الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
78 - سورة النبأ
وهي مكية، وعدد آياتها (40).
أخرج الترمذي بسند صحيح عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول اللَّه قد شبت! قال: [شَيَّبَتْنِي هودٌ، والواقعةُ، والمرسلاتُ، وعَمَّ يتساءلون، وإذا الشمس كُوِّرت](1).
موضوع السورة
النبأ العظيم وأحوال الناس في الآخرة
-
منهاج السورة
-
1 -
تقريع المشركين في إنكارهم المعاد، وبعث الأجساد، عن طريق الاستفهام.
2 -
تقرير اللَّه تعالى آياته الكبيرة، ونعمه على العباد الجليلة.
3 -
تأكيد يوم الفصل للجزاء والحساب، يوم ينفخ في الصور ويحشر الناس ويبدأ وزن الأعمال لنيل الثواب ونكال العقاب.
4 -
نَعْتُ أهوال جهنم وأحوال سكانها في العذاب، فقد كانوا على الكفر والتكذيب بالحساب.
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3297)، كتاب التفسير. انظر صحيح سنن الترمذي (2627).
5 -
نَعْتُ أحوال أهل السعادة في جنات النعيم، فهم في الحدائق مع الكواعب والشراب والملذات وألوان التكريم.
6 -
رهبة الموقف في أرض المحشر وإنصات الجميع لقرار اللَّه العظيم، فلا يملك أحد التكلم بالشفاعة إلا بإذن اللَّه الرحيم.
7 -
حث العباد على الاستعداد لذلك اليوم العظيم، الذي يتمنى فيه الكافر لو صار ترابًا وتخلص من العذاب الأليم.
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
16. قال تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)}.
في هذه الآيات: تقريعُ اللَّه تعالى المشركين في إنكارهم المعاد وبعث الأجساد، وتقرير آياته تعالى الكبيرة ونعمه الجليلة على العباد، فقد جعل اللَّه الأرض مهادًا والجبال كالأوتاد، وخلق الأزواج والنوم والليل والنهار وجعل سبع سماوات شداد، وجعل الشمس كالسراج الوهاج، وأنزل من السحاب الماء الثجاج، ليحيي به الأرض وثمرات وجنات البلاد.
فقوله تعالى: {عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ} . إنكار من اللَّه على المشركين إنكارهم وقوع القيامة. قال قتادة: (النبأ العظيم: البعث بعد الموت). قال القاسمي: (والاستفهام للتفخيم أو للتبكيت). وسمّاه سبحانه النبأ العظيم لأن أمر القيامةِ يحمل الهول الكبير، والحدث المفظع الباهر.
وقوله تعالى: {الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ} . قال قتادة: (فصار الناس فيه فريقين: مصدق ومكذب، فأما الموت فقد أقروا به لمعاينتهم إياه، واختلفوا في البعث بعد الموت).
وقوله تعالى: {كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} . تهديد شديد، ووعيد أكيد. قال النسفي:({كَلَّا} ردع عن الاختلاف أو التساؤل هزؤًا {سَيَعْلَمُونَ} وعيد لهم بأنهم سوف يعلمون عيانًا أن ما يتساءلون عنه حق. {ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ} كرّر الردع للتشديد، و {ثُمَّ} يشعر بأن الثاني أبلغ من الأول وأشد).
وقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا} . أي: ألم نجعل الأرض ممهدة لكم تمتهدونها وتفترشونها، فهى ساكنة قارة بأهلها ثابتة. قال قتادة:({أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا}: أي بساطًا).
وقوله تعالى: {وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا} . قال قتادة: (والجبال للأرض أوتادًا أن تميد بكم).
قال القرطبي: (أي: لتسكن ولا تتكفأ ولا تميل بأهلها).
وقوله تعالى: {وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا} . قال ابن كثير: (يعني: ذكرًا وأنثى، يستمتعُ كل منهما بالآخر، ويحصُل التناسُلُ بذلكَ، كقوله: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً} [الروم: 21]).
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} . السبت والسبات هو السكون. قال الرازي: (و"السُّبات" النوم، وأصلهُ الراحة، ومنهُ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا}).
