الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
96 - سورة العلق
وهي سورة مكية، وأول شيء نزل من القرآن، وعدد آياتها (19).
أخرج الترمذي والنسائي عن جابر قال: [صلى معاذ بن جبل لأصحابه العشاء، فطوّل عليهم، فانصرف رجل منا. فَأُخبِرَ مُعاذٌ عنه، فقال: إنه منافق. فلما بلغَ ذلك الرجل، دخل على النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره بما قال معاذ. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: أتريد أن تكون فَتَّانًا يا مُعاذُ، إذا أممْت الناس فاقرأ بـ {وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا} و {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} و {وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى} و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}](1).
موضوع السورة
ضرورة القراءة والكتابة لطلب العلم والحث على الجهاد في حمل الدين ومقارعة أهل الظلم
-
منهاج السورة
-
1 -
الأمر بالقراءة والحث على الكتابة بالقلم، لتثبيت الفهم والعلم.
2 -
الإخبار عن سلوك الإنسان حالة السعة وبسط الرزق والغنى.
3 -
حث اللَّه تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على الثبات على الحق والهدى، وتحدي الطاغية الذي كذب وتولى.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري ومسلم من حديث جابر كما مضى. وانظر صحيح النسائي (954).
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
5. قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)}.
في هذه الآيات: أمْرُ اللَّه تعالى رسوله بالقراءة باسم اللَّه الذي خلق، خلق الإنسان من علق، والحث على الكتابة بالقلم، لتثبيت الفهم والعلم.
أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت: [أَوّلُ ما بُدِئ به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رُؤيا إلا جاءت مثلَ فلقِ الصبح، ثم حُبِّبَ إليه الخلاء، وكان يخلو بغار حِراء فيتحنَّث فيه قبل أن ينزعَ إلى أهله، ويتزود لذلك ثم يرجع إلى خديجة فيتزودُ لمثلها، حتى جاءه (وفي رواية: فَجِئَهُ) الحق وهو في غار حراء فجاءه الملك فقال: اقرأ قال: ما أنا بِقَارِئ. قال: فأخذني فغطني حتى بلغ مني الجَهْدَ ثم أرسلني فقال: اقرأ. قلت: ما أنا بِقَارِئ، فأخذني فغطني الثانية حتى بلغ مني الجهدَ ثم أرسلني فقال: اقرأ، فقلت: ما أنا بِقَارِئ، فأخذني فغطني الثالثة فقال:{اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} الآيات. فرجع بها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرجُفُ فؤاده (وفي رواية: ترجف بوادره) فدخل على خديجة بنتِ خويلد فقال: زملوني زملوني، فزملوه حتى ذهب عنه الروع فقال لخديجة: مالي؟ وأخبرها الخبر، وقال: لقد خشيت على نفسي. فقالت له خديجة: كلّا أبشر فواللَّه ما يخزيك اللَّه أبدًا، فواللَّه إنك لتَصِل الرحم وتصدقُ الحديث وتحمل الكلَّ وتَكْسِبُ المعدوم وتَقْرِي الضيف، وتعين على نوائب الحق. فانطلقت به خديجة حتى أتت به ورقةَ بنَ نوفل بنِ أسد بن عبد العزى بن قصي وهو ابن عم خديجة أخي أبيها، وكان امرأً قد تَنَصَّر في الجاهلية، وكان يكتب الكتابَ العبراني فيكتب من الإنجيل بالعبرانية (وفي رواية: الكتاب العربي ويكتب من الإنجيل بالعربية) ما شاء اللَّه أن يكتب، وكان شيخًا كبيرًا قد عمي. فقالت له خديجة: يا ابن عمِّ اسمع من ابن أخيك. فقال له ورقة: يا ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خبرَ ما رأى، فقال له ورقة: هذا الناموس (1) الذي نزل على موسى، يا ليتني فيها جذَعًا (2)، ليتني أكون حيًا إذ يخرجك قومُكَ. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: وَمُخْرِجِيَّ هم؟ قال: نعم، لم يأت رجل قط بمثل ما جئت به إلا عودي (وفي رواية: أوذي) وإن يدركني يومُكَ أنصُرْك نصرًا مؤزرًا، ثم لم ينشبْ ورقة أن توفي وفتر الوحي] (3).
