المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌أسباب نزول هذه الآيات: - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٨

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌60 - سورة الممتحنة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌61 - سورة الصف

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌62 - سورة الجمعة

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاح السورة

- ‌آداب خاصة بيوم الجمعة:

- ‌الأدب الأول: الغُسْل لصلاة الجمعة:

- ‌الأدب الثاني: التبكير لصلاة الجمعة:

- ‌الأدب الثالث: لبس أحسن الثياب والتسوك والتماس أجمل الطيب:

- ‌ما يستحب من الأذكار والأدعية يوم الجمعة:

- ‌أولًا: الإكثار من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ثانيًا: قراءة سورة الكهف:

- ‌ثالثًا: الإكثار من الدعاء رجاء مصادفة ساعة الإجابة:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌63 - سورة المنافقون

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌64 - سورة التغابن

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌65 - سورة الطلاق

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌66 - سورة التحريم

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌أسباب نزول هذه الآيات:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌67 - سورة الملك

- ‌ذكر ما جاء في فضلها من أحاديث:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌68 - سورة القلم

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌69 - سورة الحاقة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌70 - سورة المعارج

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌71 - سورة نوح

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌72 - سورة الجن

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌73 - سورة المزمل

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌74 - سورة المدثر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌75 - سورة القيامة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌76 - سورة الإنسان

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌77 - سورة المرسلات

- ‌الأحاديث الواردة في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌78 - سورة النبأ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌79 - سورة النازعات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌80 - سورة عبس

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌81 - سورة التكوير

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌82 - سورة الانفطار

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌ دروس ونتائج وأحكام

- ‌83 - سورة المطففين

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌84 - سورة الإنشقاق

- ‌الأحاديث الواردة في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌85 - سورة البروج

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌86 - سورة الطارق

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌87 - سورة الأعلى

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌88 - سورة الغاشية

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌89 - سورة الفجر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌90 - سورة البلد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌91 - سورة الشمس

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌92 - سورة الليل

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌93 - سورة الضحى

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌94 - سورة الشرح

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌95 - سورة التين

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌96 - سورة العلق

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌97 - سورة القدر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌فضائل ليلة القدر وما ورد في تعيينها من أحاديث:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌98 - سورة البينة

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌99 - سورة الزلزلة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌100 - سورة العاديات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌101 - سورة القارعة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌102 - سورة التكاثر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌103 - سورة العصر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌104 - سورة الهمزة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌105 - سورة الفيل

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌106 - سورة قريش

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌107 - سورة الماعون

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌108 - سورة الكوثر

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌109 - سورة الكافرون

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌110 - سورة النصر

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌111 - سورة المسد

- ‌أسباب النزول:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌112 - سورة الإخلاص

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌113 - سورة الفلق

- ‌فضائل المعوذتين وما ورد في ذكرهما:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌114 - سورة الناس

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

الفصل: ‌أسباب نزول هذه الآيات:

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

5. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)}.

في هذه الآيات: عِتابٌ لطيف من اللَّه تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في تحريمه على نفسه ما أحَلَّ اللَّه له ابتغاء مرضاة أزواجه واللَّه غفور رحيم، وقد أوضح اللَّه تعالى له كيفية التحلل من ذلك وكفارة اليمين. وعتابٌ لطيف آخر لزوجاته صلى الله عليه وسلم ليقدموا له أهنأ العيش وأطيبه وإلا جاء الاستبدال من اللَّه العليم الحكيم.

‌أسباب نزول هذه الآيات:

لقد ورد ذكر سبب نزول هذه الآيات في أحاديث من السنة الصحيحة:

الحديث الأول: أخرج البخاري عن ابن جريج قال: [زعم عطاء أنه سمع عبيد بن عمير يقول: سمعت عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يمكث عند زينب ابنة جحش ويشرب عندها عسلًا، فتواصيت أنا وحفصة أن أَيَّتُنا دخل عليها النبي صلى الله عليه وسلم فلتقل إني لأجد منك ريح مغافير (1)، أكلت مغافير، فدخل على إحداهما فقالت له ذلك،

(1) مغافير: جمع مغفور، وهو صمغ حُلْوٌ له رائحة كريهة ينضجه شجر يسمى العُرْفط كأن النحل وقف =

ص: 109

فقال: لا بأس، شربت عسلًا عند زينب ابنة جحش ولن أعودَ له. فنزلت:{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} إلى {إِنْ تَتُوبَا} لعائشة وحفصة {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا} لقوله: بل شربت عسلًا] (1).

وفي رواية: (قال: ولن أعود له وقد حلفت فلا تخبري بذلك أحدًا).

