المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٨

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌60 - سورة الممتحنة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌61 - سورة الصف

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌62 - سورة الجمعة

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاح السورة

- ‌آداب خاصة بيوم الجمعة:

- ‌الأدب الأول: الغُسْل لصلاة الجمعة:

- ‌الأدب الثاني: التبكير لصلاة الجمعة:

- ‌الأدب الثالث: لبس أحسن الثياب والتسوك والتماس أجمل الطيب:

- ‌ما يستحب من الأذكار والأدعية يوم الجمعة:

- ‌أولًا: الإكثار من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ثانيًا: قراءة سورة الكهف:

- ‌ثالثًا: الإكثار من الدعاء رجاء مصادفة ساعة الإجابة:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌63 - سورة المنافقون

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌64 - سورة التغابن

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌65 - سورة الطلاق

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌66 - سورة التحريم

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌أسباب نزول هذه الآيات:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌67 - سورة الملك

- ‌ذكر ما جاء في فضلها من أحاديث:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌68 - سورة القلم

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌69 - سورة الحاقة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌70 - سورة المعارج

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌71 - سورة نوح

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌72 - سورة الجن

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌73 - سورة المزمل

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌74 - سورة المدثر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌75 - سورة القيامة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌76 - سورة الإنسان

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌77 - سورة المرسلات

- ‌الأحاديث الواردة في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌78 - سورة النبأ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌79 - سورة النازعات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌80 - سورة عبس

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌81 - سورة التكوير

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌82 - سورة الانفطار

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌ دروس ونتائج وأحكام

- ‌83 - سورة المطففين

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌84 - سورة الإنشقاق

- ‌الأحاديث الواردة في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌85 - سورة البروج

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌86 - سورة الطارق

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌87 - سورة الأعلى

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌88 - سورة الغاشية

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌89 - سورة الفجر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌90 - سورة البلد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌91 - سورة الشمس

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌92 - سورة الليل

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌93 - سورة الضحى

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌94 - سورة الشرح

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌95 - سورة التين

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌96 - سورة العلق

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌97 - سورة القدر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌فضائل ليلة القدر وما ورد في تعيينها من أحاديث:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌98 - سورة البينة

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌99 - سورة الزلزلة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌100 - سورة العاديات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌101 - سورة القارعة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌102 - سورة التكاثر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌103 - سورة العصر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌104 - سورة الهمزة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌105 - سورة الفيل

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌106 - سورة قريش

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌107 - سورة الماعون

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌108 - سورة الكوثر

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌109 - سورة الكافرون

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌110 - سورة النصر

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌111 - سورة المسد

- ‌أسباب النزول:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌112 - سورة الإخلاص

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌113 - سورة الفلق

- ‌فضائل المعوذتين وما ورد في ذكرهما:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌114 - سورة الناس

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌74 - سورة المدثر

وهي سورة مكية، وعدد آياتها (56).

‌موضوع السورة

توجيه المدثر عليه الصلاة والسلام إلى حياة الصبر والجهاد وتبليغ الدعوة للأنام

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

أمر اللَّه رسوله بالإنذار، وتطهير العمل والثياب، والصبر للَّه العزيز الحكيم.

2 -

النفخ في الصور أمر عظيم، وَوَقْعُ ذلك اليوم على الكافرين أليم.

3 -

توعُّدُ اللَّه تعالى الوليد بن المغيرة العذاب المهين، لا تهامه بالسحر كلام اللَّه العظيم.

4 -

تهديد اللَّه تعالى الكفار بملائكة العذاب تقهرهم في نار الجحيم، وَعِدّة هؤلاء الملائكة الزبانية الشداد تسعة عشر كما هو مكتوب في كتب أهل الكتابين.

5 -

إقسام اللَّه تعالى بالقمر والليل والصبح أن جهنم إحدى الكُبَر، جعلها سبحانه نذيرًا للبشر.

6 -

ارتهانُ كل نفس بكسبها، ونجاة أصحاب اليمين، وخزي المجرمين في نار الجحيم.

7 -

هذا القرآن تذكرة للمتقين، وما يذكرون إلا بمشيئة اللَّه رب العالمين.

ص: 244

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

10. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)}.

في هذه الآيات: أَمْرُ اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بإنذار قومه وتعظيم اللَّه العلي العظيم، وتطهير الثياب والعمل من الشرك والصبر للَّه العزيز الحكيم، فإنه إذا نفخ في الصور فذلك يوم على الكافرين أليم.

فقوله: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} . نزل ذلك بعد قوله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ} .

فلقد علم النبي صلى الله عليه وسلم يقينًا أنه أصبح نبيًا بعدما فجئه الملك بغار حراء، وأدرك أن جبريل سفيرُ الوحي الذي ينقل الخبر إليه من اللَّه في السماء، ولكن الوحي فتر أيامًا بعد ذلك -كما يروي ابن سعد عن ابن عباس- قبل أن يعاود المجيء والنداء، وكان ذلك قد أهمَّ النبي صلى الله عليه وسلم.

قال ابن حجر في "الفتح": (وكان ذلك ليذهب ما كان صلى الله عليه وسلم وجده من الروع، وليحصل له التشوف إلى العود).

وفي الصحيحين واللفظ للإمام مسلم عن أبي سلمة قال: [أخبرني جابر بن عبد اللَّه أنه سمع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحدث عن فترة الوحي. فقال في حديثه: فبينما أنا أمشي إذ سمعت صوتًا من السماء فرفعت بصري قبل السماء فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض فجثيت منه (وفي رواية للبخاري: فرُعبت منه) حتى هويت إلى الأرض فجئت إلى أهلي فقلت: زملوني زملوني، فأنزل اللَّه: {يَاأَيُّهَا

ص: 245

الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ}. قال أبو سلمة: والرجز: الأوثان. ثمَّ حَمِيَ الوحي وتتابع] (1).