وقيل: إنما سمي السبت سبتًا؛ لأنه يوم راحة ودعة.
والمقصود: امتنانٌ من اللَّه سبحانه على عباده أن جعلَ نومهم راحةً لهم ودعة، يسكنون فيه من عناء العمل والحركة في النهار، ويهدؤون خلاله كأنهم أموات ولم تفارقهم الأرواح.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} . قال قتادة: (سكنًا).
وقال النسفي: ({وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} سترًا يستركم عن العيون إذا أردتم إخفاء ما لا تحبون الاطلاع عليه). وقال ابن جرير: ({وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا} يقول تعالى ذكره: وجعلنا الليل لكم غشاءً يغشاكم سواده، وتغطيكم ظلمته، كما يغطي الثوب لابسه، لتسكنوا فيه عن التصرف لما كنتم تتصرفون له نهارًا).
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا} . أي: وجعلنا النهار مشرقًا مضيئًا، ليناسب انتشاركم في طلب التكسب والمعاش، والتصرف بمصالح دنياكم، والتقلب في متاجركم وحوائجكم. قال مجاهد:(قوله: {النَّهَارَ مَعَاشًا} قال: يبتغون فيه من فضل اللَّه).
وقوله تعالى: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} . شدادًا: جمع شديدة، أي محكمة قوية. وقيل غلاظًا، غلظ كل واحدة مسيرة خمس مئة عام. والمقصود: سقفنا فوقكم سبع
سماوات محكمة البنيان، لا صدوع فيهن ولا فطور، ولا يبليهن مرّ الليالي والأيام، وَزَيَّنَاها بالكواكب الحسان.
وقوله تعالى: {وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} . يعني بالسراج: الشمس. وقوله: {وَهَّاجًا} أي وَقَّادًا مضيئًا. قال ابن عباس: ({وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا} يقول: مضيئًا). وفي رواية قال: (يقول سراجًا منيرًا). وقال مجاهد: ({سِرَاجًا وَهَّاجًا} قال: يتلالأ).
وقال سفيان: (يتلالأ ضوؤه). والمقصود: وجعل سبحانه الشمس من رحمته وَهّاجة تتلألأ بالضياء والنور، ويتوهج ضوؤها لأهل الأرض كلهم.
وقوله تعالى: {وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا} .
المعصرات: السحاب. قال ابن عباس: ({وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} أي: مِنَ السحاب).
وقال الفرّاء: (هي السحاب التي تتحلّبُ بالمطر ولم تُمطر بعدُ، كما يُقال: امرأةٌ مُعْصِرٌ: إذا دنا حيضُها ولم تحض). وقال ابن عباس في رواية أخرى: ({وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ} قال: الرياح). وكأن المقصود أنها تستدرُّ المطر من السحاب.
والقول الأول أرجح: أن المعصرات هي السحاب، واختاره ابن جرير وابن كثير وغيرهما.
وفي التنزيل ما يؤيد ذلكَ، قال تعالى:{اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ} [الروم: 48].
وقوله: {ثَجَّاجًا} . قال مجاهد: (مُنصبًّا). وقال الثوري: (مُتَتابعًا).
وقال ابن زيد: (كثيرًا). قلت: وفي لغة العرب: ثَجَّ الماءَ سَيَّلَهُ. ومطرٌ ثجَّاج: أي مُنْصَبٌّ جدًا. فيكون الثجُّ هو الصبُّ المتتابع الكثير.
وفي الحديث: [أفضل الحجّ العجّ والثجّ](1). والعجّ: هو رفع الصوت بالتلبيةِ. والثجُّ: سيلان دماء الهدي والأضاحي، أو صبّ دماء البُدْن.
وفي سنن أبي داود بإسناد صحيح من حديث حمنة بنت جحش. قالت: [يا رسول اللَّه، إني امرأة أستحاض حيضة كثيرة شديدة، فما ترى فيها، قد منعتني الصلاة والصوم؟ فقال: أنْعَتُ لكِ الكرسُفَ فإنه يُذْهِبُ الدَّمَ. قالت: هو أكثر من ذلك، قال:
(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي في الجامع من حديث ابن عمر. انظر صحيح الجامع (1112).