الحديث الثاني: يروي النسائي بسند صحيح عن أنمس رضي الله عنه: [أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها، فلم تزل به عائشة وحفصة حتى جعلها على نفسه حرامًا، فأنزل اللَّه هذه الآية: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} إلى آخر الآية](2).

الحديث الثالث: يروي البزَّار في مسنده بإسناد صحيح عن ابن عباس: [{يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} قال: نزلت هذه في سُرِّيَتِه](3).

وذكر ابن جرير بإسناده من حديث زيد بن أسلم وعُبيد اللَّه بن عبد اللَّه بن عباس: أن الآية نزلت في شأن مارية القبطية أم إبراهيم أصابها النبي صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة في نوبتها فوجدت حفصة في نفسها في ذلك.

فعن زيد بن أسلم: (أنّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أصاب أم إبراهيم في بيت بعض نسائه، فقالت: أي رسول اللَّه في بيتي وعلى فراشي؟ ).

وفي رواية ابن عباس: (قال: ألا ترضين أن أحرِّمها فلا أقربها؟ قالت: بلى. فحرّمها. وقال لها: لا تذكري ذلك لأحد، فذَكرته لعائشة).

ورواه الهيثم بن كليب في مسنده، كما ذكر الحافظ ابن كثير، وقال هذا إسناد صحيح، عن ابن عمر: [قال النبي صلى الله عليه وسلم لحفصة: لا تخبري أحدًا وإنّ أم إبراهيم عليَّ حرام. فقالت: أتحرم ما أحَلَّ اللَّه لك؟ قال: فواللَّه لا أقربها. قال: فلم يقربها، حتى

= عليه، وكان يكره عليه الصلاة والسلام أن يرى منه رائحة كريهة فحرّمه على نفسه.

(1)

حديث صحيح. أخرجه البخاري في صحيحه (5267) - كتاب الطلاق. وكذلك (6691).

(2)

حديث صحيح. أخرجه النسائي في السنن (3959)، وفي الكبرى (21)، وفي "التفسير"(627)، وأخرجه الحاكم (2/ 493) من طريقين، وهو صحيح، وله شواهد.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البزار (2274)، (2275)"كشف"، ورواه الطبراني -حديث رقم- (11130) وإسناده صحيح. وقال الهيثمي في "المجمع" (7/ 126): رجال البزار رجال الصحيح غير بشر بن آدم، وهو ثقة.

ص: 110

أخبرت عائشة، قال: فأنزل اللَّه تعالى: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} ] (1).

قال الشوكاني: في تفسيره "ج 5/ ص 252": (فهذان سببان صحيحان لنزول الآية، والجمع ممكن بوقوع القصتين: قصةَ العسل وقصة مارية، وأن القرآن نزل فيهما جميعًا وفي كل واحد منهما أنه أسَرَّ الحديث إلى بعض أزواجه).

وقوله: {وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} . أي غفور يا محمد ذنوب التائبين، وقد غفر لك تحريمك على نفسك ما أحل لك.

وقوله: {قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ} . قال الشعبي: (عوتب في التحريم، وجاءت الكفارة في اليمين). أي: قد بين اللَّه لكم تحلة أيمانكم، وحدّها لكم أيها الناس، فتحليل اليمين كفارتها. والتحلّة: مصدر بمعنى التحليل. فشرع تحليل الأيمان بحل ما عقدته بالكفارة.

وقوله: {وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ} . قال القرطبي: (وليّكم وناصركم بإزالة الحظر فيما تحرمونه على أنفسكم، وبالترخيص لكم في تحليل أيمانكم بالكفارة، وبالثواب على ما تخرجونه في الكفارة).

وقوله: {وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ} . أي: فلما أخبرت بالحديث الذي أسرّ إليها رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم صاحبتها وأظهر اللَّه نبيّه محمدًا صلى الله عليه وسلم على أنها قد أنبأت بذلك صاحبتها {عَرَّفَ بَعْضَهُ} أي عرّف النبي صلى الله عليه وسلم حفصة بعض ذلك الحديث وأخبرها به وترك أن يخبرها ببعض.

وقوله: {فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ} . أي: قالت حفصة حين أنبأها ذلك: من أنبأك هذا الخبر وأخبرك به؟ قال النبي صلى الله عليه وسلم: خبرني به {الْعَلِيمُ} بسرائر عباده {الْخَبِيرُ} بأمورهم وأحوالهم، لا يخفى عليه شيء.

وعن ابن زيد قال: ({فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا} ولم تشك أن صاحبتها أخبرت عنها {قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ}).