وكذلك في الصحيحين عن يحيى بن أبي كثير قال: سألت أبا سلمة بن عبد الرحمن عن أول ما نزل من القرآن؟ قال: يا أيها المدثر. قلت: يقولون اقرأ باسم ربك الذي خلق. فقال أبو سلمة: سألت جابر بن عبد اللَّه رضي الله عنهما عن ذلك وقلت له مثلَ الذي قلت، فقال جابر: لا أُحَدِّثكَ إلا ما حَدَّثنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قال: [جَاوَرْتُ بحراء فلما قضيت جواري هَبَطْتُ فاستبطنت الوادي فنويت فنظرت عن يميني فلم أر شيئًا، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئًا، ونظرت أمامي فلم أر شيئًا، ونظرت خلفي فلم أر شيئًا، فرفعت رأسي فرأيت شيئًا، (وفي رواية: فإذا هو على العرش في الهواء، يعني جبريل عليه السلام، فأخذتني رجفة شديدة)، (وفي رواية: فإذا هو جالس على كرسي بين السماء والأرض)، (وفي رواية: على عرش بين السماء والأرض) فأتيت خديجة فقلت: دثروني وصُبُّوا عليّ ماء باردًا. قال: فدثروني وصبّوا عليّ ماء باردًا. قال: فنزلت: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ](2).

وفي التحقيق أن {اقْرَأْ} نزلت قبل {الْمُدَّثِّرُ} لأسباب ذكرها ابن القيم رحمه الله:

الأوّل: أن قوله: "ما أنا بقارئ" صريح أنه لم يقرأ قبل ذلك شيئًا.

الثاني: أن الأمر بالقراءة هو في الترتيب قبل الأمر بالإنذار.

الثالث: أن اجتهاد جابر غيرُ تحديث عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم وخبره عن نفسه.

الرابع: أنه جاء في حديث جابر ما يشير إلى أن {اقْرَأْ} نزلت أولًا، وهو قوله عليه السلام:"فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء. . ." أي يوم نزل عليه أول مرة بـ {اقْرَأْ} .

فتكون هذه الآيات هي ثاني ما نزل من القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم، وهي:{يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} .

والمُدَّثِّر في لغة العرب: من دثَرَ وتَدَثَّرَ أي تَلَفَّفَ في الدثار، وهو كل ما كان من

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3238)، ومسلم (161)، ح (256)، وأحمد (3/ 325).

(2)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (4922)، ورواه مسلم (161)، ح (257)، كتاب الإيمان.

ص: 246

الثياب فوق الشعار. حكاه الرازي. وله في التفاسير أكثر من تأويل:

التأويل الأول: قيل المراد: (يا أيها المتدثر بثيابِه عند نومه).

قال ابن عباس: (قوله: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ} قال: يا أيها النائم). وقال قتادة: (يقول المتدثر في ثيابه). وقال ابن جرير: (وذكر أن نبيَّ اللَّه صلى الله عليه وسلم قيل له ذلك وهو متدثر بقطيفة). ثم روى عن إبراهيم -من التابعين- قوله: (كان متدثرًا في قطيفة).

التأويل الثاني: قيل بل المعنى: يا أيها المتدثر النبوة وأثقالها.

قال عكرمة: (دُثِّرت هذا الأمر فقم به). فيكون المعنى: يا مَنْ حُمِّلْتَ أعباء النبوة، وحُفِظْتَ وغُطيِّت بأمانة الوحي، قم فأنذر الناس عذاب اللَّه الشديد، وانهض إلى الأمة فأنقذها من مغبة الاسترسال بالشرك وتعظيم الشهوات وتجاهل الآخرة.

فقوله تعالى: {قُمْ فَأَنْذِرْ} . أي: قم من نومك فأنذر قومك عذابَ اللَّه الذي أشركوا به وعبدوا غيره. قال قتادة: (أي أنذر عذابَ اللَّه ووقائعه في الأمم وشدة نِقْمَتِه).

وقوله تعالى: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} . أي: ورّبك فَعَظِّم دون غيره من الآلهة والأنداد والطواغيت.

وقوله تعالى: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} . قال ابن عباس: (لا تلبسها على معصية ولا على غدرة. قال: وثيابك فَطَهِّرْ من الإثم. قال: نَقِّ الثياب في كلام العرب).

وقال: (لا تكن ثيابُكَ التي تلبس من مكسب غيرِ طائب). وقال مجاهد: (عملك فأصلح).

فيكون المعنى: أي نَقِّ سريرتك وَصَفِّها للَّه، وأطِبْ كسبك ومطعمك، وطهر الداخل والخارج.

وقوله تعالى: {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} . قال مجاهد: (الأوثان). وقال الضحاك: (يقول: اهجر المعصية).

وقوله تعالى: {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} . قال ابن عباس: (لا تعط عطية تلتمس بها أفضل منها). وقال الحسن: (لا تمنن تستكثر عملك الصالح). أي لا يكثر عملك في عينك فتمنن على ربك، فإنما هو فضله ومنّه عليك.

وقوله تعالى: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} . قال ابن زيد: (حمل أمرًا عظيمًا محاربة العرب ثم العجم من بعد العرب في اللَّه).

