الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موضوع السورة
تنزيه اللَّه الأعلى، وانتفاع المؤمن بالذكرى وشقاء الكافر في النار الكبرى
-
منهاج السورة
-
1 -
الأمر بتسبيح اللَّه تعالى الذي خلق وقدر وهدى وأخرج المرعى.
2 -
البشرى لنبينا صلى الله عليه وسلم أن يتلقى الوحي فيحفظه ولا ينسى، وما عليه إلا الذكرى.
3 -
انتفاع المؤمن بالذكرى، وركوب الشقي الهوى، ليصلى النار الكبرى.
4 -
تأكيد الفلاح لمن تطهر من الشرك وتزكى، وعظم أمر ربه وصلى.
5 -
أكثر الناس يؤثرون الحياة الدنيا، والآخرة خير لهم وأبقى.
6 -
هذا البيان في القرآن كما هو في الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى.
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
13. قوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)}.
في هذه الآيات: الأَمْرُ بتنزيه اللَّه تعالى الذي أَحسن كل شيء خلقه ثم هدى، والذي أخرج المرعى فجعله هشيمًا أحوى، والبشرى لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم أن يتلقى الوحي فيحفظه ولا ينسى، وما عليه إلا الذكرى، فهي تنفع من صلى وتزكى، وتكون حسرة على مستحق النار لا يموت فيها ولا يحيا.
فقوله تعالى: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} . أي: نزهه عن كل ما لا يليق به بقولك: "سبحان ربي الأعلى". قال ابن عباس والسُّدي: (معنى {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} أي عَظِّم ربك الأعلى).
أخرج أحمد وأبو داود بسند صحيح عن ابن عباس: [أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قال: "سبحان ربي الأعلى"](1).
قلت: وقوله جلّت عظمته {الْأَعْلَى} دليل صريح على علوه تعالى على جميع خلقه، وقد فطر سبحانه عباده على ذلك، فالقلوب تتوجه بذلك إليه، والأيدي ترفع عند الدعاء إلى السماء رجاء إجابته وإنزاله الفرج.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ} [النحل: 50].
2 -
وقال تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 7].
3 -
وقال تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [ألا تأمنوني وأنا أمين مَنْ في السماء؟ يأتيني خبر السماء صباحًا ومساءً](2).
وقوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} . أي خلق الخليقة والأشياء، وسوّى كل مخلوق في أحسن الهيئات. والتسوية التعديل. قال ابن عباس:(حسَّن ما خلق).
وقوله تعالى: {وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى} . يعني الهداية العامة لجميع الخلق، وهي أول مراتب الهداية. والمعنى: قدّر أجناس الأشياء، وأنواعها، وصفاتها، وأفعالها، وأقوالها، وآجالها، فهدى كل واحد منها إلى ما يصدر عنه وينبغي له.
قال مجاهد: (قدّر الشقاوة والسعادة، وهدى للرشد والضلالة). وعنه قال: (هدى الإنسان للسعادة والشقاوة، وهدى الأنعام لمراعيها). وقيل: قدّر لكل حيوان ما يصلحه، فهداه إليه، وعرفه وجه الانتفاع به.
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 232)، وأبو داود (883). وانظر صحيح سنن أبي داود (785).
(2)
حديث صحيح. وهو جزء من حديث طويل. انظر مختصر صحيح مسلم (514)، ورواه البخاري.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَامُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه: 49 - 50].
2 -
وقال تعالى: {ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ} [السجدة: 6 - 7].
وفي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللَّه كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. وكان عرشه على الماء](1).
ورواه الترمذي عنه بلفظ: [قَدَّر اللَّه المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرضين بخمسين ألفَ سنة](2).
وقوله تعالى: {وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى} . قال قتادة: (نبت كما رأيتم، بين أصفر وأحمر وأبيض). قال ابن جرير: (يقول: والذي أخرج من الأرض مرعى الأنعام، من صنوف النبات وأنواع الحشيش).
وقوله تعالى: {فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى} . قال ابن عباس: (هشيمًا مُتَغيِّرًا). وقال مجاهد: (غثاء السيل أحوى، قال: أسود). وقال قتادة: (يعود يبسًا بعد خضرة).