وقوله: {إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} . قال ابن عباس: (يقول: زاغت قلوبكما، يقول: قد أثمت قلوبكما). وقال قتادة: (أي مالت قلوبكما). قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: إن تتوبا إلى اللَّه أيتها المرأتان فقد مالت قلوبكما إلى محبة

(1) إسناده صحيح. وصححه الحافظ ابن كثير. وانظر "الصحيح المسند من أسباب النزول" - الوادعي - سورة التحريم. وله شواهد.

ص: 111

ما كرهه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من اجتنابه جاريته، وتحريمها على نفسه، أو تحريم ما كان له حلالًا مما حرّمه على نفسه سبب حفصة).

وقال القرطبي: ({إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ} يعني حفصة وعائشة، حَثَّهما على التوبة على ما كان منهما من الميل إلى خلاف محبة رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. {فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا} أي زاغت ومالت عن الحق. وهو أنهما أحَبَّتَا ما كرِهَ النبي صلى الله عليه وسلم من اجتناب جاريته واجتناب العسل، وكان عليه السلام يحبّ العسل والنساء).

وقوله: {وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} . أي تتظاهرا على النبي وتتعاونا عليه بالمعصية والإيذاء. قال الضحاك: ({وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ} يقول: على معصية النبي صلى الله عليه وسلم وأذاه). وقوله: {فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ} . أي: اللَّه وليّه وناصره، فلا يضره ذلك، التظاهر منهما، وكذلك جبريل وليه، وكذلك {وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ}. قال عكرمة:(أبو بكر وعمر). فقد كانا عونًا له عليهما وهما أبوا عائشة وحفصة. وقيل: خيار المؤمنين. وقيل الأنبياء. وقال السدي: (هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم). قلت: واللفظ يعمّ من صيح من المؤمنين ممن آمن وعمل صالحًا.

وقوله: {وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} . أي: والملائكة على تكاثر عددهم بعد نصرة اللَّه وجبريل وصالحي المؤمنين {ظَهِيرٌ} فوج مظاهر له، أعوان على من آذاه، وأراد مساءته، فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه.

وقوله: {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} .

روى مسلم في صحيحه عن سِمَاكٍ أَبي زُمَيْلٍ: حدَّثني عبد اللَّه بن عباس: حدّثني عمر بن الخطاب قال: [لمّا اعتزَلَ نبيُّ اللَّه صلى الله عليه وسلم نِساءه قال: دخلتُ المسجِدَ، فإذا الناس يَنْكُتون بالحصى ويقولون: طَلَّق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نِساءه، وذلك قبل أَنْ يُؤمَرْنَ بالحجاب -قال عمر- فقلت: لأَعْلَمَنَّ ذلك اليوم -قال-: فَدَخَلْتُ على عائشةَ، فقلت: يا بِنْتَ أبي بكر! أقَدْ بلغَ مِنْ شأنِكِ أَنْ تُؤذي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ فقالت: مالِي ومالَكَ يا ابْنَ الخَطّاب؟ عَليكِ بِعَيْبَتِكَ (1). قال: فدخَلْتُ على حفصةَ بنتِ عمرَ، فقلت لها: يا حفصةُ! أَقَدْ بَلَغَ مِنْ شأنِكِ أَنْ تؤذي رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ اللَّه! لقد عَلِمْتِ أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم لا يُحِبُّكِ، ولولا أنا لَطَلَّقَكِ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم، فبَكَتْ أشدَّ البُكاء، فقلت لها: أينَ

(1) المراد عليك بوعظ ابنتك حفصة. والعيبة في لغة العرب: وعاء يجعل الإنسان فيه أفضل ثيابه ونفيس متاعه، فشبهت ابنته بها.

