المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٨

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌60 - سورة الممتحنة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌61 - سورة الصف

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌62 - سورة الجمعة

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاح السورة

- ‌آداب خاصة بيوم الجمعة:

- ‌الأدب الأول: الغُسْل لصلاة الجمعة:

- ‌الأدب الثاني: التبكير لصلاة الجمعة:

- ‌الأدب الثالث: لبس أحسن الثياب والتسوك والتماس أجمل الطيب:

- ‌ما يستحب من الأذكار والأدعية يوم الجمعة:

- ‌أولًا: الإكثار من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ثانيًا: قراءة سورة الكهف:

- ‌ثالثًا: الإكثار من الدعاء رجاء مصادفة ساعة الإجابة:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌63 - سورة المنافقون

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌64 - سورة التغابن

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌65 - سورة الطلاق

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌66 - سورة التحريم

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌أسباب نزول هذه الآيات:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌67 - سورة الملك

- ‌ذكر ما جاء في فضلها من أحاديث:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌68 - سورة القلم

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌69 - سورة الحاقة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌70 - سورة المعارج

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌71 - سورة نوح

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌72 - سورة الجن

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌73 - سورة المزمل

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌74 - سورة المدثر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌75 - سورة القيامة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌76 - سورة الإنسان

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌77 - سورة المرسلات

- ‌الأحاديث الواردة في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌78 - سورة النبأ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌79 - سورة النازعات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌80 - سورة عبس

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌81 - سورة التكوير

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌82 - سورة الانفطار

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌ دروس ونتائج وأحكام

- ‌83 - سورة المطففين

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌84 - سورة الإنشقاق

- ‌الأحاديث الواردة في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌85 - سورة البروج

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌86 - سورة الطارق

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌87 - سورة الأعلى

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌88 - سورة الغاشية

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌89 - سورة الفجر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌90 - سورة البلد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌91 - سورة الشمس

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌92 - سورة الليل

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌93 - سورة الضحى

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌94 - سورة الشرح

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌95 - سورة التين

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌96 - سورة العلق

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌97 - سورة القدر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌فضائل ليلة القدر وما ورد في تعيينها من أحاديث:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌98 - سورة البينة

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌99 - سورة الزلزلة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌100 - سورة العاديات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌101 - سورة القارعة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌102 - سورة التكاثر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌103 - سورة العصر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌104 - سورة الهمزة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌105 - سورة الفيل

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌106 - سورة قريش

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌107 - سورة الماعون

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌108 - سورة الكوثر

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌109 - سورة الكافرون

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌110 - سورة النصر

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌111 - سورة المسد

- ‌أسباب النزول:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌112 - سورة الإخلاص

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌113 - سورة الفلق

- ‌فضائل المعوذتين وما ورد في ذكرهما:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌114 - سورة الناس

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌65 - سورة الطلاق

وهي سورة مدنية، وعدد آياتها (12).

‌موضوع السورة

أحكام الطلاق والعدة

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

بيان العدة التي تطلق لها النساء، وتأكيد حق السكنى للمطلقة ما دام لزوجها عليها رجعة.

2 -

الحث على تعظيم حدود اللَّه، والتحذير من تجاوز حدود الشريعة.

3 -

الأمر بالإحسان للزوجات في الإمساك أو الفراق، وبيان جائزة التقوى والحث على التوكل على اللَّه فهو علامة الفلاح والسباق.

4 -

بيان عدة الآيسة والصغار اللائي لم يحضن، وتوضيح عدة الحامل.

5 -

الأمْرُ بالسكنى والنفقة للمطلقة حتى انقضاء عدتها، والتحذير من التضييق عليها.

6 -

الحامل ينفق عليها حتى تضع حملها، وأجر الإرضاع على الآباء، ولا يكلف اللَّه نفسًا إلا وسعها.

ص: 88

7 -

سنة اللَّه تعالى في الانتقام من أهل القرى الظالمين، وامتنان اللَّه سبحانه بنعمة الوحي والهداية ونعيم الآخرة على المؤمنين.

8 -

الإخبار عن قدرته تعالى وسلطانه العظيم، وخلقه سبع سماوات وسبع أرضين.

* * *

ص: 89

بسم الله الرحمن الرحيم

1.

قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)} .

في هذه الآية: بيانُ العدة التي أمر اللَّه أن يطلق لها النساء، وتأكيد حق السكنى للمطلقة ما دام لزوجها عليها رجعة، والحث على تعظيم حدود اللَّه.

فقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} . قال القرطبي: (الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، خوطب بلفظ الجماعة تعظيمًا وتفخيمًا).

أخرج البخاري في كتاب التفسير من صحيحه، عن ابن شهاب قال: أخبرني سالِمٌ: [أنّ عبد اللَّه بن عمرَ رضي الله عنهما أخبره: أنه طَلَّقَ امرأتَهُ وهي حائضٌ، فَذَكَرَ عُمَرُ لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فتَغَيَّظَ فيه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثم قال: لِيُراجِعْها ثُمَّ يُمْسِكْها حتى تَطْهُرَ، ثم تحيضَ فتطهُرَ، فإنْ بدا له أن يُطَلِّقها فليطلِّقْها طاهِرًا قَبْلَ أن يَمَسَّها، فتِلك العِدَّةُ كما أمَرَهُ اللَّه](1). ورواه مسلم وفيه: [فتلك العدَّة التي أمر اللَّه أن يطلق لها النساء].

