الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
89 - سورة الفجر
وهي سورة مكية، وعدد آياتها (30).
موضوع السورة
القسم بالفجر وليالي العشر والشفع والوتر والليل أن العذاب نازل بأهل الكفر والمؤمنون يفارقون الحياة في أمن وأمان إلى الجنة دار السرور والبِشْر
-
منهاج السورة
-
1 -
قَسَمُ اللَّه تعالى بالفجر والليالي العشر والشفع والوتر والليل إذا يَسْرِ أن العذاب والنكال نازل بأهل الكفر.
2 -
ذكر عذاب اللَّه لِعَادٍ عقب الإصرار على الكفر، ونقمته من ثمود وفرعون وأهل المكر.
3 -
نعت سلوك الإنسان في فرحه عند الرخاء، وتغيّره عند الضيق والعناء.
4 -
أكثر الناس على البخل على اليتيم، وإهمال إطعام المسكين.
5 -
حرص أكثر الناس على جمع المال، ليكون عليهم حسرة في المآل.
6 -
وصف حال الأرض عند المعاد، ونزول الرحمان والملائكة لفصل الحساب.
7 -
بروز جهنم أمام الكافرين، لينزل بهم عذاب الجحيم.
8 -
المؤمنون يفارقون الحياة في أمن وتسليم، ويدخلون في الآخرة جنات النعيم.
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
14. قوله تعالى: {وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)}.
في هذه الآيات: يقسم اللَّه تعالى بالفجر والليالي العشر، والشفع والوتر، والليل الذي يجري ويذهب أن العذاب نازل بأهل الكفر، وقد مضى عذاب عاد وثمود وفرعون وأهل المكر.
فقوله تعالى: {وَالفَجْرِ} . قَسَمٌ من اللَّه سبحانه بالفجر وهو الصبح، لأنه وقت انفجار الظلمة عن النهار. قال عكرمة:(الفجر: فجر الصبح). وقال مجاهد: (المراد به فجرُ يوم النحر خاصة، وهو خاتمة الليالي العشر). وعن ابن عباس: ({وَالفَجْرِ} قال: النهار). قلت: والراجح الأول، وهو الصبح، كما قال تعالى:{وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ} [التكوير: 18]. فبه يحصل انقضاء الليل وظهور الضوء، وانتشار الناس وسائر الحيوانات، لطلب العيش والأرزاق.
وقوله تعالى: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} . قال ابن عباس: (إن الليالي العشر التي أقسم اللَّه بها، هي ليالي العشر الأول من ذي الحجة).
وقال عبد اللَّه بن الزبير: (أول ذي الحجة إلى يوم النحر). وقال مسروق: (ليالي العشر. قال: هي أفضل أيام السنة).
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ما العَمَلُ في أيامِ
العَشْر أفضلُ منها في هذه. قالوا: ولا الجهادُ؟ قال: ولا الجهادُ، إلا رجلٌ خرجَ يُخاطِرُ بنفسه ومالِه فلمْ يرجِعْ بشيء] (1).
ورواه أحمد وأبو داود والترمذي بلفظ: [ما مِنْ أيام العَمَلُ الصالح فيها أحبُّ إلى اللَّه، من هذه الأيام -يعني أيام العشر. قالوا: يا رسول اللَّه! ولا الجِهادُ في سبيل اللَّه؟ قال: ولا الجهاد في سبيل اللَّه، إلا رجلٌ خرج بنفسه وما له فلم يرجع من ذلك بشيء](2).
وأخرج أبو داود بسند صحيح عن هنيدة بن خالد، عن امرأته، عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، قالت:[كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يصوم تسعَ ذي الحجة، ويومَ عاشوراء، وثلاثَةَ أيام من كل شهر: أول اثنين من الشهر والخميس](3).
وقوله تعالى: {وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ} . الشفع: الزوج، والوتر: الفرد، وذلك من كل الأشياء. وعن عكرمة:(الشفع: يومُ الأضحى، والوَتْر يوم عرفة).