ص: 112

رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قالت: هو في خِزانته في المَشْرُبَة، فدخلت فإذا أنا بِرباحٍ غلامِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قاعِدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبة، مُدَلٍّ رِجليه على نَقيرٍ مِنْ خَشَبٍ، وهو جِذْعٌ يَرْقى عليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويَنْحَدِرُ، فنادَيْتُ: يا رباحُ! استأذِن لي عِندك على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فَنَظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إليَّ فلم يَقُل شيئًا، ثم رفعتُ صوتي فقُلتُ: يا رباحُ! استأذِن لي عندك على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإني أظُنُّ أنَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم ظَنَّ أني جِئْتُ مِنْ أجل حَفْصَةَ، واللَّه! لئِن أمرني رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم بضَرْبِ عُنُقِها لأضرِبَنَّ عُنَقَها، ورَفَعْتُ صَوْتي، فأوْمَأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدَخلتُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وهو مُضْطَجِعٌ على حَصير فَجَلَسْتُ، فأدْنَى عليه إزارَهُ، وليسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جنبِهِ، فَنَظَرْتُ بِبصري في خِزَانَةِ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فإذا أنا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظًا (1) في ناحية الغُرْفةِ، وإذا أَفِيقٌ (2) مُعَلَّقٌ، -قال-: فابْتَدَرَتْ عَيْنايَ. قال: "ما يبكيك؟ يا ابن الخطاب! " قلت: يا نبيَّ اللَّه! ومالي لا أَبْكي؟ وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِكَ، وهذه خِزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاكَ قيصرُ وكِسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وصَفْوَتُهُ، وهذِه خِزانَتُكَ. فقال:"يا ابنَ الخطاب! ألا ترضى أن تكون لنا الآخِرةُ ولهم الدنيا؟ " قلت: بلى. قال: ودَخَلْتُ عليه حينَ دخَلْتُ وأنا أرى في وجهه الغضبَ، فقلت: يا رسول اللَّه! ما يَشُقُّ عليك من شأنِ النساء؟ فإن كنتَ طَلَّقْتَهُنَّ فإن اللَّه معك وملائكتَه وجبريلَ وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلَّما تَكَلَّمْتُ -وأحْمَدُ اللَّه- بكلامٍ إلا رَجوْتُ أنْ يكونَ اللَّهُ يُصَدِّقُ قولي الذي أقولُ. ونزلت هذه الآيةُ آيةُ التَّخيير:{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5]{إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ} [التحريم: 4]، وكانت عائِشةُ بِنْتُ أبي بكر وحفصةُ تَظاهرانِ على سائرِ نساء النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: يا رسول اللَّه! أَطَلَّقْتَهُنَّ؟ قال: "لا". قلت: يا رسول اللَّه! إني دخلتُ المسجدَ والمسلمون يَنْكتون بالحصى، يقولون: طَلَّقَّ رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم نِساءَه، أَفَأَنْزِلُ فَأُخَبِرَهُم أَنَّكَ لم تُطَلِّقهُنَّ؟ قال:"نعم، إن شئت" فلم أَزلْ أُحَدِّثُهُ حتى تَحَسَّرَ الغَضَبُ عن وَجْهِهِ، وحتى كَشَرَ فَضحِكَ، وكان مِنْ أَحْسَنِ الناس ثَغْرًا، ثمَّ نزلَ نبيُّ اللَّه صلى الله عليه وسلم فَنَزلْتُ أَتَشَبَّثُ بالجِذعِ، ونزلَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كأنَّما يمشي على الأرض ما يَمَسُّهُ بيده، فقلت: يا رسول اللَّه! إنّما كُنْتَ في الغُرْفَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ. قال: "إنَّ

(1) القرظ: ورق السلم يدبغ به.

(2)

أفيقٌ: هو الجلد الذي لم يتم دباغه، وجمعه أَفَق، كأديم وأَدَم.

ص: 113

الشهر يكون تِسعًا وعِشْرين" فقمت على باب المسجد، فناديتُ بأعلى صوتي: لَمْ يُطَلِّق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم نِساءَهُ، ونزلَتْ هذه الآية:{وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ} [النساء: 83]. فكنتُ أنا استنبطْتُ ذلكَ الأمْرَ، وأنزل اللَّه عز وجل آيةَ التَّخْيير] (1).

وفي جاء الترمذي عن عائشة قالت له: يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لا تخبر أزواجك أني اخترتك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:[إنما بعثني اللَّه مُبَلِّغًا ولم يَبْعَثني مُتَعَنِّتًا](2).

وقوله: {مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ} . قال ابن جرير: ({مُسْلِمَاتٍ} يقول: خاضعات للَّه بالطاعة {مُؤْمِنَاتٍ} يعني مصدقات باللَّه ورسوله).

وقوله: {قَانِتَاتٍ} . قال ابن زيد: (مطيعات). وكذلك قال قتادة.

وقوله: {تَائِبَاتٍ} . أي: راجعات إلى ما يحبّه اللَّه منهن من طاعته عما يكرهه منهن.

وقوله: {عَابِدَاتٍ} . أي: متذللات للَّه بطاعته وطاعة رسول صلى الله عليه وسلم.