وفي صحيح مسلم عن ابن جُرَيْجٍ قال: [أخبرني أبو الزبير: أنه سَمِعَ عبدَ الرحمن بنَ أيمنَ مولى عَزَّةَ، يسألُ ابنَ عُمَرَ؟ وأبو الزبير يسمع ذلك، كيف ترى في رَجُلٍ طَلَّقَ امرأته حائِضًا؟ فقال: طَلَّقَ ابنُ عمر امرأَته وهي حائِضٌ على عهد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَسَألَ عُمَرُ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال: إنَّ عبدَ اللَّه بن عمرَ طَلَّقَ امرأته وهي

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4908) - كتاب التفسير. ورواه مسلم (1471) ح (1).

ص: 90

حائِضٌ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:"لِيُراجِعْها"، فرَدّها، وقال:"إذا طَهُرت فَليُطَلِّقْ أو لِيُمْسِكْ".

قال ابن عمر: وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} ] (1).

ورواه أبو داود وفيه: [وقرأ النبي صلى الله عليه وسلم: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ} في قُبُلِ، عدتهن].

وعن ابن عباس: ({فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} قال: لا يُطَلِّقها وهي حائضٌ ولا في طُهرٍ قد جامعها فيه، ولكن: يتركُها حتى إذا حاضت وطَهُرت طلَّقَها تطليقةً). وقال عكرمة: ({فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ}، العِدّة: الطهر، والقُرْء الحَيضة، أن يُطَلِّقها حُبْلى مستبينًا حَمْلُها، ولا يُطَلِّقها وقد طاف عليها، ولا يدري حُبْلى هي أم لا).

قال ابن كثير: (ومن هاهنا أخذ الفقهاء أحكامَ الطلاق وقَسَّموه إلى طلاق سُنَّة وطلاق بِدْعَة، فطلاقُ السنة أن يُطلِّقها طاهرًا من غير جِماع، أو حامِلًا قد استبان حَملُها، والبِدْعي: هو أن يُطَلِّقها في حال الحيض، أو في طهر قد جامعها فيه، ولا يدري أحَمَلت أم لا؟ وطلاق ثالثٌ لا سُنّة فيه ولا بِدعة، وهو طلاقُ الصغيرة والآيِسة، وغير المدخول بها).

وقوله: {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} . قال السدي: (احفظوا العدة). وقال النسفي: (اضبطوها بالحفظ وأكملوها ثلاثة أقراء مستقبلات كوامل لا نقصان فيهن، وخوطب الأزواج لغفلة النساء). والمقصود من ذلك: ضبط أول العدة ونهايتها لئلا تطول العدة على المرأة فتمتنع من الأزواج.

وقوله: {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} . أي وخافوا ربكم أيها الناس في ضبط تلك العدة واحذروا معصيته في أي أمر أو حدّ من حدود شرعه.

وقوله: {لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ} . قال ابن عباس: (هي المطلقة لا تخرج من بيتها، ما دام لزوجها عليها رجعة، وكانت في عدة). فلها حق السكنى أثناء عدتها، وليس لزوجها أن يخرجها كما ليس لها أن تخرج لأنها معتقلة لحق زوجها.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1471) ح (14) - كتاب الطلاق. وأخرجه أبو داود (2185)، والنسائي (6/ 139)، وأحمد (2/ 80 - 81)، والشافعي (2/ 33).

ص: 91

وقوله: {إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} . قال مجاهد: (إلا أن يزنين)، وقال الحسن:(الزنى، فتخرج ليقام عليها الحد). وقال قتادة: (إلا أن يطلقها على نشوز، فلها أن تحول من بيت زوجها). وقال ابن عباس: (والفاحشة: هي المعصية). وقال: (الفاحشة المبينة أن تبذُوَ على أهلها).

والخلاصة من أقوال المفسرين في ذلك: لا يُخْرَجْنَ من بيوتهن إلا أن ترتكب المرأة فاحشة مبينة وهي: أ- الزنا. ب- إذا نشَزَت المرأة أو بَذَتْ على أهل الرجل وآذتهم في الكلام والفِعال.

وقوله: {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي: شرائعه ومحارمه وما حَدّ لخلقه من الأحكام.

وقوله: {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} . قال الضحاك: (يقول: تلك طاعة اللَّه فلا تعتدوها. من كان على غير هذه فقد ظلم نفسه). وقال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ومن يتجاوز حدود اللَّه التي حدّها لخلقه فقد ظلم نفسه، يقول: فقد أكسب نفسه وزرًا، فصار بذلك لها ظالمًا، وعليها متعدّيًا).

وقوله: {لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} . قال قتادة: (أي مراجعة). قال: (هذا في مراجعة الرجل امرأته). وقال مقاتل: ({بَعْدَ ذَلِكَ} أي بعد طلقة أو طلقتين {أَمْرًا} أي المراجعة من غير خلاف). قال القرطبي: (الأمر الذي يحدثه اللَّه أن يُقَلِّبَ قلبه من بغضها إلى محبتها، ومن الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، ومن عزيمة الطلاق إلى الندم عليه، فيراجعها).