ص: 247

قلت: وقد اشتملت هذه الآيات التي كانت في أول ما نزل من القرآن على منهاج الإِسلام كله، فرسمت محاور هذا الدين وأعمدة هذا البنيان، وأوضحت معالم هذا الدين بشكل مجمل. ففي مضمونها:

أولًا: تعظيم اللَّه وحده وتصغير الشرك والطغاة والطواغيت.

وقد ضُمِّنَ هذا المعنى بقوله: {وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ} ، {وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ} . فهي دعوة التوحيد دعوة الرسل عليهم السلام.

أخرج أحمد وأبو داود بسند صحيح عن أبي تميمةَ عن رجل من قومه، أنه أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، أو قال: شهدت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وأتاه رجل فقال: أنت رسول اللَّه -أو قال: أنت محمد؟ - فقال: نعم. قال: فإلامَ تَدْعو؟ قال: [أدعو إلى ربك الذي إنْ مَسَّكَ ضر فدعوته كشفَ عنكَ، والذي إن أضْلَلْتَ بأرض قفرٍ فدعوته ردّ عليك، والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت لك](1).

ثانيًا: تزكية النفس.

وقد تضمن هذا المفهوم في قوله سبحانه: {وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ} ، {وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ} .

ويكون هذا بلزوم عبادات وشرائع شرعها، وأخلاق ومعاليَ رغَّب ودعا إليها، وبتركِ قبائح وفواحِشَ حذّر من مغبتها.

ولقد وقع في رواية أخرى للحديث السابق تفصيلٌ آخر يربط هذه الأخلاق مع أعلاها، ويوضح نَسَبها إلى أرفعها وأرقاها، وهو تعظيم اللَّه جل ذكره وإفراده بكل معاني العبادة.

فقد أخرج أبو داود والترمذي عن أبي جري جابر بن سليم قال: [رأيت رجلًا يصدر الناس عن رأيه، لا يقول شيئًا إلا صدروا عنه، قلت: من هذا؟ قالوا: هذا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، قلت: عليك السلام يا رسول اللَّه، مرتين، قال:"لا تقل عليك السلام، فإن عليك السلام تحية الميت، قل: السلام عليك". قال: قلت: أنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قال: "أنا رسول اللَّه الذي إذا أصابك ضُرٌّ فدعوته كشفه عنك، وإن أصابك عامُ سنةٍ فَدَعَوْتَهُ أنْبَتَها لكَ، وإذا كنت بأرض قَفْراءَ أو فلاةٍ فَضَلَّتْ راحلتك

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4084)، كتاب اللباس. باب ما جاء في إسبال الإزار. انظر صحيح سنن أبي داود (3442)، ورواه أحمد. انظر صحيح الجامع (242).

ص: 248

فَدَعَوْتَهُ رَدَّها عليك". قلت: اعهد إلي، قال: "لا تَسُبَّنَّ أَحَدًا" قال: فما سَبَبْتُ بعده حرًا ولا عبدًا ولا بعيرًا ولا شاة، قال: "ولا تَحْقِرَنَّ شيئًا مِنَ المَعْرُوف، وأَنْ تُكَلِّمَ أخاك وأنْتَ مُنْبَسِطٌ إليه وَجْهُكَ إنَّ ذلكَ من المعروف، وارْفَعْ إزارك إلى نصف الساق، فإن أبَيْتَ فإلى الكعبين، وإياك وإسبالَ الإزار فإنها من المخيلة، وإن اللَّه لا يحب المخيلة، وإن امرؤ شتَمكَ وعَيَّركَ بما يعلم فيك فلا تعيّره بما تعلم فيه فإنما وبال ذلك عليه"] (1).

ثالثًا: حفظ الجماعة المؤمنة، بالدعوة إلى بنائها وتوثيق أواصر التعاون والأخوة فيما بينها.

فقد قال جل ذكره في أول ما نزل: {يَاأَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ} . أي قم يا محمد إلى الجماعة فاحفظها، وإلى الأمة فأنذرها، فإن القوة والحفظ متعلقة ببناء الجماعة وحفظ كيانها وحماية صرحها، فليعطف غنيها على فقيرها، وليرحم قويها ضعيفها، وليشد بعضها أزر بعض.

وقد قال اللَّه في أواخر السورة نفسها: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} .

أخرج عبد اللَّه بن الإمام أحمد في زوائد المسند، بإسناد حسن عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [مَنْ لمْ يشكر القليل لم يشكر الكثير، ومن لم يشكر الناس لم يشكر اللَّه، والتحدث بنعمة اللَّه شُكر، وتركها كفر، والجماعة رحمة، والفرقة عذاب](2).

رابعًا: الصبر على الأذى.

وهو داخل في قوله سبحانه: {وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ} . قال ابن زيد: (حمل أمرًا عظيمًا محاربة العرب ثم العجم من بعد العرب في اللَّه). وبنحوه قال اللَّه في سورة الأحقاف لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} [الأحقاف: 35].

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (4084)، والترمذي (2877). انظر صحيح أبي داود (3442).

(2)

حديث صحيح. انظر مسند أحمد (5/ 211)، (5/ 212)، وصحيح الجامع (6417). وله شاهد عند البخاري في الأدب المفرد (33)، وعند أبي داود (2/ 290) وابن حبان (2070).

ص: 249

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة وأبي سعيد رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما يُصيبُ المسلمَ من نَصَبٍ ولا وَصَبٍ ولا همٍّ ولا حَزَنٍ ولا أذى ولا غمٍّ، حتى الشوكةُ يُشاكُها إلا كفَّر اللَّه بها من خطاياه](1). والنصب: التعب والوصب: المرض.