فاتخذي ثَوْبًا. فقالت: هو أكثر من ذلك، إنما أثجُّ ثجًا] الحديث (1).
وقد أورده الحافظ ابن كثير مستدلًا منه أن استعمال الثجّ إنما هو في الصبّ المتتابع الكثير.
وقوله تعالى: {لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا} . أي: لنخرج بذلكَ الماء حبًّا كالحنطة والشعير وما يُدَّخر للأناسي والأنعام، و {وَنَبَاتًا} كالكلأ والخضر الذي تأكله الدواب أو الزرع الذي يُؤكل رطبًا.
وقوله تعالى: {وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} . أي: وبساتين ملتفة الأشجار. قال ابن عباس: ({وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا} قال: مجتمعة). وقال مجاهد: (ملتفة). وقال قتادة: (التف بعضها إلى بعض). والمقصود: تشعبت أغصان أشجار تلك البساتين والحدائق فأصبحت ملتفة بعضها ببعض.
قال الرازي: (قدّم الحب لأنه الأصل في الغذاء. وثنى بالنبات لاحتياج الحيوانات إليه. وأخّر الجنات لأن الحاجة إلى الفواكه ليست بضرورية).
17 -
30. قوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)}.
في هذه الآيات: تأكيدُ اللَّه تعالى يوم الفصل ميقاتًا للحساب، يوم ينفخ في الصور ويحشر الناس لنيل الثواب ونكال العقاب، وتفتح السماء وتسير الجبال كالسراب، وتحضر جهنم ليصلاها الطغاة والمجرمون ويلقون سوء العذاب.
فقوله تعالى: {إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا} . يوم الفصل: يوم القيامة، سمي كذلكَ لأن اللَّه تعالى يفصل فيهِ بين خلقه. قال قتادة:(هو يوم عظّمهُ اللَّه، يَفصل اللَّه فيه بين الأولين والآخرين بأعمالهم).
(1) حديث حسن. أخرجه أبو داود في السنن (287). وانظر صحيح سنن أبي داود (267).
قال النسفي: ({كَانَ مِيقَاتًا} وقتًا محددًا ومنتهًى معلومًا لوقوع الجزاء، أو ميعادًا للثواب والعقاب).
وقوله تعالى: {يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} . الصور: قَرْن. قال مجاهد: ({أَفْوَاجًا}: زمرًا زمرًا). والمقصود ابتداء يوم الفصل بالنفخ في الصور فإذا جميع الخلائق من الجن والإنس يجيئون زمرًا زمرًا، وجماعة جماعة. قال ابن جرير:(وإنما قيل: {فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا} لأن كل أمة أرسل اللَّه إليها رسولًا تأتي مع الذي أرسل إليها، كما قال: {يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ} [الإسراء: 71]).
أخرج الترمذي بسند حسن عن أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [كيف أنعم وصاحبُ الصور قد التقمه وأصغى سمعه وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر بالنفخ؟ فقالوا: يا رسول اللَّه! وما تأمرنا؟ قال: قولوا: حسبنا اللَّه ونعم الوكيل](1).
وأخرج البخاري في كتاب التفسير من صحيحه عند هذه الآية: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} قال: حدَّثني محمَّد: أخبَرنا أبو معاوية عن الأعمش، عن أبي صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:[قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "ما بين النَّفختين أربعون". قال: أربعون يومًا؟ قال: أَبَيْتُ. قال: أربعون شهرًا؟ قال: أَبَيْت، قال: أربعون سنة؟ قال: أَبيتُ. قال: ثم يُنزِلُ اللَّه من السماء ماءً فيَنْبُتُون كما ينبُتُ البَقْلُ، ليسَ من الإنسان شيء إلا يَبْلى، إلا عَظمًا واحِدًا وهو عَجْبُ الذَّنَبِ، ومِنْهُ يركَّبُ الخَلْقُ يومَ القيامة](2).
وقوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} . قال القرطبي: (أي لنزول الملائكة، كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 25]. وقيل: تقطعت، فكانت قطعًا كالأبواب). والمقصود: تتصدع السماء يومئذ وتتشقق بعد أن كانت من قبل شدادًا لا فطور فيها ولا صدوع. وتصير ذات أبواب كثيرة لنزول الملائكة.