ومن هنا ذهب الإمام أحمد وطائفة من السلف إلى أن المبتوتة لا تجب لها السكنى ولا النفقة، وقد صحّ بذلك الخبر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم:

فقد أخرج النسائي في "الكبرى" والطبراني في "الأوسط" بسند حسن عن عامر الشعبي: [أنه دخل على فاطمة بنتِ قيس أُختِ الضّحاك بن قيس القُرَشي، وزوجها أبو عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي، فقالت: إن أبا عمرو بن حفص أرسل إليَّ وهو مُنطلقٌ في جيش إلى اليمنِ بِطَلاقي، فسألتُ أولياءَه النفقة عليَّ والسكنى، فقالوا: ما أرسل إلينا في ذلك شيئًا، ولا أوصانا به، فانطلقتُ إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقُلت: يا رسول اللَّه! إنَّ أبا عَمْرو بن حفص أرسلَ إليَّ بِطَلاقي، فطلبتُ السكنى والنفقة علي، فقال أولياؤه: لم يُرسِل إلينا في ذلك بشيءٍ. فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: إنما السكنَى

ص: 92

والنفقةُ للمرأة إذا كان لزوجها عليه رَجْعَةٌ، فإذا كانت لا تحِلّ له حتى تَنكِحَ زوجًا غيره فلا نفقة لها ولا سكنى] (1).

2 -

3. قوله تعالى: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)}.

في هذه الآيات: أَمْرُ اللَّه تعالى الرجال بالإحسان للزوجات في الإمساك أو الفراق، وبيانُ جائزة التقوى والحث على صدق التوكل على اللَّه ففي ذلك الفلاح والسباق.

فقوله: {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} . أي المعتدات، إذا قاربن انقضاء العدة. قال ابن جرير:({أَجَلَهُنَّ} وذلك حين قرب انقضاء عددهن).

وقوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} . قال الضحاك: (يقول: فراجع إن كنت تريد المراجعة قبل أن تنقضي العدّة بإمساك بمعروف، والمعروف أن تحسن صحبتها {أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} والتسريح بإحسان: أن يدعها حتى تمضي عدتها، ويعطيها مهرًا إن كان لها عليه إذا طلقها). وقال ابن كثير: {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} : أي محسنًا إليها في صحبتها، وإما أن يعزم على مفارقتها {بِمَعْرُوفٍ} أي: من غير مُقَابحةٍ ولا مُشاتمةٍ ولا تعنيف، بل يُطَلِّقها على وَجه جَميل وسبيل حسن).

وقوله: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} . هو على الندب لا على الوجوب، سواء في الطلاق أو الرجعة، كقوله تعالى:{وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ} [البقرة: 282]. وهو مذهب أبي حنيفة.

قلت: وإنما يتأكد في حق مَنْ عُرِف بالاستهتار في هذه الأمور وعدم المبالاة.

قال القرطبي: (وفائدة الإشهاد ألا يقع بينهما التجاحد، وألا يُتَّهَمَ في إمساكها،

(1) حديث حسن. أخرجه النسائي في "الكبرى"(5596)، والطبراني في "الأوسط"(1164)، وإسناده حسن، وللحديث طرق وشواهد كثيرة.

ص: 93

ولئلا يموت أحدهما فيدّعي الباقي ثبوت الزوجية لِيَرث).

وفي سنن أبي داود بسند صحيح عن عمران بن حصين، سئل عن الرجل يطلق امرأته، ثم يقع بها، ولم يشهد على طلاقها، ولا على رجعتها، فقال:[طَلَّقْتَ لغير سُنة، وراجَعْتَ لغير سنة: أشْهِدْ على طلاقها، وعلى رجعتها، ولا تَعُدْ](1).

وعن الحسن: ({ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} قال: من المسلمين). وقال قتادة: (من أحراركم).

وقوله: {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} . قال النسفي: (لوجهه خالصًا، وذلك أن يقيموها لا للمشهود له ولا للمشهود عليه ولا لغرض من الأغراض سوى إقامة الحق ودفع الضرر).

وقوله: {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ} . أي: إنما ينتفع بهذه الأحكام والمواعظ من كان يؤمن باللَّه ويعظم شرعه، ويخاف عقابه في الدار الآخرة.

وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} . أصل عظيم من أصول الشريعة المطهرة، فإن التقوى هي مفتاح كل خير، وكل فرج ومخرج من كل أمر عسير.

قال ابن عباس: ({وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} يقول: نجاته من كلّ كرب في الدنيا والآخرة). وعن قتادة: ({يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} قال: من شبهات الأمور، والكرب عند الموت). وقال الحسن: (مخرجًا مما نهىِ اللَّه عنه). وقال أبو العالية: (مخرجًا من كل شدة). وقال الربيع بن خَيْثَم: ({يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} من كل شيء ضاق على الناس). وقال الكلبي: ({وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} بالصبر عند المصيبة {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} من النار إلى العقوبة). وقال الحسين بن الفضل: ({وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} في أداء الفرائض، {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} من العقوبة).

وقال سهل بن عبد اللَّه: ({وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} في اتباع السنة {يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا} من عقوبة أهل البدع، ويرزقه الجنة من حيث لا يحتسب).

وقيل: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} في الرزق بقطع العلائق يجعل له مخرجًا بالكفاية. وقال عمر بن عثمان الصَّدفي: ({وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ} فيقف عند حدوده ويجتنب معاصيه يخرجه

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (2186) - تفريع أبواب الطلاق. باب الرجل يراجع ولا يشهد. وانظر صحيح سنن أبي داود (1915).