فكانت سورة العلق أول شيء نزل من القرآن (4)، وقد رُوي ذلك عن عائشة رضي الله عنها، وكذلك عن بعض الصحابة والتابعين.
قال عبيد بن عمير: (أول سورة نزلت على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَق}).
وقال عطاء بن يسار: (أول سورة نزلت من القرآن {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}).
وقد روى ابن جرير في تفسيره بسنده إلى أبي رجاء العطاردي قال: (كنا في المسجد الجامع، ومقرئنا أبو موسى الأشعري، كأني أنظر إليه بين بردين أبيضين، قال أبو رجاء: عنه أخذت هذه السورة: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} وكانت أول سورة نزلت على محمد).
قال ابن جرير: (يعني جل ثناؤه بقوله: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ} محمدًا صلى الله عليه وسلم يقول: اقرأ يا محمد بذكر ربك (5){الَّذِي خَلَقَ} . ثم بين الذي خلق فقال: {خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ} يعني: من الدم، وقال: من علق، والمراد به من علقة، لأنه ذهب إلى الجمع. ثم قال: وقوله: {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ} يقول: اقرأ يا محمد وربك الأكرم {الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} خَلْقَهُ الكتاب والخط).
وقال قتادة: (القلم نعمة من اللَّه عظيمة، لولا ذلك لم يقم ولم يصلح عيش). وقال ابن زيد: ({عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} قال: عَلَّمَ الإنسان خطًا بالقلم).
(1) الناموس: صاحب السر، والمراد جبريل.
(2)
جذعًا: أي شابًا فَتيًا.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3) - كتاب بدء الوحي. وأخرجه أحمد (6/ 153)، ورواه مسلم.
(4)
انظر التحقيق في ذلك في تفسير سورة المدثر، وبسط الأدلة في ذلك هناك.
(5)
الباء في {بِاسْمِ رَبِّكَ} في محل نصب على الحال. والتقدير: اقرأ يا محمد مفتتحًا باسم ربك. وكأنه قيل: قل باسم اللَّه ثم اقرأ. فهو إشارة إلى ذكر التسمية في ابتداء كل سورة. وقيل: الباء بمعنى على. أي اقرأ على اسم ربك. فالمقروء محذوف وهو القرآن. وقيل: الباء زائدة. والتقدير: اقرأ اسم ربك، كقوله تعالى:{تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ} [المؤمنون: 20].
قلت: والعلم لابد لِحِفْظِهِ من الكتابة، وقد ربط اللَّه سبحانه في هذه الآيات التي هي أول ما نزل من القرآن بين القراءة والكتابة على أنهما وسيلتا العلم الأولى لا ينفصلان، فقال جل ذكره:{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ} . وفي ذلك امتنان منه -تعالى- على الإنسان أن علّمه الخط بالقلم، ولم يكن يعلمه، مع أشياء كثيرة غير ذلك، مما علمه ولم يكن يعلمه. والدرس النافع المستنبط هنا هو أهمية الكتابة لطالب العلم.
أخرج الحاكم والطبراني عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [قَيِّدُوا العِلْمَ بالكتاب](1).
وله شاهد عند الخطيب وابن عبد البر بسند حسن عن عبد اللَّه بن عمرو قال: [قلتُ: يا رسول اللَّه! أُقَيِّدُ العلمَ؟ قال: نعم. قلت: وما تقييده؟ قال: الكتاب].
ومن ثَمَّ فالقراءة وحدها لا تكفي لتثبيت العلم، وإنما تعتضد بالكتابة، فبالقراءة تتشكل ثقافة عامة، وفرق بين الثقافة وبين العلم، فإن العلم يقتضي استحضار الأدلة على جزئياته وفروعه، وهذا لا يكون إلا بالاستعانة بالكتابة والتصنيف والاستفادة من طريقة العلماء.
6 -
19. قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)}.
في هذه الآيات: إخبار اللَّه تعالى عن حال الإنسان عند حصوله السعة وبسط الرزق والغنى، فهو يتقلب في الفرح والأشر والبطر والطغيان، وسرعان ما ينسى المنعم المتفضل المنّان. وحثُّ اللَّه تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم على الثبات على الحق والهدى، وتحدي الطاغية الذي كذب وتولى.
فقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} . أى: حقًا، إن الإنسان ليطغى
(1) حسن لشواهده. أخرجه الحاكم في "المستدرك"(1/ 106)، والطبراني في "الكبير"(1/ 62/ 2)، والخطيب في "التقييد" ص (96 - 97) -كشاهد له- وكذلك ابن عبد البر من طرق، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (2026)، وصحيح الجامع (4310).
إن رأى نفسه مستغنيًا بماله وقوته. قال النسفي: ({كَلَّا} ردع لمن كفر بنعمة اللَّه عليه بطغيانه وإن لم يذكر لدلالة الكلام عليه. قال: ومعنى الرؤية العلم).
قلت: وهذه الآيات نزلت في أبي جهل الذي كان يحاول منع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الصلاة والدعوة وبلاغ الوحي، ويؤذيه أشد الإيذاء. فجاءت هذه الآيات تحمل له التهديد الشديد والوعيد الأكيد.
ففي صحيح مسلم وسنن النسائي عن أبي هريرة قال: [قال أبو جهل: هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قال: فقيل: نعم، فقال: واللات والعزى لئن رأيته يفعل ذلك لأطأن على رقبته ولأعفرن وجهه في التراب. قال: فأتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو يصلي، زعم ليطأ على رقبته، قال: فما فجأهم منه إلا وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه، قال: فقيل له: ما لك؟ فقال: إنّ بيني وبينه لخندقًا من نار وهَوْلًا وأجنحة، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: لَوْ دنا لاختطفته الملائكة عضوًا عضوًا، قال: فأنزل اللَّه عز وجل: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} -يعنى قول أبا جهل- {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ. . .}](1).
وفي رواية عند ابن جرير من طريق ابن عباس: [فقال: -أي أبو جهل-: لقد علم أني أكثر هذا الوادي ناديًا. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل اللَّه: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} فقال ابن عباس: فواللَّه لو فعل لأخذته الملائكة من مكانه](2).
وفي رواية عند الترمذي عن ابن عباس قال: [كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فجاء أبو جهل فقال: ألم أنهك عن هذا؟ ألم أنهك عن هذا؟ فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فزبره -أي أغلظ النبي لأبي جهل القول ونهَره-، فقال أبو جهل: إنك لتعلم ما بها ناد أكثر مني، فأنزل اللَّه تبارك وتعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}، قال ابن عباس: لو دعا ناديه لأخذته زبانية اللَّه](3).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (4/ 2154)، وأحمد في المسند (2/ 370).
(2)
حديث صحيح. انظر تفسير الطبري (3/ 256). وكتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (1/ 214).
(3)
حديث صحيح. انظر سنن الترمذي (5/ 443 - 444)، وانظر: سلسلة الأحاديث الصحيحة (275).
وقوله تعالى: {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} . أي: إلى اللَّه المرجع والمصير، وعنده الحساب والثواب والعقاب. ورُجْعى: على وزن فعلى، والرُجعى والمرجع والرجوع مصادر.
وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى} . قال مجاهد: (أبو جهل ينهى محمدًا صلى الله عليه وسلم إذا صلى). وقد سبق أن هذه الآيات نزلت في أبي جهل حين توعَّد النبي صلى الله عليه وسلم إن رآه يصلي ليطأن على رقبته، فأخزاه اللَّه بالوحي والملائكة.
وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى} . قال قتادة: (محمد كان على الهدى، وأمر بالتقوى). والمقصود: كان محمد صلى الله عليه وسلم على طريق مستقيم يهتدي من اتبعه، وكان يأمر بالإخلاص والتوحيد والعمل الصالح الذي تُتقى به النار.
وقوله تعالى: {أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} . يعني أبا جهل، كذب بما جاء به رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من الحق وأعرض عن الإيمان.
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى} . أي: ألم يعلم بأن اللَّه مطلع على أحواله وسيجازيه بها، فواعجبًا كيف اجترأ على ما اجترأ عليه؟ !