وقوله تعالى: {وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} . أي: وتُجْتَثُّ الجبال يومئذ من أصولها، فتصير هباءً منبثًا، كالسراب يحسبه من يراه من بعيد ماءً، وإنما هو هباء.
(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي في السنن -حديث رقم- (2431)، (3243) من حديث أبي سعيد الخدري، وإسناده حسن.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (4935)، كتاب التفسير، وكذلك -حديث رقم- (4814) من حديث أبي هريرة.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ} [النمل: 88].
2 -
وقال تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5].
3 -
وقال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 105 - 107].
4 -
وقال تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً} [الكهف: 47].
قال القاسمي: ({وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا} أي رفعت من أماكنها في الهواء. وذلكَ إنما يكون بعد تفتيتها وجعلها أجزاءً متصاعدة كالهباء. وفي الآية تشبيه بليغ. والجامع أن كلًا منهما يرى على شكل شيء، وليس به. فالسراب يرى كأنه بحر وليس كذلك. والجبال إذا فتتت وارتفعت في الهواء، ترى كأنها جبال وليست بجبال. بل غبار غليظ متراكم، يرى من بعيد كأنه جبل).
وقوله تعالى: {إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا} . أي مُرْصَدَةً مُهيأةً مُعَدَّةً مُجَهَّزَة. و {مِرْصَادًا} مفعال من الرَّصد، والرَّصَد: كل شيء كان أمامك.
قال القرطبي: (فجهنم مُعَدَّةٌ مترصّدة، مُتفعِّل من الرصْد وهو الترقب، أي هي متطلعة لِمَن يأتي. والمرصاد مِفعال من أبنية المبالغة كالمِعطار والمِغيار، فكأنه يكثر من جهنم انتظار الكفار).
وقوله تعالى: {لِلطَّاغِينَ مَآبًا} . قال قتادة: (مأوًى ومنزلًا). والمقصود: أن جهنم ستكون منزل الطاغين ممن طغى في دينه بالكفر، أو في دنياه بالظلم.
وقوله تعالى: {لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا} . "أحقابًا" جمع حُقْب، وهو الدهر أو المدة من الزمان، ولا عدد يحصره، بل كلما مضى حقب تبعه آخر، ويستعمل عند قصد تتابع الأزمنة، والمعنى:(ماكثين في النار ما دامت الدهور تتعاقب).
وقوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} . أي: لا يجدون فيها بردًا يبرد لهيب النار عنهم، إلا الغساق. ولا شرابًا يرويهم من شدة العطش إلا الحميم.
وللمفسرين أقوالٌ في ذلك.
أ - قوله تعالى: {لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا} .
1 -
قال ابن عباس: (البَرْد، النوم، والشراب: الماء). وقال أيضًا: (البرد: برد الشراب).
2 -
قال الزجاج: (أي لا يذوقون فيها برد ريح، ولا ظل، ولا نومٍ).
3 -
وقال الحسن وعطاء وابن زيد: ({بَرْدًا}: أي رَوْحًا وراحةً).
ب - قوله تعالى: {إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا} .
1 -
قال أبو عبيدة: (الحميم: الماء الحار). وقال النحاس: (أصل الحميم: الماء الحار، ومنه اشتق الحمّام، ومنه الحمّى، ومنه {وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ} [الواقعة: 43] إنما يراد به النهاية في الحر).
2 -
وقال ابن زيد: (الحميم: دموع أعينهم، تجمع في حياض ثم يُسْقونه. والغساق: الصديد الذي يخرج من جلودهم، مما تصهرهم النار في حياض يجتمع فيها فيسقونه). وقال إبراهيم: (الغساق: ما يقطر من جلودهم، وما يسيل من نتنهم). وقيل: الغساق الزمهرير، والأرجح أن يكون صديد أهل النار وقيحهم.