ص: 94

من الحرام إلى الحلال، ومن الضّيق إلى السّعة، ومن النار إلى الجنة).

وقوله: {وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} . أي من جهةٍ لا تخطر بباله. قال قتادة: (من حيث لا يرجو ولا يؤمل). وفي الأثر عن أبي ذر قال: (إني لأعلم آية لو أخذ بها الناس لكفتهم -تلا-: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ} فما زال يكررها ويعيدها) (1).

وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إن اللَّه لا يظلم مؤمنًا حسنته، يعطى بها (وفي رواية: يثاب عليها الرزق في الدنيا) ويجزى بها في الآخرة، وأما الكافر فيطعم بحسنات ما عمل بها للَّه في الدنيا، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم يكن له حسنة يجزى بها](2).

وقوله: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} . أي: ومن يفوِّض أموره إلى اللَّه، ويحسن الاعتماد عليه -سبحانه- فهو كافيه ما أهمه وما أغمّه.

قال الإمام أحمد: (التوكل عمل القلب). وقال سهل: (التوكل الاسترسال مع اللَّه مع ما يريد). وقيل: (هو علم القلب بكفاية الرب للعبد).

قلت: ولا يستقيم التوكل إلا من أهل العمل ومواجهة القدر بالقدر، وإلا كان عجزًا وكسلًا. وقد امتدح اللَّه المؤمنين بهذه الصفة العالية فقال جل ثناؤه:{وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ} [إبراهيم: 12]. وقال جل ذكره: {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ} [آل عمران: 159].

ومن كنزو السنة العطرة في آفاق ذلك أحاديث:

الحديث الأول: أخرج الترمذي وابن ماجة بسند صحيح عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [لَوْ أنّكُم كنْتم تَوَكّلُون على اللَّه حق توكلِه لَرُزِقْتُم كما تُرْزَقُ الطيرُ، تَغْدو خِماصًا، وتروح بِطانًا](3).

الحديث الثاني: أخرج أحمد وأبو داود والترمذي بسند صحيح عن عبد اللَّه بن مسعود قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [من نزلت به فاقةٌ، فأنزلَها بالناس، لَمْ تُسَدَّ فاقَتُه،

(1) أخرجه الحاكم (2/ 492)، والبيهقي في "الشعب"(1330) مرفوعًا، ولا يصح رفعه كما قال الهيثمي (9130) ففيه انقطاع. والأشبه أن يكون موقوفًا.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 135)، وأحمد (3/ 125). وانظر السلسلة الصحيحة (53).

(3)

حديث صحيح. أخرجه الترمذي (2344)، وابن ماجة (4164). انظر صحيح الترمذي (1911).

ص: 95

ومن نزلت به فاقةٌ، فأنزلها باللَّه، فيوشِكُ اللَّهُ له برزقٍ عاجل، أو آجلٍ].

وفي لفظ: [من نزل به حاجةٌ فأنزلها بالناس كانَ قَمِنًا ألا تُسَهَّل حاجتُه، ومنْ أنزلها باللَّه أتاه اللَّه برزقٍ عاجل، أو بموت آجل](1).

الحديث الثالث: أخرج البزار وابن أبي الدنيا بسند حسن عن ابن عمر مرفوعًا: [لو تعلمونَ قَدْر رحمةِ اللَّه عز وجل، لاتَّكلتُم عليها](2).

وقوله: {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ} . قال ابن كثير: (أي: مُنْفِذٌ قضاياه وأحكامه في خَلْقِه بما يُريده ويشاؤه).

وقوله: {قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} . قال مسروق: (أجلًا). أو قال: (منتهى). قال القرطبي: (أي لكل شيء من الشدة والرخاء أجلًا ينتهي إليه. وقيل: تقديرًا).

وفي التنزيل: {وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ} [الرعد: 8].

وفي صحيح مسلم عن عبد اللَّه بن عمرو قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إن اللَّه كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة. وكان عرشه على الماء](3).

ورواه الترمذي بلفظ: [قدّر اللَّه المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرضين بخمسين ألف سنة].

4 -

5. قوله تعالى: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 442) ح (4207) ورجاله ثقات، وأخرجه الترمذي (2326)، وأبو داود من حديث ابن مسعود. وانظر صحيح الجامع (6442).

(2)

حديث حسن. أخرجه ابن أبي الدنيا في "حسن الظن"(2/ 193/ 1)، ورواه البزار بإسناد حسن كما قال الهيثمي (10/ 213). وانظر السلسلة الصحيحة (2167).

(3)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 51) - باب كتب المقادير قبل الخلق. وانظر مختصر صحيح مسلم (1841) بلفظ: (كتب اللَّه مقادير الخلائق. . .)، وانظر صحيح سنن الترمذي (1750) - أبواب القدر، ورواه أحمد.

ص: 96

لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)}.

في هذ الآيات: بيانُ عدة الآيسة -وهي التي انقطع محيضها لكبرها- أنها ثلاثة أشهر عوضًا عن ثلاثة القروء في حق من تحيض، وكذا الصغار اللائي لم يحضن بَعْدُ لصغرهن فعدتهن مثل عدة الآيسة ثلاثة أشهر، وأما الحامل فعدتها تنتهي بوضع الحمل، والفلاح كل الفلاح إنما هو بامتثال التقوى واللَّه عنده أجر عظيم.