وقال قتادة: (إن من الصلاة شفعًا، وإن منها وترًا). وعن ابن عباس قال: (اللَّه وتر وأنتم شفع. ويقال الشفع صلاة الغداة، والوتر صلاة المغرب).
قلت: والآية عامة في كل شفع وَوَتْر، فأقسم اللَّه قسمًا عامًا يشمل الخلق والخالق، فهو وَتْر سبحانه وخلقه شفع، للازدواج فيه، كما قال جل ثناؤه:{وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات: 49]. قال مجاهد: (كل خلق اللَّه شفع، السماء والأرض، والبر والبحر، والجن والإنس، والشمس والقمر، والكفر والإيمان، والسعادة والشقاوة، والهدى والضلالة، والليل والنهار).
وفي صحيح البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة، عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:[للَّه تِسْعَةٌ وتسعون اسمًا -مئةٌ إلا واحدًا- مَنْ حَفِظَها دخَلَ الجنة، وهو وِتْرٌ يُحِبُّ الوِتْر](4). وفي رواية: (مَنْ أحصاها).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (969)، كتاب العيدين. باب فضل العمل في أيام التشريق.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2438)، وأخرجه أحمد (1/ 224)، والترمذي (757).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2437)، كتاب الصوم، باب في صوم العشر. وانظر: صحيح سنن أبي داود -حديث رقم- (2129). وهو مناسب للحديث قبله.
(4)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (6410)، كتاب الدعوات. وأخرجه مسلم (2677)، كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار. والوَتْر والوِتْر لغتان.
فاللَّه تعالى وتر -أي واحد- في ذاته وفي أسمائه وفي صفاته، ليس كمثله شيء.
قال ابن جرير: (والصواب من القول في ذلك أن يقال: إن اللَّه تعالى ذكره أقسم بالشفع والوتر، ولم يخصِّص نوعًا من الشفع ولا من الوتر دون نوع بخبر ولا عقل، وكل شفع ووتر فهو مما أقسم به، مما قال أهل التأويل إنه داخل في قسمه هذا، لعموم قسمه بذلك).
وقوله تعالى: {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} . أي: إذا يمضي. قال ابن عباس: (أي إذا ذهب). وقال مجاهد: (إذا سار). وقال الضحاك: (أي: يجري). قلت: فقوله تعالى: {وَالْفَجْرِ} ثم {وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ} فيه مقابلة لطيفة، فيكون قَسَمًا بإقبال النهار وإدبار الليل، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله تعالى: {هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} . الحِجْر: العقل: لأنه يحجر صاحبه، أي يمنعه من ارتكاب ما لا ينبغي. والمقسَم عليه محذوف، تقديره "ليعذبن" كما يدل عليه ما بعده. قال ابن عباس:({لِذِي حِجْرٍ} ذي النهى والعقل).
وعن قتادة: ({هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} قال: لذي حجى، لذي عقل ولُبّ).
قال الرازي: (المراد من الاستفهام التأكيد. كمن ذكر حجة باهرة ثم قال: هل فيما ذكرته حجّة؟ والمعنى أن من كان ذا لُبّ علم أن ما أقسم اللَّه تعالى به من هذه الأشياء فيه عجائب ودلائل على التوحيد والربوبية. فهو حقيق بأن يقسم به لدلالته على خالقه).
وقوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ} . إرم: اسم آخر لعاد الأولى، فهو على سبيل زيادة التعريف بهم. قال ابن إسحاق:(يقول اللَّه: بعاد إرم، إن عاد ابن إرم بن عوص بن سام بن نوح). وهم الذين بعث اللَّه فيهم هودًا صلى الله عليه وسلم فكذبوه، وعتوا في الأرض متمردين جبارين، فأهلكهم اللَّه بريح صرصر عاتية، {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} [الحاقة: 7 - 8].