وقوله تعالى: {جَزَاءً وِفَاقًا} . الوفاق بمعنى الموافقة. قال ابن عباس: (يقول: وافق أعمالهم). وقال قتادة: (وافق الجزاء أعمال القوم أعمال السوء). و {جَزَاءً} نُصب على المصدر، والتقدير: جازيناهم جزاء وافق أعمالهم. قال الحس: (كانت أعمالهم سيئة، فأتاهم بما يسوءهم).
وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا} . قال قتادة: (أي لا يخافون حسابًا). والمقصود: أن هؤلاء الكفار لم يكونوا يؤمنون أن ثمَّ دارًا يقاضون فيها على أعمالهم، ويحاسبون على جرائمهم وكفرهم.
وقوله تعالى: {وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا} . أي: وكذب هؤلاء الكفار بالوحي والنبوة تكذيبًا كبيرًا. قال الفراء: (هي لغة يَمانية فصيحة، يقولون: كَذَّبت به كِذّابًا، وخرقت القميص خِرَّاقًا، وكل فِعْل في وزن "فَعَّلَ" فمصدره "فِعَّال" مشدَّد في لغتهم).
وقوله تعالى: {وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا} . "كُلَّ" نُصب بفعل محذوف يدل عليه {أَحْصَيْنَاهُ} . والتقدير: وأحصينا كل شيء أحصيناه كتابًا. ونُصب {كِتَابًا} على المصدر. قال القرطبي: (لأن معنى أحصينا: كتبنا، أي كتبناه كتابًا).
قال ابن كثير: (أي: وقد عَلِمنا أعمال العباد كلهم، وكتبناها عليهم، وسنجزيهم
على ذلكَ، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فشرّ).
وقوله تعالى: {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} . هو من أشدّ ما نزل في القرآن في خزي الكفار. قال قتادة: عن أبي أيوب الأزدي، عن عبد اللَّه بن عمرو، قال:(لم تنزل على أهل النار آية أشد من هذه {فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا} قال فهم في مزيد من العذاب أبدًا). رواه بسنده ابن جرير.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا} [النساء: 56].
2 -
3 -
وقال تعالى: {مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا} [الإسراء: 97].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[أما أهل النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون](1).
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[نارُكم جُزْءٌ من سبعين جُزءًا من نار جهنم. قيل: يا رسول اللَّه، إن كانت لكافية. قال: فُضِّلَتْ عليهن بتسعة وستين جُزْءًا كُلُّهُن مِثْلُ حَرِّها](2).
31 -
36. قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)}.
في هذه الآيات: إخبارُ اللَّه تعالى عن أحوال أهل السعادة والتكريم، أهل الخلود في جنات النعيم، فهم في الحدائق مع الكواعب والشراب والملذات والترفيه والتنعيم.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1/ 118). وانظر تفصيل البحث في كتابي: أصل الدين والإيمان، عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان. بحث "النار: صفتها وصفة أهلها" (2/ 760).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه -حديث رقم- (3265)، كتاب بدء الخلق. وانظر مختصر صحيح مسلم -حديث رقم- (1976).
فقوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} . المفاز من الفوز: وهو النجاة والظَّفر بالخير. والمفازة: واحدة المفاوِز، وهي الفلاة إذا قلّ ماؤها. قال الأصمعي:(سُمِّيت بذلكَ تفاؤلًا بالسلامةِ والفوز).
وعن مجاهد: ({إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} قال: فازوا بأن نجوا من النار). وقال قتادة: (أي واللَّه مفازًا من النار إلى الجنة، ومن عذاب اللَّه إلى رحمته).
وعن ابن عباس: ({إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا} قال: مُتَنَزَّهًا). قلت: ولا تعارض بين القولين، فإن الفوز بالنجاة من العذاب إلى رضوان اللَّه ورحمته هو غاية المتعة والتنزّه.
وقوله تعالى: {حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا} . قال ابن جرير: (الحدائق ترجمة وبيان عن المفاز).
والحدائق: جمع حديقة، وهي البستان المحوَّط عليه. والأعناب: جمع عنب، أي كروم أعناب. والمعنى: إن المتقين يوم القيامة يتنزهون في حدائق الجنان، وكروم الأعناب، وهم في غاية المتعة والسرور، والأمن والراحة والحُبور.