فقوله: {وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ} . قال القرطبي: (يعني قعدن عن المحيض). وقوله: {إِنِ ارْتَبْتُمْ} فيه قولان عند المفسرين يكمل أحدهما الآخر:

القول الأول: أي إن رأين دمًا فشككتم أهو دم حيض أو استحاضة. وهو قول مجاهد وابن زيد.

القول الثاني: إن شككتم فلم تدروا ما الحكم فيهن، فإن عدتهن ثلاثة أشهر.

قال النسفي: ({إِنِ ارْتَبْتُمْ} أي أشكل عليكم حكمهن وجهلتم كيف يعتددن {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ} أي فهذا حكمهن). وهو اختيار ابن جرير.

وقوله: {وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} . قال السدي: (الجواري). قال ابن جرير: (يقول: وكذلك عدد اللائي لم يحضن من الجواري الصغار إذا طلقهن أزواجهن بعد الدخول).

وقوله: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . قال ابن كثير: (يقول تعالى: ومن كانت حامِلًا فَعِدّتُها بوضعه، ولو كان بعد الطلاقِ أو الموتِ بِفُواقِ ناقة).

وفي صحيح البخاري عن يحيى قال: أخبرني أبو سلمة قال: [جاء رجلٌ إلى ابن عباس -وأبو هريرة جالِسٌ عِنده- فقال: أَفْتِني في امرأة وَلَدَتْ بَعْدَ زوجها بأربعين ليلة، فقال ابن عباس: آخِرُ الأجَلين. قلت أنا: {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} قال أبو هريرة: أنا مع ابن أخي -يعني أبا سلمة- فأرسلَ ابنُ عباس غُلامَهُ كُرَيبًا إلى أم سلمة يسألها فقالت: قتِلَ زَوْجُ سُبَيْعَةَ الأسلمية وهي حُبْلى، فوضَعَتْ بَعْدَ موتِه بأربعين ليلة، فَخُطِبَتْ فأنكحها رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وكان أبو السّنابل فيمن خطبها](1).

وأخرج البخاري وأحمد والنسائي عن المِسور بن مَخْرمة: [أنَّ سُبَيْعَةَ الأسلمية تُوفي

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4909) - كتاب التفسير، عند هذه الآية من سورة الطلاق.

ص: 97

عنها زوجها وهي حامل، فلم تمكُث إلا لياليَ حتى وضعت، فلما تَعَلّت من نفاسها خُطِبَت، فاستأذنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في النكاح، فَأذِنَ لها أن تُنْكَحَ، فَنُكِحَت] (1).

وفي صحيح مسلم عن ابن شهاب: حدثني عُبَيْد اللَّه بنُ عبدِ اللَّه بنِ عُتبة بن مسعود، أن أباه كتبَ إلى عمر بن عبد اللَّه بن الأرقم الزُّهري، يأمره أن يَدْخُلَ على سُبَيْعَةَ بِنْتِ الحارِثِ الأَسْلَمِيَّةِ، فيسأَلَها عن حَديثها وعَمَّا قال لها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم حين استَفْتَتْهُ، فكتب عمِرُ بن عبد اللَّه إلى عبد اللَّه بن عُتبة يُخْبِرُه أن سُبَيْعَةَ أخْبَرَتْه، أنها كانت تحت سَعْدِ بن خوْلَةَ، وهو في بني عامرِ بن لؤي، وكان مِمَّن شهد بَدْرًا، فَتُوفي عنها في حَجَّة الوداعِ وهي حامِلٌ، فَلمْ تَنْشَبْ أن وَضَعَتْ حَمْلَها بَعْدَ وفاتِه، فلمّا تَعَلَّتْ مِنْ نِفاسِها تَجَمَّلَتْ لِلخُطَّاب، فدخِلَ عليها أبو السّنابِلِ بْنُ بَعْكَكٍ -رجلٌ من بني عبد الدار- فقال لها مالي أَراكِ مُتَجَمِّلةً؟ لعلّك تَرْجين النِّكاح، إنَّك واللَّه! ما أنْتِ بناكِحٍ حتى تَمُرَّ عليك أربعةُ أشْهُرٍ وعَشْرٌ. قالت سُبَيْعة: فلما قال لي ذلك، جَمَعْتُ عَليَّ ثِيابي حين أمْسَيْتُ، فأتَيْتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم فسألْتُهُ عن ذلك؟ فأفتاني بأني قدْ حَلَلْتُ حين وَضَعْتُ حَمْليِ، وأمَرَني بالتزوُّج إنْ بدا لي] (2). قال ابن شهاب:(فلا أرى بأسًا أنْ تَتَزَوَّجَ حين وضَعَتْ، وإنْ كانت في دَمِها، غيرَ أنه لا يقرَبُها زوجُها حتى تَطْهُر).

وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} . قال مقاتل: (ومن يتق اللَّه في اجتناب معاصيه يجعل له من أمره يُسرًا في توفيقه للطاعة).

والمقصود: تأكيد أن تقوى اللَّه بتعظيم أوامره واجتناب نواهيه مفتاح كل فرج وتيسير، وكل مخرج من أمر عسير.

وقوله: {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ} . أي هذا الذي ذُكِرَ من الأحكام الشرعية هو أمْرُ اللَّه أنزله إليكم من اللوح المحفوظ وبَيّنَه لكم، لتكونوا على بصيرة في أمور دينكم.