وقال ابن زيد: (كان بقلًا ونباتًا أخضر، ثم هاج فيبس، فصار غثاء أحوى، تذهب به الرياح والسيول).
قلت: والغثاء: ما يقذف به السيل على جوانب الوادي من الحشيش والنبات وفتات الأشياء. فإذا يبس قيل له غثاء. قال الفراء: (الغثاء: اليبيس). والأحوى: المسودّ من القِدَم. قال الرازي: (وبعير أحوى: إذا خالط خُضْرَته سوادٌ وصفرة). وقال الأصمعي: (الحُوَّة حُمْرَة تضرب إلى السواد).
فيكون المعنى: فجعله -تعالى- بعد أن كان أخضر - غثاء، أي: هشيمًا جافًا {أَحْوَى} أي: أسود بعد اخضراره، وذلك أن الكلأ إذا يبس اسودّ، واللَّه تعالى أعلم.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 51) في القدر: باب كتب المقادير قبل الخلق، وانظر مختصر صحيح مسلم (1841). وفي لفظ "قدَّر" بدل "كتب".
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي وأحمد. انظر صحيح سنن الترمذي (1750)، أبواب القدر.
وقوله تعالى: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} . فيه تأويلان:
التأويل الأول: أي: سنقرئك يا محمد هذا القرآن فتحفظ ولا تنسى ما تقرؤه. قال القرطبي: (وهذه بُشرى من اللَّه تعالى، بشّره بأن أعطاه آية بينة، وهي أن يقرأ عليه جبريل ما يقرأ عليه من الوحي، وهو أُمِّي لا يكتب ولا يقرأ، فيحفظه ولا ينساه).
التأويل الثاني: قيل بل قوله {فَلَا تَنْسَى} طلب. أي لا تنسى ما يُتلى عليك.
وقال الجنيد: ({فَلَا تَنْسَى} العمل به).
وقوله: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} . فيه تأويلان حسب مفهوم الآية قبله:
التأويل الأول: قال قتادة: (كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئًا إلا ما شاء اللَّه).
قيل: {إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ} أن ينسخه، فيذهب به عن حفظه برفع حكمه وتلاوته.
التأويل الثاني: قال النسفي: (وقيل: قوله: {فَلَا تَنْسَى} على النهي والألف مزيدة للفاصلة، كقوله السبيلا. أي فلا تغفل قراءته وتكريره فتنساه إلا ما شاء اللَّه أن ينسيكه برفع تلاوته).
وقوله: {إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى} . أي: إنه تعالى يعلم ما ظهر وما بطن، فلا يخفى عليه شيء من أقوال العباد وأعمالهم. قال ابن عباس:({وَمَا يَخْفَى}: ما في قلبك ونفسك). وقيل: الجهر ما حفظته من القرآن في صدرك، {وَمَا يَخْفَى} هو ما نسخ من صدرك.
وقوله تعالى: {وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى} . أي نهون عليك عمل الجنة حتى تبلغها.
قال ابن عباس: (نيسرك لأن تعمل خيرًا). وعن ابن مسعود: ({لِلْيُسْرَى} أي للجنة). وعن الضحاك: (نوفقك للشريعة اليسرى، وهي الحنيفية السمحة السهلة).
وقوله تعالى: {فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى} . أي: فعِظ يا محمد الناس بهذا الوحي ما كانت الموعظة نافعة والذكرى مُجْدية. قال ابن كثير: (ومن هاهنا يُؤخَذُ الأدب في نَشْر العلم، فلا يضعه عند غير أهله، كما قال أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: ما أنت بمحدِّثٍ قومًا حديثًا لا تبلُغُه عقولُهم إلا كان فتنة لبعضهم. وقال: حَدِّث الناس بما يَعْرِفون، أتحبون أن يُكَذَّبَ اللَّه ورسوله؟ ).
وقوله تعالى: {سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى} . أي: سيتعظ بوعظك من يخاف اللَّه ويخشى عقابه، فهذا الذي يزداد بالتذكير خشية وسدادًا.
وقوله تعالى: {وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى} . أي: ويتجنب الذكرى ويبعد عنها الشقي في علم اللَّه. قال قتادة: (فلا واللَّه لا يَتَنَكَّبُ عبد هذا الذكر زهدًا فيه وبغضًا لأهله، إلا شقيٌّ بَيِّنُ الشقاء). قال النسفي: ({الْأَشْقَى} الكافر، أو الذي هو أشقى الكفرة لتوغله في عداوة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم).