وقوله تعالى: {وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا} . الكواعب: النواهد. جمع كاعِب. والأتراب: الأقران في السن، جمع تِرْب.
قال ابن زيد: (الكواعب: التي قد نهدت وكعّبَ ثديها). والمقصود: وحورًا نواهد، أي: ثديهن نواهد لم يتدلَّين لأنهن أبكار عُرُب أتراب، أي في سِنِّ واحدة. قال القاسمي:({وَكَوَاعِبَ} أي بنات فلكت ثديّهن، أي استدارت مع ارتفاع يسير {أَتْرَابًا} أي متساويات في السن).
وقوله تعالى: {وَكَأْسًا دِهَاقًا} . قال ابن عباس: (مملوءة متتابعة). وقال عكرمة: (صافية). وقال الحسن: (مُترعة مملوءة). وفي لغة العرب يقال: أَدْهَقْتُ الكأس: أي ملأتها، وكأسٌ دِهاق أي ممتلئة. والمقصود: وَيُقَدَّمُ لهؤلاء الأبرار المتقين في الجنة كأس ملأى من خمرٍ لذة للشاربين، ليجتمع عليهم بذلكَ جمال الحدائق والكواعب ولذة الشراب.
وقوله تعالى: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا} . اللغو: الباطل. قال القرطبي: (هو ما يُلغى من الكلام ويُطَّرَح. قال: وذلك أن أهل الجنة إذا شربوا لم تتغير عقولهم، ولم يتكلموا بلغو، بخلاف أهل الدنيا). و {كِذَّابًا} أي مكاذبة. أي لا يُكَذّب بعضهم بعضًا ولا يسمعون كذبًا. قال بعض العلماء: (اللغو والتكذيب مما تألم له أنفس الصادقين، بل هو من أشد الأذى لقلوبهم. فأرادَ اللَّه إزاحة ذلكَ عنهم).
وقوله تعالى: {جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا} . قال النسفي: ({جَزَاءً} مصدر، أي جزاهم جزاء {مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً} مصدر، أو بدل من جزاء {حِسَابًا} صفة، يعني كافيًا، أو على حسب أعمالهم). وفي لغة العرب: أعطاني فلانًا فأحسبني أي: كفاني. ومنه {حَسْبِيَ اللَّهُ} أي: اللَّه كافِيَّ. والمقصود: كُلُّ ما سبق ذكره من ألوان السرور والنعيم، إنما جازى اللَّه به المتقين، فأعطاهم عطاء كافيًا وافرًا شاملًا كثيرًا، مقابل ما قدَّموا من العطاء لهذا الدين وجاهدوا في سبيل اللَّه جهادًا كبيرًا.
37 -
40. قوله تعالى: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)}.
في هذه الآيات: إخبارُ اللَّه تعالى عن نفسه أنه رب السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، ولا يملك أحد أن يتكلم يوم الحشر إلا بإذنه الكريم، فهو يوم رهيب يتمنى الكافر فيهِ لو صار ترابًا وتخلص من العذاب المهين الأليم.
فقوله: {رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ} . إِخْبَارٌ من اللَّه تعالى عن عظمته وجبروته ورحمته. وقرأ ابن مسعود ونافع وأبو عمرو {رَبُّ} بالرفع على الاستئناف، "الرحمنُ" خبره. أو بمعنى هو رب السماوات، ويكونُ "الرحمن" مبتدأ ثانيًا.
وقرأ ابن عامر وبعض أهل البصرة والكوفة {رَبِّ} بالخفض، نَعْتًا لقوله:{جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ} . والتقدير: جزاء من ربك ربِ السماواتِ الرحمنِ. وهذه القراءة بالخفض هي الأشهر بين القرّاء.
وقوله: {لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ} . قال مجاهد: (كلامًا). وقال ابن زيد: (لا يملكون أن يخاطبوا اللَّه. والمخاطب: المخاصم الذي يخاصم صاحبه). والمقصود: لا يملك أحد في ذلك اليوم الرهيب ابتداء مخاطبته سبحانه إلا بإذنه.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هود: 105].
2 -
وقال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].