قال مجاهد: (إِرَمُ أُمَّةٌ قديمة -يعني عادًا الأولى-). وقال السدي: (إن إرمَ بيتُ مَمْلكةِ عاد).
فقوله تعالى: {بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ} عطف بيان، زيادة تعريف بهم. قال ابن عباس:({ذَاتِ الْعِمَادِ} كانوا أهل عَمُود لا يقيمون). قال ابن كثير: (وقوله تعالى: {ذَاتِ الْعِمَادِ} ؛ لأنهم كانوا يسكنون بُيوت الشعر التي تُرفع بالأعمدة الشِّداد، وقد
كانوا أشدَّ الناس في زمانهم خِلْقَةً وأقواهم بَطْشًا، ولهذا ذَكَّرهم هودٌ بتلك النعمة وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم، فقال:{لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الأعراف: 69]. وقال تعالى: {فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً} [فصلت: 15]. وقال هاهنا: {الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ} ، أي: القبيلة التي لم يُخلق مثلُها في بلادهم، لقوتهم وشِدَّتهم وعظم تركيبهم).
وقوله تعالى: {وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} . أي: وثمود الذين كانوا ينحتون الجبال وينقبونها بيوتًا يسكنون فيها. وواديهم هو الحِجْر، أو وادي القرى، على طريق الشام من المدينة المنورة. وفي لغة العرب: اجتاب الثوب أي فتحه، ومنه الجيب.
و{جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ} : أي يقطعون الصخر بالوادي. قال ابن عباس: (ينحتونها ويخرقونها). وقال قتادة: (جابوها ونحتوها بيوتًا).
وهو كما قال تعالى: {وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ} [الشعراء: 149].
وقوله تعالى: {وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ} . أي: وفرعون صاحب الأوتاد. قيل: هي الأهرام التي بناها الفراعنة لتكون لهم قبورًا بعد موتهم، وسخروا في بنائها أقوامهم. وقيل: ذي الجنود الذين لهم خيام كثيرة يشدونها بالأوتاد. وقيل غير ذلك.
فعن ابن عباس: (الأوتاد: الجنود الذين يشدون له أمره، ويقال: كان فرعون يوتد في أيديهم وأرجلهم أوتادًا من حديد، يعلقهم بها). وقال عبد الرحمن بن زيد: (كانت له صخرة ترفَعُ بالبكرات، ثم يؤخذ الإنسان فتوتد له أوتاد الحديد، ثم تُرسل تلك الصخرة عليه فتشدخه).
قلت: والراجح بوصف فرعون {ذِي الْأَوْتَادِ} أي: صاحب الجنود والعساكر والجموع والجيوش الكثيرة والعُدَد الرهيبة التي تشدّ ملكه، وهذا يعمّ كل ما سبق.
وقوله تعالى: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ} . صفة لِعَادٍ وثمود وفرعون، أي: طغت كل طائفة منهم في بلادهم، وتمردوا وعَتوا وعاثوا في الأرض بالفساد والإفساد والأذِيَّة للناس.
وقوله تعالى: {فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ} . أي: فأفرغ عليهم ربك وألقى على تلك الطوائف عذابًا موجعًا. وهو من قول العرب: صَبَبْتُ السوط على المجرم، أي:
جَلَدْتُهُ به جلدًا شديدًا. وقد كان السوط عندهم نهاية ما يُعَذَّبُ به. وقال القرطبي: ({سَوْطَ عَذَابٍ} أي نصيب عذاب).
وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} . قال ابن عباس: (يقول: يرى ويسمع). قال ابن كثير: (يعني: يَرْصُدُ خَلْقَهُ فيما يعملون، ويجازي كُلًا بِسَعْيِهِ في الدنيا والأخرى، وسَيُعْرَضُ الخلائق كُلُّهم عليه، فيحكُم فيهم بعدله، ويقابِلُ كلًا بما يَسْتَحِقُّهُ. وهو المُنَزَّهُ عن الظُلم والجور).