خامسًا: التحذير من الدار الآخرة.

وهو داخل في قوله تعالى: {قُمْ فَأَنْذِرْ} . وبنحوه قوله جل ذكره في سورة مريم: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [مريم: 39].

وقوله تعالى: {فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ} . قال ابن عباس: (الناقور: الصور). وقال مجاهد: (وهو كهيئة القرن). والمقصود: ذِكْرُ أول شدائد القيامة، وهو النفخ في الصور.

وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن أبي سعيد قال: [قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "وكيفَ أنْعَمُ وصاحِبُ القَرْنِ قد التقمَ القَرْنَ واسْتَمَعَ الإِذْنَ متى يُؤْمَرُ بالنَّفْخِ فَيَنْفُخَ". فكأن ذلك ثقل على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، فقال لهم: "قولوا حَسْبُنا اللَّه ونِعْمَ الوكيلُ، على اللَّه توكَّلنا"](2).

وقوله تعالى: {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ} . قال ابن عباس: (يقول: شديد).

وقوله تعالى: {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ} . قال قتادة: (فَبَيَّنَ اللَّه على من يقع).

قال النسفي: (وأكّد بقوله: {غَيْرُ يَسِيرٍ} ليؤذن بأنّه يسير على المؤمنين. أو {عَسِيرٌ} لا يرجى أن يرجع يسيرًا كما يرجى تيسير العسير من أمور الدنيا).

11 -

30. قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25)

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2573)، كتاب الأدب، ورواه البخاري وغيره.

(2)

حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (1980)، أبواب صفة القيامة. باب ما جاء في الصُّور.

ص: 250

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)}.

في هذه الآيات: توعُّد اللَّه سبحانه الوليد بن المغيرة العذاب الأليم، لاتهامه القرآن بالسحر وافتراء الكذب على كلام اللَّه العظيم.

فإنه ما إنْ أتى موسم الحج عقب الأمر بالجهر بالدعوة، إلا وخشيت قريش ماذا تقول للعرب في شأن محمد، فاجتمعوا إلى الوليد بن المغيرة وكان من أعلمهم بالفصاحة والشعر ولسان العرب، وكلموه في الأمر عسى أن يجدوا له حلًا ومخرجًا.

يروي البيهقي والحاكم على شرط البخاري عن عكرمة عن ابن عباس: [أن الوليد بن المغيرة جاء رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه القرآن فكأنه رقّ له، فبلغ ذلك أبا جهل فأتاه فقال: يا عم! إنَّ قومك يريدون أن يجمعوا لك مالًا. قال: لم؟ قال: ليعطوكه فأنت أتيت محمدًا لتعرض ما قبله. قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالًا، قال: فقل فيه قولًا يبلغ قومك أنك منكر له. قال: وماذا أقول؟ فواللَّه ما منكم رجل أعرف بالأشعار مني، ولا أعلم بِرَجَزِه ولا بقصيده مني ولا بأشعار الجن، واللَّه ما يشبه الذي يقول شيئًا من هذا. وواللَّه إن لِقوله الذي يقوله حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، وإنه ليعلو ولا يُعلى، وإنه ليحطم ما تحته. قال: لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه. قال: قف عني حتى أفكر فيه، فلما فكَّر قال: إن هذا إلا سحر يؤثر بأثره عن غيره، فنزلت: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا} الآيات](1).

قال ابن عباس: (أنزل اللَّه في الوليد بن المغيرة قوله: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا}).

وقوله: {وَحِيدًا} . قال مجاهد: (خلقته وحده ليس معه مال ولا ولد). وقال قتادة: (وهو الوليد بن المغيرة، أخرجه اللَّه من بطن أمه وحيدًا لا مال له ولا ولد، فرزقه اللَّه المال والولد، والثروة والنماء).

وقوله تعالى: {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا} . قال مجاهد: (كان ماله ألف دينار).

(1) أخرجه البيهقي في "دلائل النبوة"(1/ 556)، والحاكم في المستدرك (2/ 507)، وانظر:"الصحيح المسند في أسباب النزول" - الوادعي - سورة المدثر، الآيات (11 - 30).

ص: 251

وقال سفيان: (بلغني أنه أربعة آلاف دينار). وقال ابن جرير: (وهو الكثير الممدود عدده أو مساحته) - إشارة إلى الأراضي والمال.

وقوله تعالى: {وَبَنِينَ شُهُودًا} . قال مجاهد: (كان بنوه عشرة، وقوله: {وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا} قال: من المال والولد). أي: وبسطت له في العيش بسطًا.

وقوله تعالى: {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ} . أي: ثم يأمل ويطمح أن أزيده مالًا وثروة وولدًا فوق ما أعطيته. كلا ليس الأمر كذلك كما يرجو، فإنه كان لآياتنا وحججنا جاحدًا معاندًا. قال الحارث:(معاندًا عنها، مجانبًا لها).

وعن قتادة: ({كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا} قال: كفورًا بآيات اللَّه جحودًا بها).

وقوله تعالى: {سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا} . قال مجاهد: (مشقة من العذاب). وقيل: هو جبل في جهنم يصعد بها يوم القيامة ثم يهوي إرهاقًا وتعبًا من العذاب.

