللَّه له في الجنة).
وقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ} . أي بشماله من وراء ظهره. قال مجاهد: (يجعل يده من وراء ظهره). وقال ابن كثير: (تُثْنى يدُه إلى ورائه ويُعْطى كتابه بها كذلك).
وقوله تعالى: {فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا} . قال الضحاك: (يدعو بالهلاك). قال ابن جرير: (يقول: فسوف ينادي بالهلاك، وهو أن يقول: واثبوراه! واويلاه! وهو من قولهم: دعا فلان لهفه: إذا قال: والهفاه).
وقوله تعالى: {وَيَصْلَى سَعِيرًا} . أي: يدخلها ويقاسي حرّ نارها.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا} . أي: إنه كان فرحًا باتباع هواه وركوب
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4939) - كتاب التفسير، عند هذه الآيات. وأخرجه مسلم (2876) ح (80) - كتاب الجنة ونعيمها. باب إثبات الحساب.
(2)
حسن صحيح. أخرجه الترمذي (3338) - كتاب التفسير. انظر صحيح سنن الترمذي (2658).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد من حديث عباد بن عبد اللَّه بن الزبير بإسناد صحيح على شرط مسلم. ورواه ابن جرير في "التفسير"(36734).
شهوته، بَطِرًا أشِرًا لعدم خطور الآخرة بباله.
وقوله تعالى: {إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ} . أي: إنه ظن أنه لا يرجع إلى اللَّه للحساب. قال قتادة: ({أَنْ لَنْ يَحُورَ} قال: أن لن ينقلب. يقول: أن لن يبعث). وقال أيضًا: (أن لا معاد له ولا رجعة). وقال مجاهد: (أن لا يرجع إلينا).
والحَوْر: هو الرجوع: من حارَ يحور إذا رجع، قال ابن عباس:(ما كنت أدري: ما يحور؟ حتى سمعت أعرابية تدعو بنية لها: حُوري، أي ارجعي إليّ).
وفي صحيح مسلم ومسند أحمد من حديث عبد اللَّه بن سرجس قال: [كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سافر، يتعَوَّذُ مِن وَعْثاءِ السَّفر، وكآبة المُنْقَلب، والحَوْرِ بَعْد الكون -وفي رواية: بعد الكَوْر-، ودعوة المظلوم، وسوء المنظر في الأهل والمال](1). فهو يتعوذ من الحَوْر بَعْد الكَوْر: يعني من الرجوع إلى النقصان بعد الزيادة، فأصل الحور الرجوع.
وقوله تعالى: {بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا} . أي: ليس الأمر كما يظن أن لا رجعة ولا حساب، بل إنه سيحور إلى ربه ويرجع، إن ربّه عالم به قبل أن يخلقه، وقضى له الرجوع إليه، والوقوف للجزاء بين يديه، وقد علم بما سبق له في أي الفريقين يستقر: في أهل السعادة أم أهل الشقاء.
قال النسفي: ({بَلَى} إيجاب لما بعد النفي في {لَنْ يَحُورَ} أي بلى ليحورن {إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ} وبأعماله {بَصِيرًا} لا يخفى عليه، فلا بد أن يرجعه ويجازيه عليها).
16 -
25. قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)}.
في هذه الآيات: قَسَمُ اللَّه تعالى بالشفق والليل وما جمع، والقمر إذا استوى واجتمع، أن عباده مَدْعوُّونَ إلى أحوال ومنازل تتابع، من الغنى والفقر والموت
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1343) - كتاب الحج، وأخرجه أحمد (5/ 83)، والترمذي (3435)، والنسائي (8/ 272)، وابن ماجة (3888).
والبعث والعرض الرهيب، فما لأكثرهم لا يؤمنون ولا يستعدون لذلك المشهد المهيب، فالكفار موعدهم نار الجحيم، والمؤمنون مستقرهم في جنات النعيم.
فقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ} . أي: فأقسم، و"لا" صلة. والشفق: الحمرة التي تكون عند مغيب الشمس حتى تأتي صلاة العشاء الآخرة. قال مالك: (الشَّفَقُ الحمرة التي في المغرب، فإذا ذهبت الحمرة فقد خرجت من وقت المغرب ووجبت صلاة العشاء). وقال الجوهري في الصحاح: (الشفق بقية ضوء الشمس وحمرتها في أول الليل إلى قريب من العَتَمة). وأصل الكلمة من رقة الشيء، يقال: شيء شفِق أي لا تماسك له لرقته، والمقصود: هنا رقة ضوء الشمس عند الغروب.
وفي صحيح الإمام مسلم من حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا: [وقت صلاة المغرب إذا غابت الشمس، ما لم يسقط الشّفق](1).
وفيه أيضًا من حديث بريدة مرفوعًا: [وصَلّى المغرب قبْلَ أن يغيبَ الشَّفَقُ](2).
وقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} . أي: والليل وما جَمَعَ وحَمَلَ، فإنه جمع وضمّ ما كان منتشرًا بالنهار في تصرّفه، وذلك أنّ الليل إذا أقبل آوى كل شيء إلى مأواه. قال ابن عباس:({وَمَا وَسَقَ}: وما جمع). وقال قتادة: (وما جمع من نجم ودابة)، وكأنه -تعالى- أقسم بالضياء والظلام.
قال ابن جرير: (أقسم اللَّه بالنهار مدبرًا، وبالليل مقبلًا). وقال عكرمة: ({وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ}، يقول: ما ساقَ من ظُلمة، إذا كان الليل ذهب كلُّ شَيء إلى مأواه).
قلت: وأصل الوَسْق في لغة العرب: من وَسَقَ الشيء إذا جَمعه وحمله وضَمّه. وأوْسَق البعير أي: حَمَّلَهُ حِمله. ومنه قيل للطعام الكثير المجتمع: وَسْقٌ، وهو ستون صاعًا. قال الرازي:(ومنه قوله تعالى: {وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ} فإذا جَلَّلَ الليلُ الجبالَ والأشجار والبحار والأرض فاجتمعت له فقد وسَقَها).
وقوله تعالى: {وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ} . أي: والقمر إذا تَمَّ واجتمع واستوى وتكامل في منتصف الشهر القمري. قال ابن عباس: ({وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ}: إذا اجتمع واستوى). وقال الحسن: (اتسق: أي امتلأ واجتمع). وقال قتادة: (إذا استدار). والاتساق افتعال
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (612) - كتاب المساجد - ح (174). في أثناء حديث طويل.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (613) - كتاب المساجد - من حديث سليمان بن بريدة عن أبيه.
من الوسْق الذي هو الجمع، يقال: وسقته فاتسق. ويقال: أمر فلان متسق: أي مجتمع على الصلاح منتظم. والمقصود في الآية: أنه يقسم تعالى بالقمر إذا تكامل نورُه وأبْدَرَ، فجعله مقابلًا لليل وما وسق.
وقوله تعالى: {لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} . اللام واقعة في جواب القسم. والمعنى: لتركبن أيها الناس حالًا بعد حال، من الغنى والفقر، والموت والحياة، ودخول الجنة أو النار. قال ابن عباس:(الشدائد والأهوال: الموت، ثم البعث، ثم العَرْض).
وأخرج البخاري في "كتاب التفسير" من صحيحه، عند هذه الآية عن مجاهد قال: قال ابن عباس: [{لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ}: حالًا بَعْدَ حالٍ. قال هذا نبيّكُم صلى الله عليه وسلم](1).
والطبق واحد الأطباق، وطبقات الناس مراتبهم. قال الرازي:(و"الطَبَقُ" الحال)(2).
ومن أقوال أئمة المفسرين في تفصيل ذلك:
1 -
قال الحسن: ({لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ}: أمرًا بعد أمر، رخاء بعد شدّة، وشدّة بعد رخَاء، وغنًى بعد فقر، وفقرًا بعد غِنًى، وصحة بعد سُقْم، وسقمًا بعد صحة).