15 -
20. قوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)}.
في هذه الآيات: نَعْتُ اللَّه تعالى سلوك الإنسان في العسر واليسر، فهو يفرح بالنعم عند الرخاء، ويتنكر لآلاء ربه عند الضيق والعناء. وليته إذا أنعم اللَّه عليه أكرم اليتيم، وحرص على إطعام المسكين، بل أكثر الناس يبخلون ويحرصون على جمع المال، ليكون عليهم حسرة في المآل.
فقوله تعالى: {فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} .
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: فأما الإنسان إذا ما امتحنه ربه بالنعم والغنى {فَأَكْرَمَهُ} بالمال، وأفضل عليه، {وَنَعَّمَهُ} بما أوسع عليه من فضله {فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ} فيفرح بذلك، ويسرُّ به ويقول: ربي أكرمني بهذه الكرامة).
والمقصود: إنكارٌ على الإنسان ظنه أن ورود الوان النعيم والرزق عليه علامة إكرام له من اللَّه، بل هي ابتلاء واختبار وامتحان، كما قال جل ثناؤه:{أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} [المؤمنون: 55 - 56].
وقوله تعالى: {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ} .
أي: وأمّا إذا ما اختبره سبحانه بضيق الرزق وقلة المال فيظن أن ذلك إهانة له.
وقوله: {كَلَّا} أي ليس الأمر كما يظنون، فليس الإكرام والإهانة في كثرة المال
وقلته، بل الإكرامُ في توفيق الطاعة والإهانةُ في الخذلان.
وقوله تعالى: {بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} .
قال النسفي: (أي بل هناك شر من هذا القول، وهو أن اللَّه يكرمهم بالغنى فلا يؤدون ما يلزمهم فيه من إكرامهم اليتيم بالمبرة، وحض أهله على طعام المسكين).
وفي الآيات: أمر بإكرام اليتيم، وحضّ على الإحسان إلى الفقراء والمساكين، والحثّ والتشجيع على ذلك، وفي السنة الصحيحة أمثال ذلك في أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري عن سَهْلٍ قال: [قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "أنا وكافِلُ اليتيم في الجنة هكذا"، وأشار بالسَّبابَةِ والوُسْطى وفَرَّجَ بينَهما شيئًا](1).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود بإسناد صحيح عن جابر بن عبد اللَّه مرفوعًا: [يا معشر المهاجرين والأنصار إن من إخوانكم قومًا ليس لهم مال ولا عشيرة، فليضم أحدكم إليه الرجلين أو الثلاثة](2).
الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة والترمذي بسند صحيح عن سلمان بن عامر الضَّبِّيِّ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [الصدقة على المسكينِ صَدَقَةٌ، وعلى ذي القرابةِ اثنتان: صَدَقَةٌ وصِلَةٌ](3).
ولفظ الترمذي: [الصدقةُ على المسكين صدقةٌ، وهي على ذي الرحم ثِنْتانِ: صدقةٌ وصِلة].
وقوله تعالى: {وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} . قال قتادة: ({وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ} أي الميراث). وقال ابن عباس: ({وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا} يقول: تأكلون أكلًا شديدًا).
قال الحسن: (نصيبه ونصيب صاحبه). وقال مجاهد: (اللمّ: السفّ، لفّ كل شيء).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5304)، كتاب الطلاق، وأخرجه أبو داود (5150)، والترمذي (1918)، وأحمد (5/ 333)، وابن حبان (460).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2534) في السنن، وإسناده صحيح، ورواه الحاكم.
(3)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (1844)، كتاب الزكاة، باب فضل الصدقة. انظر صحيح سنن ابن ماجة (1494)، وصحيح سنن الترمذي، عقب الحديث (531).
والمقصود: وتأكلون الميراث من أي جهة تحصل لكم، من حلال أو حرام.