وقوله تعالى: {إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ} . أي: فَكَّرَ في شأن النبي صلى الله عليه وسلم والقرآن و {وَقَدَّرَ} أي هيأ الكلام في نفسه. قال قتادة: (زعموا أنه قال: واللَّه لقد نظرت فيما قال هذا الرجل، فإذا هو ليس له بشعر، وإنّ له لحلاوة، وإنّ عليه لطلاوة، وإنه ليعلو وما يعلى، وما أشك أنه سحر، فأنزل اللَّه فيه: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ}: قبض ما بين عينيه وكلح).

وقوله تعالى: {فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} . أي لُعِنَ. وقيل: فَقُهر وغُلبَ، وكل مُذَلَّل مُقَتَّل.

وقال الزهري: (عُذِّب، وهو من باب الدعاء). وقال ناسٌ: {كَيْفَ} تعجيب، والمقصود: العجب كل العجب مما صدر منه في شأن القرآن بعد فكر وروية؟ !

وقوله تعالى: {ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ} . قال القرطبي: ({ثُمَّ قُتِلَ} أي لُعِنَ لعنًا بعد لعن. وقيل: فقتل بضرب من العقوبة، ثم قتل بضرب آخر من العقوبة {كَيْفَ قَدَّرَ} أي على أي حال قَدر).

وقوله تعالى: {ثُمَّ نَظَرَ} . أي: بأي شيء يرد الحق ويدفعه. وإنما هو المكر والكذب.

وقوله تعالى: {ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ} . {عَبَسَ} أي قبض بين عينيه وقطَّب. {وَبَسَرَ} أي: كلح وكره. قال النسفي ({ثُمَّ عَبَسَ} قطب وجهه {وَبَسَرَ} زاد في التقبض والكلوح).

وقوله تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} . قيل: {ثُمَّ أَدْبَرَ} أي ولَّى وأعرض ذاهبًا إلى أهله

ص: 252

{وَاسْتَكْبَرَ} أي تعظم عن أن يؤمن. وقيل: أدبر عن الإيمان واستكبر حين دُعي إليه.

والمقصود: ركبه الشيطان وعلا رأسه وفِكْرَه فأدبر واستكبر.

وقوله تعالى: {فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ} . قال أبو رزين: (يأخذه عن غيره). أو يأثره عن غيره.

والمقصود: نطق بكلمة الكذب في شأن الحق فجحده واتهمه ورماه بالسحر بعد التَّثَبُّتِ من أنه أعلى وأجل. فما أسهل اتهام الحق بالسحر للهروب من تكاليفه وتبعاته.

ثم قال سبحانه متوعدًا إياه إثر هذه المحاولة الماكرة لطمس الحق: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} قيل: وهو باب من أبواب جهنم.

والمقصود: سأغمره في جهنم كي يصْلى حرّها. قال القرطبي: (وإنما سُمِّيت سقر من سَقَرَتْه الشمس: إذا أذابته ولوحته، وأحرقت جلدة وجهه).

وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ} . تهويل لأمرها، ومبالغة في وصفها. أي: وأيّ شيء سقر يا محمد؟ فهي كلمة تعظيم.

وقوله تعالى: {لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ} . أي: لا تبقى من فيها حيًّا، ولا تذر من فيها ميتًا، بل تحرقهم كلما جدد خلقهم. قال مجاهد:(لا تميت ولا تحيي). وقال مرثد: (لا تبقي منهم شيئًا أن تأكلهم، فإذا خلقوا لها لا تذرهم حتى تأخذهم فتأكلهم). وقال السدي: (لا تبقي لهم لحمًا ولا تذر لهم عظمًا). قال الزمخشري: (أي لا تبقي شيئًا يُلقى فيها إلا أهلكته، وإذا هلك لم تذره هالكًا حتى يعاد. أو لا تبقي على شيء، ولا تدعه من الهلاك، بل كل ما يطرح فيها هالك لا محالة).

وقوله تعالى: {لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ} . لَوَّاحة: أي محرقة للجلود. قال قتادة: (حرّاقة للجلد). فهو من "لوّحته الشمس" إذا سوّدت ظاهره وأطرافه. والبَشَر: جمع بشرة، وهي ظاهر الجلد.

قال أبو رزين: (تلفح الجلد لفحة، فتدعه أشد سوادًا من الليل). وروي عن ابن عباس: (تحرق بشرة الإنسان). فهي تغير البشر أي الجلد وتحرقه.

وقيل: بل "البشر" اسم جنس بمعنى الناس. فيجوز أن يكون المعنى: لائحة للناس، من "لاح"، بمعنى ظهر، والبشر بمعنى الناس. حكاه القاسمي.

وقوله تعالى: {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} . أي من الخزنة المتولِّين أمرها، والتسلّط على

ص: 253

أهلها. قال ابن كثير: ({عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ} أي: من مُقَدَّمي الزبانية، عَظيمٌ خَلْقُهم، غَليظٌ خُلُقُهم).

فتوعد اللَّه سبحانه الوليد بن المغيرة مقابل هذا الكذب والنفاق والمراوغة في تعامله مع الوحي والحق أن يصليه سقر، بعد أن أعطاه في الدنيا من المال والولد ما كان ينبغي أن يستعين به على طاعة اللَّه وشكره، إذ كان أولاده جميعًا حاضرين أمامه يستأجرون في تجارتهم ولا يسافرون فيجهدون، وأغدق عليه من الأرض والثروة والخير الكثير، الذي سينقلب عليه في الآخرة نقمة أن كفر باللَّه وبرسوله.

31 -

37. قوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)}.