وقوله: {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} . أي: ومن يخف اللَّه فيعظم

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (5320)، والنسائي (6/ 190)، وأحمد (4/ 327)، وابن ماجة (2029)، والشافعي (2/ 32 - 33)، والبيهقي (7/ 428)، وغيرهم.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (1484) - كتاب الطلاق. باب انقضاء عدة المتوفى عنها وغيرها، بوضع الحمل. وانظر صحيح البخاري (5319)، وسنن أبي داود (2306)، والنسائي (6/ 194 - 195)، وابن ماجة (2028)، والبيهقي (7/ 428).

ص: 98

أمر دينه حق التعظيم يمح عنه ذنوبه ويجزل له الثواب على التقوى والعمل الصالح، ويدخله جنته وذلك أعظم الجزاء وأطيب النعيم.

6 -

7. قوله تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)}.

في هذه الآيات: الأَمْرُ بالسكنى والنفقة للمطلقة حتى انقضاء عدتها، والتحذير من التضييق عليها، والحاملُ ينْفق عليها حتى تضع حملها، وأجر الإرضاع على الآباء، ولا يكلف اللَّه نفسًا إلا وسعها.

فقوله: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} . قال ابن عباس: (يقول: من سعتكم). قال السدي: (المرأة يطلقها، فعليه أن يسكنها، وينفق عليها). قال ابن كثير: (يقول تعالى آمرًا عباده إذا طَلَّقَ أحدُهم المرأة أن يُسْكِنها في منزل حتى تنقضي عدَّتها، فقال: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ} أي: عندكم). وعن قتادة: {مِنْ وُجْدِكُمْ} قال: إن لم تجد إلا جَنْبَ بيتِكَ فأسكنها فيه). وقال السدي: ({مِنْ وُجْدِكُمْ}: من ملككم، من مقدرتكم).

وقوله: {وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} . قال مجاهد: (في المسكن). وقال سفيان: (ليس ينبغي له أن يضارها ويضيق عليها مكانها). وقال مقاتل: (يعني يُضاجِرها لِتَفْتَدِيَ منه بمالها أو تخرجَ من مسكنه). قال القاسمي: ({وَلَا تُضَارُّوهُنَّ} أي لا تستعملوا معهن الضرار {لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} أي في المسكن ببعض الأسباب، من إنزال من لا يوافقهن، أو بشغل مكانهن، أو غير ذلك، حتى تضطروهن إلى الخروج أو الافتداء).

وقوله: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} . قال السدي: (ينفق على الحبلى إذا كانت حاملًا حتى تضع حملها). قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وإن كان نساؤكم المطلقات أولات حمل وكنّ بائنات منكم، فأنفقوا عليهن في عدّتهن منكم حتى يضعن حملهن).

وقوله: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} . قال القرطبي: {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} -يعني

ص: 99

المطلقات- أولادكم منهن فعلى الآباء أن يعطوهنّ أجرة إرضاعهن).

وقوله: {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} . قال النسفي: (أي تشاوروا على التراضي في الأجرة، أو ليأمر بعضكم بعضًا، والخطاب للآباء والأمهات {بِمَعْرُوفٍ} بما يليق بالسنة، ويحسن في المروءة، فلا يماكس الأب ولا تعاسر الأم لأنه ولدهما، وهما شريكان فيه وفي وجوب الإشفاق عليه). وقال القرطبي: ({وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} هو خطاب للأزواج والزوجات، أي وليَقْبَلْ بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل. والجميل منها إرضاع الولد من غير أجرة. والجميل منه توفير الأجرة عليها للإرضاع).

وقوله: {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} . قال السدي: (إن أبت الأم أن ترضع ولدها إذا طلقها أبوه التمس له مرضعة أخرى، الأمّ أحق إذا رضيت من أجر الرضاع بما يرضى به غيرُهَا، فلا ينبغي له أن ينتزع منها).

وقوله: {لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} . قال سفيان: (يقول: من طاقته). أي: لينفق على المولود والدُه أو وليُّه، بحسب قدرته وعلى قدر وسعه).

وقوله: {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} . قال ابن زيد: (فرض لها من قدر ما يجد). وقال السدي: ({لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا} يقول: لا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني). وقال سفيان: {إِلَّا مَا آتَاهَا} يقول: إلا ما أطاقت). وهو كقوله تعالى: {لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة: 286].

وقوله: {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} قال سفيان: (بعد الشدة الرخاء). قال ابن جرير: ({سَيَجْعَلُ اللَّهُ} للمقل من المال المقدور عليه رزقه {بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} يقول: من بعد شدة رخاء، ومن بَعد ضيق سعة، ومن بعد فقر غنى).

قلت: والآية وعد من اللَّه تعالى بالفرج على المعسر الممتثل أمر اللَّه في بذل وسعه بأنه سيجعل له بعد الضيق غنى، وبعد الشدة سعة، وبعد العسر يسرًا.

وفي التنزيل: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6].

أخرج الخطيب في "التاريخ" بسند رجاله ثقات عن أنس مرفوعًا: [النَّصْرُ مع الصَّبْر، والفرج مع الكرب، وإن مع العُسْر يسرًا](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه الخطيب في "التاريخ"(10/ 287)، والديلمي (4/ 111 - 112).