أخرج النسائي وأحمد بسند صحيح عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [يأتي على الناس زمان ما يبالي الرَّجل من أين أصابَ المال؟ من حلالٍ أو حرامٍ](1).
وقوله تعالى: {وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} . الجمّ الكثير. والمعنى: وتحبون المال حبًا كثيرًا، حلاله وحرامه. قال النسفي:({حُبًّا جَمًّا} كثيرًا شديدًا مع الحرص ومنع الحقوق).
21 -
30. قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)}.
في هذه الآيات: وصف اللَّه تعالى حال الأرض عند المعاد، ونزول الرحمان والملائكة للفصل والحساب، وبروز جهنم أمام أهلها لينزل بهم العقاب، فالكفار في حسرة وندامة، والمؤمنون في طمأنينة وسلامة.
فقوله تعالى: {كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا} . كَلَّا: ردع وزجر، وإنكار لما هم عليه من الفعل. والدّك: الكسر والدقّ. قال القرطبي: (أي ما هكذا ينبغي أن يكون الأمر. فهو ردٌّ لانكبابهم على الدنيا، وجمعهم لها، فإن من فعل ذلك يندم يوم تُدَكُّ الأرض، ولا ينفع الندم). وقال الزجاج: ({إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا}: أي زلزلت فَدَكّ بعضها بعضًا). وقال المبرد: (أي ألصقت وذهب ارتفاعها).
والمقصود: زلزلت وحركت تحريكًا بعد تحريك، أو دُكَّتْ جبالها حتى استوت، وهو إخبار من اللَّه تعالى عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة.
وقوله تعالى: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} . أي: وجاء اللَّه سبحانه لفصل القضاء بين عباده، والملائكة جاؤوا بين يديه صفوفًا صفوفًا.
(1) حديث صحيح. أخرجه النسائي في السنن بإسناد صحيح من حديث أبي هريرة. انظر صحيح سنن النسائي (4149). ورواه أحمد والبخاري بنحوه.
قلت: وصفة المجيء والإتيان والاطلاع ثابتة للَّه تعالى في القرآن والسنة الصحيحة.
ففي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ} [البقرة: 210].
2 -
وقال تعالى: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ} [الأنعام: 158].
3 -
وقال هنا: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا} [الفجر: 22].
وفي صحيح السنة العطرة أحاديث في ذلك، منها:
الحديث الأول: أخرج ابن خزيمة بسند جيد عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إذا جمع اللَّه الأولى والآخرة يوم القيامة جاء الرب تبارك وتعالى إلى المؤمنين فوقف عليهم. . . .] الحديث (1).
الحديث الثاني: أخرج الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يجمعُ اللَّه الناس يوم القيامة في صعيد واحد، ثم يَطَّلِعُ عليهم رب العالمين، فيقول: ألا يتَّبع كلُّ إنسانٍ ما كان يعبد] الحديث (2).
وقوله: {وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ} . أي جيء بها يومئذ مزمومة والملائكة يجرّونها. وفي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [يؤتى بجهنم يومئذ لها سبعون ألف زمام، مع كل زمام سبعون ألف مَلك يجرّونها](3).
وقوله: {يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ} . أي: يومئذ يتذكر الإنسان ماضيه وعمله وما صدر عنه في أيام عمره في الحياة الدنيا.
وقوله: {وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى} . أي: ومن أين له اليوم منفعة الذكرى وقد مضى زمان التذكر والاتعاظ والاعتبار.
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" ص (153). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (756) وقال الألباني: وهذا إسناد لا بأس به في الشواهد.
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2072)، أبواب صفة الجنة. باب ما جاء في خلود أهل الجنة، وأهل النار، وهو صدر حديث طويل.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2842)، ورواه الترمذي في السنن (2573).