في هذه الآيات: تهديدُ اللَّه تعالى الكفار بملائكة العذاب تقهرهم وتغلبهم في نار الجحيم، وعدة هؤلاء الملائكة الزبانية الشداد تسعة عشر كما هي في كتب أهل الكتابين. وقد أقسم اللَّه تعالى بالقمر والليل والصبح أن جهنم إحدى الكبر، جعلها سبحانه نذيرًا للبشر، لمن شاء أن يتقدم في الطاعة أو يتأخر.

فقوله: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} . أي: وما جعلنا خزنة النار {إِلَّا مَلَائِكَةً} أي: إلا زبانيةً غلاظًا شدادًا. قال ابن كثير: (وذلك ردٌّ على مشركي قُريش حين ذَكَر عدد الخزنة، فقال أبو جهل: يا معشرَ قريش، أما يستطيع كلُّ عشرةٍ منكم لواحد منهم فتغلبونهم؟ فقال اللَّه تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} ، أي شديدي الخَلْق لا يُقاوَمونَ ولا يُغالبون. وقد قيل: إنَّ أبا الأشدَّين -واسمُه: كَلَدة بن أَسِيد بن خَلَف- قال: يا معشرَ قُريش! اكفُوني منهم اثنين وأنا أكفيكم سبعةَ عَشرَ، إعجابًا منه بنفسه، وكان قد بلغَ من القوة -فيما يزعمون- أنه كان يقِفُ على جلد البقر ويُجاذِبه عشَرَةٌ لينتزِعُوه من تحت قَدَميه، فيتمزَّق الجِلدُ ولا يتزحزحُ عنه. قال السهيلي: وهو الذي

ص: 254

دعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى مُصارعته وقال: إن صَرَعتني آمنتُ بك. فصَرعَهُ النبي صلى الله عليه وسلم مرارًا فلم يؤمن).

وقال القرطبي: ({وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً} أي لم نجعلهم رجالًا فتتعاطون مغالبتهم).

والمقصود: فمن يطيق الملائكة ومن يغلبهم، وهم أقوم خلق اللَّه بحقه، والغضب له، وأشدهم بأسًا، وأقواهم بطشًا؟

وقوله: {وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} . قال قتادة: (إلا بلاء). وروي عن ابن عباس من غير وجه قال: (ضلالة للذين كفروا، يريد أبا جهل وذويه).

وقيل: (إلا عذابًا). أي جعلنا ذلك سبب كفرهم وسبب العذاب.

والمقصود: إنما جعلنا عدد الملائكة الزبانية الشداد {تِسْعَةَ عَشَرَ} إضلالًا ومحنة للكافرين، حتى قالوا ما قالوا مستهزئين، ليتضاعف عذابهم ويكثر غضب اللَّه عليهم، قال الجبائيّ:(المراد من الفتنة تشديد التعبد ليستدلوا ويعرفوا أنه تعالى قادر على أن يقوّي هؤلاء التسعة عشر على ما لا يقوى عليه مئة ألف ملك أقوياء). وقال الكعبي: (المراد من الفتنة الامتحان، حتى يفوّض المؤمنون حكمة التخصيص بالعدد المعيّن إلى علم الخالق سبحانه. قال: وهذا من المتشابه الذي أمروا بالإيمان به).

وقوله: {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} . قال ابن عباس: (وإنها في التوراة والإنجيل تسعة عشر، فأراد اللَّه أن يستيقن أهل الكتاب، ويزداد الذين آمنوا إيمانًا). وقال مجاهد: (يجدونه مكتوبًا عندهم عدّة خزنة أهل النار).

وقال قتادة: (يصدق القرآن الكتب التي كانت قبله فيها كلها، التوراة والإنجيل، أن خزنة النار تسعة عشر). وقال أيضًا: (ليستيقن أهل الكتاب حين وافق عدّة خزنة النار ما في كتبهم). وقال ابن زيد: ({لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أنك رسول اللَّه).

وقوله: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} . أي: إلى إيمانهم، وذلك بما يشهدون من صدق إخبار نبيهم محمد صلى الله عليه وسلم.

وقوله: {وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ} . قال ابن جرير: (يقول: ولا يشكّ أهل التوراة والإنجيل في حقيقة ذلك والمؤمنون باللَّه من أمة محمد صلى الله عليه وسلم).

وقوله: {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} . أي: وليقول المنافقون

ص: 255

والمشركون ما الحكمة من ذكر هذا هاهنا؟ . قال ابن زيد: (يقول: حتى يخوّفنا بهؤلاء التسعة عشر).

وقوله: {كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ} . قال ابن كثير: (أي: مِنْ مِثل هذا وأشباهه يتأكَّدُ الإيمانُ في قلوب أقوامٍ، ويتزلزل عند آخَرِين، وله الحكمة البالغة، والحجَّة الدامغةُ).

وقوله: {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ} . قال قتادة: (أي من كثرتهم).

قال الزمخشري: (أي وما يعلم ما عليه كل جند من العدد الخاص، من كون بعضها على عقد كامل، وبعضها على عدد ناقص، وما في اختصاص كل جند بعدده، من الحكمة إلا هو. ولا سبيل لأحد إلى معرفة ذلك، كما لا يعرف الحكمة في أعداد السماوات والأرضين وأمثالها. أو وما يعلم جنود ربك لفرط كثرتها إلا هو، فلا يعزّ عليه الزيادة على عدد الخزنة المذكور، ولكن له في هذا العدد الخاص حكمة لا تعلمونها).