وقوله تعالى: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} . كلّا: ردعٌ لأبي جهل عن معارضته محمدًا صلى الله عليه وسلم في عبادة ربه وأمره بعبادة الأصنام. والسفع في كلام العرب: القبض على الشيء وجذبه بشدة. والناصية شعر مقدم الرأس. والمقصود: لنأخذن بناصيته فتطوى مع قدميه فيطرح في النار.
قال ابن جرير: (قوله: {كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ} يقول: ليس كما قال إنه يطأ عنق محمد، يقول: لا يقدر على ذلك، ولا يصل إليه. يقول: لئن لم ينته أبو جهل عن محمد {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} يقول: لنأخذن بمقدم رأسه، فلنضمنه ولنذلنه. وقيل: إنما قيل: {لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ} والمعنى: لنسودن وجهه، فاكتفي بذكر الناصية من الوجه كله، إذ كانت الناصية في مقدم الوجه. وقيل: معنى ذلك: لنأخذن بناصيته إلى النار، كما قال:{فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ} [الرحمن: 41].
قال القرطبي: (فالآية -وإن كانت في أبي جهل- فهي عِظةٌ للناس، وتهديد لمن يمتنع أو يمنع غيره عن الطاعة).
وقوله تعالى: {نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ} . قال ابن كثير: (يعني: ناصية أبي جهل كاذبةٌ في
مقالها، خاطئة في فعالها). قلت: وقد أثبت العلم الحديث أن الكذب يُعرف بعلامات وإشارات في الناصية، وهو من الإعجاز العلمي لهذا القرآن العظيم.
وقوله تعالى: {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ} . قال ابن عباس: (يقول: فليدع ناصره). والمقصود: ليدع قومه وأهل ناديه. والنادي: المجلس الذي يجلس فيه القوم.
وقوله تعالى: {سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ} . قال مجاهد: (الملائكة). والمقصود: ردٌّ على غرور أبي جهل الذي زعم الاستنصار بعشيرته وأهل ناديه، فتحدّاه اللَّه بأمْرِ ملائكته الغلاظ الشداد بأخذه وإلقائه في نار السعير التي تخزيه.
وقد مضى في رواية ابن جرير من طريق ابن عباس: [فقال -أي أبو جهل-: لقد علم أني أكثر هذا الوادي ناديًا. فغضب النبي صلى الله عليه وسلم، فأنزل اللَّه {فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ}. فقال ابن عباس: فواللَّه لو فعل لأخذته الملائكة من مكانه].
والزبانية ملائكة العذاب، واحِدهم زِبْنِيّ كما ذكر الكسائي. وقال الأخفش:(زابن). وقال أبو عبيدة: (زِبْنِية). وقيل: زَبَانِيّ. وقال قتادة: (هم الشُّرَط في كلام العرب). قال القرطبي: (وهو مأخوذ من الزَّبْن وهو الدفع، ومنه المزابنة (1) في البيع.
وقوله تعالى: {كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} . كلّا: ردع لأبي جهل. أي: لا تطعه يا محمد فيما دعاك إليه من ترك الصلاة، وصلّ للَّه غير مكترث به، ولا مبال بنهيه {وَاقْتَرِبْ} إليه سبحانه بالطاعة والعبادة. قال النسفي:({وَاسْجُدْ} ودُمْ على سجودك يريد الصلاة {وَاقْتَرِبْ} وتقرب إلى ربك بالسجود، فإن أقرب ما يكون العبد إلى ربه إذا سجد).
قلت: وهذا المعنى مستنبط من الحديث الذي رواه مسلم عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، فأكثروا الدعاء](2).
وقد ثبتت السجدة -سجدة التلاوة- في آخر هذه السورة: ففي صحيح مسلم عن عطاءِ بنِ ميناءَ، عن أبي هريرة قال:[سَجَدْنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ}. و {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}](3). ورواه أصحاب السنن.
(1) هي بيع الرطب في رؤوس النخل بالتمر.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (482) - كتاب الصلاة. باب ما يقال في الركوع والسجود.
(3)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (578) ح (108 - 109)، وأخرجه أبو داود (1407)، والنسائي (2/ 162)، والترمذي (573)، وابن ماجة (1058).