وقوله: {يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} . قال النسفي: (هذه وهي حياة الآخرة، أي ياليتني قدمت الأعمال الصالحة في الحياة الفانية لحياتي الباقية). وقال القرطبي: ({يَقُولُ يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي} أي في حياتي. فاللام بمعنى في. وقيل: أي قدمت عملًا صالحًا لحياتي، أي لحياة لا موت فيها. وقيل: حياة أهل النار ليست هنيئة، فكأنهم لا حياة لهم، فالمعنى: يا ليتني قدّمت من الخير لنجاتي من النار، فأكون فيمن له حياة هنيئة).
وأخرجَ الإمام أحمد في المسند، والبخاري في "التاريخ الكبير" بسند صحيح عن عتبة بن عبد قال: إنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [لو أنَّ رجلًا يجر على وجهه من يوم ولد إلى يوم يموت هرمًا في مرضاة اللَّه عز وجل لحقَّره يوم القيامة](1).
وقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ} . قال ابن كثير: (أي: ليس أحدٌ أشدَّ عذابًا من تعذيب اللَّه من عَصاه).
والمقصود: لا يعذِّب كعذاب اللَّه أحد، ولا يوثق كوثاقِه أحد. فالكناية ترجع إلى اللَّه تعالى، وهو قول ابن عباس والحسن.
وقوله تعالى: {وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ} . أي: ولا يوثق الكافِرَ بالسلاسل والأغلال كوثاق اللَّه أحد.
وقوله تعالى: {يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} .
أي: والصورة المقابلة لحال أولئك الكفرة الفجرة، هي صورة الأتقياء السعداء البررة، أصحاب النفوس الساكنة الموقنة بربها، المطمئنة لثوابه، الآمنة من عذابه، يقال لها عند الاحتضار -أو البعث أو دخول الجنة-: ارجعي إلى جوار ربك وثوابه ونعيم جنانه، راضية عن ربها، مرضية عنده.
فعن ابن عباس: ({يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ}، يقول: المصدقة). قال الحسن: (المطمئنة إلى ما قال اللَّه، والمصدّقة بما قال). وقال مجاهد: (النفس التي أيقنت أن اللَّه ربها، وضربت جأشًا لأمره وطاعته). وقال أيضًا: (المنيبة المخبتة التي قد أيقنت أن اللَّه ربها، وضربت لأمره جأشًا). وقال: (المخبتة والمطمئنة إلى اللَّه).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 185)، والبخاري في "التاريخ الكبير"(1/ 1/ 15)، وأبو نعيم في "الحلية"(2/ 15)، (5/ 219). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (447).
وعن ابن عباس: ({ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} قال: تردُّ الأرواح المطمئنة يوم القيامة في الأجساد).
وعن أبي صالح: ({ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً} قال هذا عند الموت).
وفي سنن أبي داود ومسند أحمد والطيالسي بسند صحيح من حديث البراء -في احتضار المؤمن- قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [ثم يجيء ملك الموت عليه السلام حتى يجلس عند رأسه فيقول: أيتها النفس الطيبة -وفي رواية: المطمئنة- اخرجي إلى مغفرة من اللَّه ورضوان] الحديث (1).
وقوله تعالى: {فَادْخُلِي فِي عِبَادِي} . قال أبو صالح: (هذا يوم القيامة). وقال قتادة: (قال: ادخلي في عبادي الصالحين).
والمقصود: يقال لها: ادخلي في زمرة عبادي الصالحين وكوني في جملتهم.
وقوله تعالى: {وَادْخُلِي جَنَّتِي} . أي: وادخلي جنتي معهم، وهي دار الخلود مَسْكَنُ الأبرار، ودار الصالحين والأخيار، وهذا هو التكريم الذي لا ينافسه كل تكريم كان في الدنيا، فنسأل اللَّه السلامة، وبلوغ هذه الكرامة.
تم تفسير سورة الفجر بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منِّه وكرمه عصر يوم السبت 24 - ذي القعدة - 1426 هـ الموافق 24/ كانون الأول/ 2005 م
* * *
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 287)، وأبو داود (2/ 281)، والطيالسي (753)، وغيرهم.