ومن كنوز السنة العطرة في آفاق ذلك أحاديث:

الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه من حديث أنس -حديث الإسراء- أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [ثم عرج بنا إلى السماء السابعة. . . ففتح لنا فإذا أنا بإبراهيم مسندًا ظهره إلى البيت المعمور، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، لا يعودون إليه](1).

وله شاهد في المسند عنه مرفوعًا بلفظ: [البيت المعمور في السماء السابعة، يدخله كل يوم سبعون ألف ملك، ثم لا يعودون إليه حتى تقوم الساعة].

الحديث الثاني: أخرج الترمذي وابن ماجة بسند حسن من حديث أبي ذر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إني أرى ما لا تَرَوْن وأسْمَعُ ما لا تَسْمعون، أَطَّت السماء وحُقَّ لها أن تئِطّ، ما فيها مَوْضِعُ أربع أصابع إلا ومَلَكٌ واضِعٌ جبهتَهُ للَّه ساجدًا] الحديث (2).

الحديث الثالث: أخرج الطيالسي في "مسنده"، وابن خزيمة في "صحيحه" بإسناد

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه (1/ 148). ورواه البخاري. وانظر للشاهد بعده: صحيح الجامع (2888). رواه أحمد وغيره.

(2)

حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (4190) - كتاب الزهد - باب الحزن والبكاء، والترمذي في أبواب الزهد. انظر صحيح سنن الترمذي (1882)، وصحيح سنن ابن ماجة (3378).

ص: 256

حسن عن أبي هريرة مرفوعًا: [ليلةُ القَدْر ليلةُ سابِعَةٍ أو تاسعةٍ وعِشرين، إنَّ الملائكة تلكَ الليلةَ في الأرض أكثرُ مِن عددِ الحصى](1).

وقوله: {وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ} . قال مجاهد: (النار). والمعنى: ما هذه النار الموصوفة بما ذكر إلا تذكرة ذكر اللَّه تعالى بها البشر -وهم بنو آدم-.

وقوله تعالى: {كَلَّا وَالْقَمَرِ} . قال القاسمي: ({كَلَّا} ردع لمن أنكر العدة أو سقر أو الآيات، أو إنكار لأن تكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون).

ثم أقسم سبحانه بالقمر وبما بعده، فقال:{وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ} . أي: ولّى. قال ابن عباس: (دبوره: إظلامه).

وقوله تعالى: {وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ} . أي أشرق. قال قتادة: (إذا أضاء وأقبل).

وقوله تعالى: {إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ} . قال مجاهد: (يعني: جهنم).

والمقصود: إن جهنم لإحدى الكبر، أي الأمور العظام.

وقوله تعالى: {نَذِيرًا لِلْبَشَرِ} . أي إنذارًا لهم. قال قتادة: (قال الحسن: واللَّه ما أُنذر الناسُ بشيء أدهى منها، أو بداهية هي أدهى منها).

وقوله تعالى: {لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ} . قال ابن عباس: (من شاء اتبع طاعة اللَّه، ومن شاء تأخر عنها). وقال قتادة: (يتقدّم في طاعة اللَّه، أو يتأخَّر في معصيته).

وفي الآية إثبات مشيئة العبد في اختيار الطريق، وهي مشيئة مقهورة بمشيئة اللَّه عز وجل، كما قال جل ذكره:{وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} [الإنسان: 30]. فله الأمر سبحانه وله الحكمة والحجة البالغة.

38 -

56. قوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا

(1) إسناده حسن. أخرجه الطيالسي في "مسنده"(2545)، وعنه أحمد (2/ 519)، وأخرجه ابن خزيمة في "صحيحه" (2/ 223). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (2205). وقال الألباني: وهذا إسناد حسن.

ص: 257

الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)}.

في هذه الآيات: ارتهانُ كل نفس بكسبها، ونجاة أصحاب اليمين، وخزي المجرمين في نار الجحيم، وهذا القرآن تذكرة للمتقين، وما يذكرون إلا بمشيئة اللَّه رب العالمين.

فقوله تعالى: {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ} . أي: مرهونة ومحبوسة بكسبها، معتقلة بعملها يوم القيامة. قال ابن عباس:(يقول: مأخوذة بعملها).

وقوله تعالى: {إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} . قال ابن زيد: (أصحاب اليمين لا يرتهنون بذنوبهم، ولكن يغفرها اللَّه لهم، وقرأ قول اللَّه: {إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ} [الصافات: 40] قال: لا يؤاخذهم اللَّه بِسَيِّئِ أعمالهم، ولكن يغفرها اللَّه لهم، ويتجاوز عنهم كما وعدهم).

قال القاسمي: ({إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ} أي فإنهم فكّوا رقابهم بما أطابوه من كسبهم، كما يخلص الراهن رهنه بأداء الحق).

وقوله تعالى: {فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ} .

قال ابن جرير: (يقول: أصحاب اليمين في بساتين يتساءلون عن المجرمين الذين سُلكوا في سقر، أيّ شيء سلككم في سقر؟ ).

قال ابن كثير: (أي: يسألون المجرمين وهم في الغرفات وأولئك في الدركات قائلين لهم: {مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ}).

وقوله تعالى: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} . أي: ما قمنا بحق اللَّه تعالى، ولا بحق عباده الواجب علينا. فما عبدنا اللَّه ولا أحْسَنّا إلى خَلْقِه المحتاجين.

وقوله: {وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ} . أي: وكنا نخوض في الباطل وفيما لا نعلم. قال قتادة: (يقولون: كلما غوى غاوٍ غوينا معه).

ص: 258

وقوله تعالى: {وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ} . أي: وكنا نكذب بيوم الحساب، يوم الثواب والعقاب.