وقوله تعالى: {الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى} . أي الذي يدخل النار العظمى، وهي نار جهنم، وأما النار الصغرى فنار الدنيا.
وقوله تعالى: {ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى} . أي: لا يموت فيها فيستريح مما هو فيه من العذاب {وَلَا يَحْيَى} حياة ينتفع بها.
أخرج الإمام مسلم في الصحيح عن أبي سعيد، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [أمّا أهلُ النار الذين هم أهلها، فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون، ولكن ناس أصابتهم النار بذنوبهم فأماتتهم إماتة، حتى إذا كانوا فَحْمًا أُذِنَ بالشفاعة، فجيءَ بهم ضبائِرَ ضبائر، فبثوا على أنهار الجنة، ثم قيل: يا أهل الجنة أفيضوا عليهم، فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل](1).
وأخرج الإمام أحمد في المسند على شرط الشيخين عن أبي سعيد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: ["أمّا أهل النار الذين هم أهلها لا يموتون ولا يحيَون، وأما أناسٌ يُريد اللَّه بهم الرحمةَ فيميتهُم في النار فيدخُل عليهم الشُفعاء، فيأخذ الرجل الضُبارة فَيُنْبِتهمُ -أو قال: يَنبتون- في نهر الحياءِ -أو قال: الحياة - أو قال: الحيوانِ - أو قال: نهر الجنة، فينبتون- نبات الحبَّة في حميل السيل". قال: وقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أما تَرَوْنَ الشجرةَ تكون خضراءَ، ثم تكون صفراءَ، أو قال: تكون صفراء ثم تكون خضراء؟ ". قال: فقال بعضهم: كأَنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان بالبادية](2).
14 -
19. قوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (185)، وابن ماجة (4309)، وأحمد (3/ 11)، وغيرهم.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (3/ 5)، وإسناده على شرط البخاري ومسلم.
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)}.
في هذه الآيات: إقرار الفلاح لمن تزكى من الشرك وعظم أمر ربه وصلى، وأكثر الناس يؤثرون الحياة الدنيا والآخرة خير لهم وأبقى، وتقرير هذا في القرآن كما هو في الصحف الأولى، صحف إبراهيم وموسى.
فقوله تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى} . قال ابن عباس: (يقول: مَنْ تزكى من الشرك).
وقال الحسن: (من كان عمله زاكيًا). وقال قتادة: (يعمل وَرِعًا). وقال: (تزكى رجل من ماله، وأرضى خالقه).
والمقصود: يجمع كل ما سبق: أي قد نجح وأدرك أمله مَنْ تَطَهَّرَ من الكفر والآثام، وعمل بطاعة الرحمان.
وقوله تعالى: {وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} . أي ذكر اسم ربه بلسانه، وأقام الصلوات المفروضة وذكر اللَّه فيها بتحميده ودعائه. قال القاسمي:({وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى} أي تذكر جلال ربه وعظمته، فخشع وأشفق وقام بِما لَهُ وما عليه، كقوله تعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ} [الأنفال: 2]. وجوز أن يحمل {تَزَكَّى} على إيتاء الزكاة و {صَلَّى} على إقامة الصلاة، كآية: {وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي} [طه: 14]، لما عهد في كلامه تعالى من الجمع بينهما في عدة آيات، لأنهما مبدأ كل خير وعنوان السعادة).
وقوله تعالى: {بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا} . قال ابن كثير: (أي: تُقَدِّمونها على أمر الآخرة، وتُبَدُّونها على ما فيه نفعُكم وصلاحُكم في معاشكم ومعادكم).
وقوله تعالى: {وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى} . قال قتادة: (خير في الخير، وأبقى في البقاء). قال ابن جرير: (يقول: وزينة الآخرة خير لكم أيها الناس وأبقى بقاء، لأن الحياة الدنيا فانية، والآخرة باقية، لا تنفد ولا تفنى).
وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى} . قال أبو العالية: (قصة هذه السورة لفي الصحف الأولى). وقال قتادة: (تتابعت كتب اللَّه كما تسمعون، أن الآخرة خير وأبقى).