وفي الصحيحين والمسند من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [يجمع اللَّه عز وجل الأولين والآخرين في صعيد واحد، يُسْمِعُهم الداعي وينفذُهم البصر] الحديث (1).
وقوله: {يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ} . يومَ: نصب على الظرفية، والتقدير: يوم لا يملكون منه خطابًا يوم يقوم الروح. والروح: جبريل عند الجمهور، ويؤيده قوله تعالى:{نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ} [الشعراء: 193]. وهناك أقوال غريبة عجيبة عند المفسرين في تفسير الروح لا دليل عليها. قلت: وإنما خصّه اللَّه سبحانهُ بالإفراد بالذكر من بين سائر الملائكة لشرفه فيهم.
والمقصود: يقف جبريل عليه السلام والملائكة الكرام في ذلكَ المشهد المهيب مصطفين صامتين لا يتكلمون.
وقوله: {إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} . أي: إلا من أذن له الرحمن بالشفاعة.
أو لا يتكلمون إلا في حق من أذن له الرحمن، وكان ذلكَ الشخص ممن قال صوابًا في الدنيا: أي شهد بالتوحيد. فالضمير في {لَا يَتَكَلَّمُونَ} يرجع إلى الملائكة. وقيل: بل هو أعم، فلا يتكلم أحد يومئذ إلا بإذنه.
فعن ابن عباس: ({إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} يقول: إلا من أذن له الرب بشهادة أن لا إله إلا اللَّه، وهي منتهى الصواب). وقال مجاهد: ({وَقَالَ صَوَابًا} قال حقًا في الدنيا، وعمل به). وقال أبو صالح: (قال: لا إله إلا اللَّه).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].
2 -
وقال تعالى: {يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هود: 105].
قال الزمخشري: ({لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا} هما شريطتان: أن يكون المتكلم منهم مأذونًا لهُ في الكلام، وأن يتكلم بالصواب، فلا يشفع لغير مرتضى، لقوله تعالى: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28]).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [يُضْرَبُ الصراط بين ظَهْرانَي
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه -حديث رقم- (3340)، كتاب أحاديث الأنبياء. وأخرجه مسلم في الصحيح (1/ 127 - 129).
جَهَنَمَ، فأكونُ أنا وأمتي أوَّلَ مَنْ يُجِيزُ، ولا يتكلم يومئذ إلا الرسل، ودعوى الرسل يومئذ: اللهم! سَلِّمْ، سَلِّم] (1).
وفي صحيح مسلم -أيضًا- من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [ثم يضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون: اللهم سلِّم سلِّم. فيمر المؤمنون كطرف العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والركاب، فناج مُسَلَّم (2)، ومخدوش مرسَل (3)، ومكدوس في نار جهنم (4)، حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فوالذي نفسي بيدهِ ما من أحد منكم بأشدّ مناشدةً في الحق -قد تبين لكم- من المؤمنين للَّه يوم القيامةِ لإخوانهم الذين في النار. يقولون: ربنا! كانوا يصومون معنا، ويصلون ويحجّون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار فيخرجون خلقًا كثيرًا] الحديث (5).
وقوله: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ} . أي الكائن الواقع لا محالة. يعني يوم القيامة.
وقوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا} . قال قتادة: (سبيلًا. قال: اتخذوا إلى اللَّه مآبًا بطاعته، وما يقربهم إليه). وقال سفيان: (مرجعًا منزلًا).
والمقصود: فمن أراد النجاة اتخذ مرجعًا وطريقًا إلى اللَّه سبحانهُ، بالتقرب إليه بالإيمان والعمل الصالح.
وقوله: {إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا} . قال ابن جرير: (يقول: إنا حذرناكم أيها الناس عذابًا قد دنا منكم وقرب). قال ابن كثير: (يعني يوم القيامة، لتأكُّد وقوعه صار قريبًا، لأنَّ كلَّ ما هو آتٍ آتٍ).
وقوله: {يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ} . أي: ذلكَ العذاب يوم يعرض على الإنسان جميع أعماله أولها وآخرها، قديمها وحديثها، خيرها وشرها.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (182)، كتاب الإيمان. باب معرفة طريق الرؤية، في أثناء حديث.