وقوله تعالى: {حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ} . أي: حتى أتانا الموت الموقن به. وهو كقوله تعالى: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ} [الحجر: 99].

وفي صحيح البخاري من حديث أم العلاء مرفوعًا: [أمّا هو -يعني عثمان بن مظعون- فقد جاءه اليقين من ربّه](1).

وقوله تعالى: {فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} . قال النسفي: (من الملائكة والنبيين والصالحين، لأنها للمؤمنين دون الكافرين. وفيه دليل ثبوت الشفاعة للمؤمنين).

وفي سنن ابن ماجة بإسناد صحيح عن عبد اللَّه بن قيس قال: كنت عند أبي بردة ذات ليلة. فدخل علينا الحارث بن أقَيْش. فحدثنا الحارث ليلتئذ، أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ من أمتي مَنْ يدخُل الجنةَ بشفاعتِه أكثرُ مِنْ مُضَرَ. وإنَّ مِنْ أمتي من يَعْظُمُ للنار حتى يكونَ أحَدَ زواياها](2).

وقوله تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ} . قال قتادة: (أي عن هذا القرآن).

أي: فما لهؤلاء المشركين الذين قِبَلك -يا محمد- لا يستمعون لهذه الذكرى من الوحي، فيعرضون ولا يعتبرون ولا يتعظون! ؟

وقوله تعالى: {كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ} . أي فهم يُوَلُّونَ تولية الحمر لفرارها من الصيد. قال ابن عباس: (أراد الحمر الوحشية). وقرأ نافع وابن عامر بفتح الفاء، أي مُنَفَّرَة مذعورة. والباقون بالكسر، أي نافرة. وهما قراءتان مشهورتان.

وقوله تعالى: {فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} . أي نفرت وهربت من رُماة يرمونها، أو من أسد يريد افتراسها. قال ابن عباس:({فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} قال: الرماة). أو قال: (رجال القَنْص). وقال زيد بن أسلم: (هو الأسد). وقال حَمَّاد بن سَلَمةَ، عن علي بن زيد، عن يوسف بن ماهك، عن ابن عباس:(الأسد بالعربية، ويقال له بالحبشية قَسْوَرة، وبالفارسية شِيرٌ، وبالنبطية أويا).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3929) من حديث أم العلاء، وله قصة. واليقين: الموت.

(2)

حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (4323)، كتاب الزهد. باب صفة النار. وانظر صحيح سنن ابن ماجة (3490). والحديث فيه إثبات الشفاعة للمؤمنين.

ص: 259

والمقصود: كأن هؤلاء المشركين في نفِارهم عن الحق وإعراضهم عنه كحمر الوحش وهي تشتد هاربة من الأسد أو الرماة يريدون صيدها.

وقوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} . أي: كتبًا مفتوحة موجهة إليهم من رب العالمين، يقال لهم فيها: إني قد أرسلت إليكم محمدًا صلى الله عليه وسلم فاتبعوه.

قال مجاهد: ({بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً} قال: إلى فلان من ربّ العالمين).

وقال قتادة: (قد قال قائلون من الناس: يا محمد إن سرّك أن نتبعك فائتنا بكتاب خاصة إلى فلان وفلان، نؤمر فيه باتباعك. قال قتادة: يريدون أن يؤتوا براءة بغير عمل). أو المعنى: يريد كل واحد منهم أن ينزل عليه كتاب كما أنزل علي النبي صلى الله عليه وسلم، كقوله تعالى:{وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ} [الأنعام: 124]. وكقوله تعالى: {وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ} [الإسراء: 93].

وقوله تعالى: {كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} . قال قتادة: (إنما أفسدهم أنهم كانوا لا يصدّقون بالآخرة، ولا يخافونها، هو الذي أفسدهم). قال القاسمي: ({كَلَّا} أي لا يكون مرادهم، ولا يتبع الحق أهواءهم. أو ليس إرادتهم تلك للرغبة في الإيمان، فقد جاءهم ما يكفيهم عن اقتراح غيره، وإنما هم مردة الداء، ولذا قال: {بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ} أي لا يؤمنون بالبعث والجزاء، ولا يخشون العقاب، لإيثارهم العاجلة).

وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ} . قال قتادة: (أي القرآن). أي حقًا إن القرآن تذكرة وعظة.

وقوله تعالى: {فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ} . أي: فمن شاء اتعظ وعمل بما فيه من أمر اللَّه ونهيه، واستعدّ للقاء ربه.

وقوله: {وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . ترويحٌ لقلب النبي صلى الله عليه وسلم مما كان يخامرهُ من إعراضهم، وتسلية له عما يلقاه من كبرهم وعنادهم وهو يحرص على إيمانهم.

والمعنى: ليس يقدرون على الاتعاظ والتذكير إلا بمشيئة اللَّه لهم. وهو كقوله سبحانه: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الإنسان: 30].

وقوله: {هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ} . قال قتادة: (ربنا حقوق أن تتقى محارمه،

ص: 260

وهو أهل المغفرة يغفر الذنوب). أو قال: (أهل أن تتقى محارمه، وأهل المغفرة: أهل أن يغفر الذنوب).

والمقصود: اللَّه تعالى أهل أن يُخاف منه، وهو أهل أن يغفر ذنوب من تاب إليه وأناب.

تم تفسير سورة المدثر بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه عصر الخميس 1/ ذي القعدة/ 1426 هـ الموافق 1/ كانون الأول/ 2005 م

* * *

ص: 261