ص: 100

8 -

11. قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)}.

في هذه الآيات: سُنَّةُ اللَّه تعالى في الانتقام من أهل القرى إذا تكبروا على الحق وتمادوا على الرسل غير ما ينتظرهم في الآخرة من العقاب، وامتنان اللَّه سبحانه على المؤمنين بنعمة الوحي والهداية في الدنيا وما أعدَّ لهم في الآخرة من جزيل الثواب.

فقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} . قال السدي: (غيَّرت وعصت). وقال ابن زيد: (العتوّ هاهنا الكفر والمعصية، وعتت عن أمر ربها: تركته ولم تقبله). والمقصود: كم من أهل قرية طغوا عن أمر ربهم وتمادوا في تكذيبهم الرسل ولجّوا في الكفر والفساد والمعصية.

وقوله: {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} . أي جازيناها بالعذاب في الدنيا. قال ابن عباس: (يقول: لم نرحم). قال القرطبي: (لما ذكر الأحكام ذكر وحذّر مخالفة الأمر، وذكر عُتُوّ قوم وحلول العذاب بهم). وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، فعذبناها عذابًا نكرًا في الدنيا بالجوع والقَحْطِ والسيف والخَسْف والمَسْخ وسائر المصائب، وحاسبناها في الآخرة حسابًا شديدًا. والنُّكر: المنكر.

وقوله: {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} . أي في الآخرة، عذبناها عذابًا منكرًا فظيعًا.

وقوله: {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} . أي فذاقت غِبَّ مخالفتها، وتجرّعت نتيجة طغيانها. قال ابن زيد:(ذاقت عاقبة ما عملت من الشر. الوبال: العاقبة).

وقوله: {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} . أي هلاكًا في الدنيا وألوان العذاب، وفي الآخرة في نار جهنم.

وقوله: {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} . بيان لذلك الخسران أنه العذاب الشديد في نار الآخرة بعدما حلّ بهم من العذاب في الدنيا.

ص: 101

وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} . قال السدي: (يا أولي العقول). وقال ابن كثير: (أي: الأفهام المستقيمة، لا تكونوا مثلهم فيصيبَكم ما أصابَهم يا أولي الألباب).

وقوله: {الَّذِينَ آمَنُوا} . بدل من {يَاأُولِي الْأَلْبَابِ} ، أو نعت لهم. أي الذين آمنوا باللَّه وصدقوا رسله.

وقوله: {قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} . يعني القرآن. والمقصود: يا أولي العقول النيرة الذين آمنتم باللَّه وصدقتم رسوله، اتقوا اللَّه الذي أنزل عليكم القرآن، فخافوه واعملوا بطاعته واحذروا معصيته.

وقوله: {رَسُولًا} . قيل: قد نُصب على أنه بدل اشتمال (1). وقيل: الرسول تفسير وترجمة عن الذكر - واختاره ابن جرير. وقال الزجاج: (إنزال الذكر دليل على إضمار أرسل، أي أنزل إليكم قرآنًا وأرسل رسولًا). ويجوز أن ينتصب {رَسُولًا} على الإغراء، والتقدير: اتبعوا رسولًا.

وقوله: {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي: يقرأ عليكم آيات القرآن، ويبين لكم ما تحتاجون إليه من الأحكام، ليخرج المؤمنين به من ظلمات الجاهلية والكفر، إلى نور العلم والإيمان.

وقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} . أي: قد وسع اللَّه عليه من ألوان الرزق والنعيم في الجنات. قال النسفي: ({قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا}. فيه معنى التعجب والتعظيم لما رزق المؤمنين من الثواب).

12.

قوله تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)} .

في هذه الآية: إخبار اللَّه تعالى عن قدرته التامة وسلطانه العظيم، في خلق سبع سماوات وسبع أرضين، يتنزل الأمر بينهن بإذن الواحد القهار الحكيم ليكون ذلك باعثًا على تعظيم دينه القويم.

(1) أي لأن الرسول هو الذي بلغ الذّكر. فيكون {رَسُولًا} بدل اشتمال وملابسة.

ص: 102

فقوله: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ} . قال ابن جرير: (لا ما يعبده المشركون من الآلهة والأوثان التي لا تقدر على خلق شيء).

وقوله: {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} . أي: في الخلق والعدد. قال قتادة: (خلق سبع سماوات وسبع أرضين، في كل سماء من سمائه وأرض من أرضه خلق من خلقه وأمر من أمره وقضاء من قضائه).

قلت: وأما تفصيلِ توضع الأرضين السبع فاللَّه أعلم به، وإنما نسلم لقول اللَّه تعالى في هذه الآية {وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} ، وكذلك لما ثبت في السنة الصحيحة في آفاق ذلك من أحاديث، منها:

الحديث الأول: أخرج الإمام مسلم في الصحيح عن سعيد بن زيد قال: سَمِعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [من أخذ شِبْرًا من الأرض بغير حَقِّهِ، طُوِّقَهُ في سَبْع أَرَضين يوم القيامة](1). وفي لفظ: [من اقتطع شبرًا من الأرض ظُلمًا، طَوَّقه اللَّه إياه يومَ القيامة من سَبْعِ أرضين].