2 -
وقال سعيد بن جبير: (منزلة بعد منزلة، قومٌ كانوا في الدنيا متضعين فارتفعوا في الآخرة، وقوم كانوا في الدنيا مرتفعين فاتضعوا في الآخرة).
3 -
وقال ابن زيد: (ولتصيرُن من طبقِ الدنيا إلى طبقِ الآخرة). قال القاسمي: ({لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ} أي حالًا بعد حال. والمعنيّ بالحال الأولى البعث للجزاء على الأعمال. وبالثانية الحياة الأولى. وفيه تنبيه على مطابقة كل واحدة لأختها. فإن الحياة الثانية تماثل الأولى وتطابقها من حيث الحسّ والإدراك والألم واللذة، وإن خفي اكتناهها. وجوز أن يكون {طَبَقًا} جمع طبقة وهي المرتبة. أي لتركبن مراتب شديدة مجاوزة عن مراتب وطبقات، وأطوارًا مرتبة بالموت وما بعده من مواطن البعث والنشور. قال الشهاب: الطبق معناه ما طابق غيره مطلقًا في الأصل، ثم إنه خص بما ذكر، وهو الحال المطابقة أو مراتب الشدّة المتعاقبة).
وقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ} .
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4940) - كتاب التفسير، سورة الانشقاق، آية (19).
(2)
والعرب تقول لمن وقع في أمر شديد: وقعَ في بناتِ طَبَق، وإحدى بنات طبَق، ومنه قيل للداهية الشديدة: أم طبق، وإحدى بناتِ طبق: وأصلها من الحَيّات، إذ يقال للحية أم طبق لتحوِّيها. - حكاه القرطبي.
أي: فما لهم لا يؤمنون باللَّه ورسوله واليوم الآخر وهذا الوحي مع وجود موجبات الإيمان! وما يمنعهم من السجود إذا تليت عليهم آيات الرحمان! ؟ . قال ابن زيد: ({فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} قال: بهذا الحديث، وبهذا الأمر). وهذا استفهام إنكار. وقيل: بل هو تعجب، والمعنى: اعجبوا منهم في تركهم الإيمان مع هذه الحجج والآيات، وتركهم السجود إذا تليت عليهم آيات القرآن إعظامًا وإكرامًا واحترامًا؟ !
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: [سجدنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}](1).
وقوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ} . قال ابن كثير: (أي: من سَجِيَّتهم التكذيب والعناد والمخالفةُ للحق).
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ} . قال مجاهد وقتادة: (يكتمون في صدورهم). وهو مأخوذ من الوعاء الذي يَجْمع ما فيه. والعرب تقول: أوعيت الزاد والمتاع: إذا جعلته في الوعاء. والمقصود: واللَّه أعلم بما يضمرونه في صدورهم من المكر والتكذيب.
وقوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} . أي: فبشر يا محمد هؤلاء المكذبين بعذاب موجع أعدّه اللَّه لهم. وقد جعله بشارة تهكّمًا بهم.
وقوله تعالى: {إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ} . قال ابن عباس: (غير منقوص). وقال مجاهد: (غير محسوب). والاستثناء هنا منقطع، والتقدير: لكن الذين آمنوا حق الإيمانِ بقلوبهم، وصدّقوا ذلك بأقوالهم وأعمالهم، لهم أجر عند اللَّه غير منقوص ولا مقطوع (2)، كما قال تعالى:{عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ} [هود: 108].
تم تفسير سورة الانشقاق بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه صبيحة الأحد 18/ ذي القعدة/ 1426 هـ الموافق 18/ كانون الأول/ 2005 م
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (378) ح (108 - 109). وأخرجه أبو داود (1407)، وقد مضى.
(2)
والعرب تقول: مَنَنْتُ الحبل: إذا قطعته. وقيل المعنى: لا يُمَنُّ عليهيم به، والأول أرجح، لأن اللَّه تعالى له المنة على أهل الجنة في ما آتاهم ورزقهم، فقد دخلوها بِمَنّهِ ورحمته وكرمه. واللَّه تعالى أعلم.