(2)
أي: نجاة وسلامة.
(3)
أي: خدش، ولكن صاحبه ينطلق ويصل مع الإرهاق.
(4)
أي: متراكم بعضه فوق بعض في جهنم.
(5)
حديث صحيح. رواه مسلم (1/ 118). وانظر تفصيل البحث في كتابي: أصل الدين والإيمان - عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان - بحث: الصراط على جهنم والشفاعة (2/ 752).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا} [الكهف: 49].
2 -
وقال تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} [القيامة: 13].
3 -
وقال تعالى: {يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ} [آل عمران: 30].
وأخرج البخاري ومسلم عن عديِّ بن حاتم قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [ما منكم أحد إلا سيكلمه ربه، ليس بينَهُ وبينه ترجمان، ولا حجابٌ يَحْجُبُه، فينظُر أيمنَ منه فلا يرى إلا ما قدَّمَ من عمله، وينظُر أشأمَ منهُ فلا يرى إلا ما قدَّمَ، وينظر بين يديهِ فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشقِّ تمرة](1).
وقوله: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} . وذلكَ حين يرى القصاص بين البهائم، ثم يسمع قول اللَّه لها: كوني ترابًا، فعندئذ يتقطع قلبه ندامة وحسرة، ويقول:{يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا} . فقد ارتسمت أمامه جرائمهُ التي أجَّجَ فيها الحياة الدنيا، وتخيّل لحظات القصاص اليوم، وأيقن أن لا فرار من أمر اللَّه ولا نهايةَ لعذابه ونكاله، وعلم أنَّ البهائم قد اقتصت من بعضها ولكنها سعدت إذ انتهت، وأما من كفر باللَّه من الثقلين فلا سبيلَ اليوم إلى الفرار أو الخلاص.
ففي صحيح مسلم عن أبي هريرةَ مرفوعًا: [لتؤدن الحقوق إلى أهلها يوم القيامةِ، حتى يفاد للشاةِ الجلحاء من الشاة القرناء](2). والجلحاء: التي لا قرن لها.
وله شاهد عند الإمام أحمد عنه مرفوعًا بلفظ: [يقتصّ الخلق بعضهم من بعض، حتى الجماء من القرناء، وحتى الذرة من الذرة](3). والجمّاء: التي لا قرن لها.
ومن طريق أبي حجيرة عنه مرفوعًا بلفظ: [ألا والذي نفسي بيده، ليختصمن كل شيء يوم القيامة حتى الشاتان فيما انتطحتا](4).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6539)، كتاب الرقاق. وأخرجه مسلم (1016)، كتاب الزكاة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 18 - 19) كتاب الظلم. باب القصاص وأداء الحقوق يوم القيامة، من حديث أبي هريرة.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (2/ 363). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1967).
(4)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (2/ 290). وانظر "الصحيحة" ج (3) ص (609).
وفي مسند أحمد والطيالسي بسند صحيح عن أبي ذر قال: [رأى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم شاتين تنتطحان، فقال: يا أبا ذر! أتدري فيمَ تنتطحان؟ قلت: لا. قال: ولكن ربك يدري، وسيقضي بينهما يوم القيامة](1).
وفي التفاسير عن ابن عمر (ونحوه عن عبد اللَّه بن عمرو وأبي هريرة) قال: (إذا كان يوم القيامةِ مُدَّت الأرضُ مَدَّ الأديم، وحشر الدواب والبهائم والوحوش، ثم يوضع القصاص بين البهائم، حتى يُقْتَصَّ للشاةِ الجماء من الشاة القرناء بنطحتها، فإذا فرغ من القصاص بينها قيل لها: كوني ترابًا، فعند ذلك يقول الكافر: {يَالَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا}).
وعن سفيان قال: (إذ قيل للبهائم: كونوا ترابًا، يقول الكافر يا ليتني كنتُ ترابًا).
تم تفسير سورة النبأ بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه عصر يوم السبت 10/ ذي القعدة/ 1426 هـ الموافق 10/ 12/ 2005 م.
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 162). وانظر تفصيل البحث في كتابي: أصل الدين والإيمان - عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان (2/ 741).