الحديث الثاني: خرّج مسلم -كذلك- عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [لايأخُذُ أحدٌ شِبْرًا من الأرض بغير حَقِّهِ، إلا طَوِّقَهُ اللَّه إلى سَبْع أرضين يوم القيامة]. (2)

الحديث الثالث: أخرج البخاري في "الأدب المفرد"، وأحمد في المسند، بسند صحيح من حديث عبد اللَّه بن عمرو مرفوعًا:[إن نبيَّ اللَّه نوحًا صلى الله عليه وسلم لما حضرته الوفاة قال لابنه: إني قاص عليك الوصية، آمرتك باثنتين وأنهاك عن اثنتين، آمرك بـ "لا إله إلا اللَّه"، فإن السماوات السبع والأرضين السبع لو وضعت في كفة، ووضعت "لا إله إلا اللَّه" في كفة، رجحت بهن "لا إله إلا اللَّه"، ولو أن السماوات السبع والأرضين السبع كن حلقة مبهمة قصمتهن "لا إله إلا اللَّه". وسبحان اللَّه وبحمده فإنها صلاة كل شيء، وبها يرزق الخلق. وأنهاك عن الشرك والكبر](3).

(1) حديث صحيح. رواه مسلم (1610) - كتاب المساقاة. ح (137)، (138). باب تحريم الظلم وغصب الأرض وغيرها. وللحديث قصة.

(2)

حديث صححيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1611) - كتاب المساقاة. الباب السابق.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(548)، وأحمد (2/ 169 - 170). والبيهقي في "الأسماء"(79). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (134).

ص: 103

الحديث الرابع: أخرج النسائي وابن حبان بسند حسن عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه، أنّ كعبًا حلف بالذي فلق البحر لموسى:[أنَّ صُهيبًا حدّثه أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم ير قرية يريد دخولها إلا قال حين يراها: "اللهم ربَّ السماوات السبع وما أظْلَلْنَ، وربَّ الأرضين السبع وما أَقْلَلْنَ، وربَّ الشياطين وما أَضْلَلْنَ، وربَّ الرياح وما أَذْرَيْنَ، إنا نسألك خيرَ هذه القرية وخيرَ أهلها، ونعوذ بك من شَرِّها وشَرِّ أَهلها وشَرِّ ما فيها"](1).

فهذه الآية مع هذه الأحاديث تثبت وجود الأرضين السبع كما أثبت الوحي من قرآن وسنة وجود السماوات السبع، ومن فسّر الآية من المعاصرين بما يؤول إلى نفي المثلية في العدد اغترارًا بما وصل إليه علم الأوربيين والأمريكان وغيرهم من الرقي وأنهم لا يعلمون سبع أرضين فقد أبعد النُّجْعَة وأغرقَ في النَّزْع وخالف القرآن والحديث بلا مستند. وإنما يقال له: هل علم القوم حقيقة وجود سبع سماوات طباقًا؟ ! الجواب: لا، وإنما هو خبر اللَّه تعالى آمنا به وصدقناه وجاءت به جميع الكتب المنزلة على الرسل. ومن ثم يقال لهؤلاء: أفننكر كلام اللَّه وكلام رسوله بجهل الأوربيين وأقرانهم، مع اعترافهم أنهم كلما ازدادوا علمًا بالكون ازدادوا علمًا بجهلهم به، وصدق اللَّه العظيم القائل:{وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ} [يوسف: 76]، والقائل:{وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا} [الإسراء: 85].

وقوله: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} . قال مجاهد: (يتنزل الأمر من السماوات السبع إلى الأرضين السبع). والأمر هنا الوحي أو القضاء والقدر.

وفي قوله تعالى: {بَيْنَهُنَّ} إشارة إلى ما بين الأرض السُّفلى التي هي أقصاها وبين السماء السابعة التي هي أعلاها. وقيل: {يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} بحياة بعض وموت بعض وغِنى قوم وفقر قوم. وقيل: هو ما يُدَبَّرُ فيهن من عجيب تدبيره، فَيُنزل المطر ويُخرج النبات ويأتي بالليل والنهار، والصيف والشتاء، ويخلق الحيوانات على اختلاف أنواعها وهيئاتها، فينقلهم من حال إلى حال.

وقوله: {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . قال القرطبي: (يعني أن من قدر على هذا الملك العظيم فهو على ما بينهما من خلقه أقدر، ومن العفو والانتقام أمكن، وإن استوى كل ذلك في مقدوره ومُكْنَته).

(1) حديث حسن. أخرجه النسائي في "الكبرى"(8826)، (10377)، وأخرجه ابن حبان (2709)، وابن خزيمة (3565)، والحاكم (1/ 446)، والبيهقي (5/ 252).

ص: 104

وقوله: {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} . -علمًا- نصب على المصدر المؤكد، أو هو تمييز، والتقدير: قد علم كل شيء علمًا، أو أحاط إحاطةً علمًا. قال ابن جرير:(يقول جل ثناؤه: فخافوا أيها الناس المخالفون أمر ربكم عقوبته، فإنه لا يمنعه في عقوبتكم مانع، وهو على ذلك قادر، ومحيط أيضًا بأعمالكم، فلا يخفى عليه منها خاف، وهو محصيها عليكم، ليجازيكم بها، يوم تجزى كل نفس ما كسبت).

تم تفسير سورة الطلاق بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه صبيحة الأربعاء 7 شوال 1426 هـ الموافق 9/ تشرين الثاني/ 2005 م

* * *

ص: 105