وقوله: {سَائِحَاتٍ} . قال ابن عباس: (صائمات). وقال زيد بن أسلم: (مهاجرات). والأول أرجح. وقد صح عند ابن جرير عن أبي هريرة موقوفًا: [{السَّائِحُونَ} هم الصائمون](3).

وكان بعض أهل العربية يرى أن الصائمِ إنما سمي سائحًا لأن السائح لا زاد معه، وإنما يأكل حيث يجد الطعام، فكأنه أُخِذ من ذلك. حكاه ابن جرير وأُثِرَ عن الفَرّاء والقُتَبي وغيرهما.

وقوله: {ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} . قال ابن كثير: (أي: مِنْهُن ثَيِّباتٍ، ومنهن أبكارًا، أي ليكون ذلك أشهى إلى النفوس، فإن التنوع يَبْسُط النفسَ).

وإنما سميت الثيب ثيبًا لأنها ثابت إلى بيت أبويها، وأما البِكْرُ فهي العذراء، سُمِّيت بِكْرًا لأنها على أوَّل حالتها التي خُلِقَت بها - حكاه القرطبي.

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (1479) - كتاب الطلاق، ح (30)، وح (31).

(2)

حديث حسن. انظر صحيح سنن الترمذي (2644)، وسلسلة الأحاديث الصحيحة (1516).

(3)

أخرجه الطبري (17302) - سورة التوبة، آية (112)، وهو صحيح موقوف.

ص: 114

6 -

8. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)}.

في هذه الآيات: أمْرُ اللَّه تعالى عباده المؤمنين الاجتهاد في طاعته هم وذريتهم للنجاة من عذابه الأليم، وتصوير مشهد الخزي يوم القيامة على الكافرين والمنافقين، ومشهد النجاة والسرور والفرح في دخول المؤمنين جنات النعيم.

فقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} . قال سفيان، عن منصور عن رجل، عن علي بن أبي طالب قال:(يقول: أدّبوهم، علِّموهم). - رواه ابن جرير.

وعن ابن عباس: ({قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا} يقول: اعملوا بطاعة اللَّه، واتقوا معاصي اللَّه، ومُروا أهليكم بالذكر يُنْجيكم اللَّه من النار). وقال مجاهد: (اتقوا اللَّه، وأوصوا أهليكم بتقوى اللَّه). وقال قتادة: (يقيهم أن يأمرهم بطاعة اللَّه، وينهاهم عن معصيته، وأن يقوم عليهم بأمر اللَّه يأمرهم به ويساعدهم عليه، فإذا رأيت للَّه معصية ردعتهم عنها، وزجرتهم عنها). وعن الضحاك: (حقٌّ على المسلم أن يُعَلِّم أهله من قرابتِه وإمائه وعبيده ما فرَض اللَّه عليهم، وما نهاهم اللَّه عنه).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا} [طه: 132].

2 -

وقال تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} [الشعراء: 214].

وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: [لما أنزلت هذه الآية: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ} دعا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قريشًا فاجتمعوا فعمَّ وخَصَّ، فقال: يا بني كعب بن لؤي

ص: 115

أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني مُرَّة بن كعب أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبدِ شمسٍ أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد مَناف أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار، يا بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار، يا فاطمة أنقذي نفسك من النار، فإني لا أملك لكم من اللَّه شيئًا، غير أن لكم رحِمًا سأبُلُّها ببلالها] (1).

وفي سنن أبي داود عن سبرة قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [مُروا الصَّبيَ بالصلاة إذا بلغ سَبْعَ سنين، وإذا بلغَ عَشْرَ سنين فاضربوه عليها](2).

وله شاهد عنده من حديث عبد اللَّه بن عمرو بلفظ: [مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرقوا بينهم في المضاجع](3).

قال ابن كثير: (قال الفقهاء: وهكذا في الصوم، ليكون ذلك تمرينًا له على العبادة لكي يبلغ وهو مستمر على العبادة والطاعة ومجانبة المَعْصية، وتَرْك المنكر، واللَّه الموفق).

وفي صحيح مسلم من حديث عائشة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أوْتَرَ يقول: [قومي فَأوتري يا عائشة](4).

وفي مسند أحمد وسنن أبي داود من حديث أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [رحم اللَّه رجلًا قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته، فإن أبت نضحَ في وجهها الماء. رحم اللَّه امرأة قامت من الليل فَصَلّت، وأيقظت زوجها، فإن أبى نضحت في وجهه الماء](5).

وقوله: {وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ} . قال ابن جرير: (يقول: حطبها الذي يوقد على هذه النار بنو آدم وحجارة الكبريت). وعن مجاهد: (هي حجارةٌ من كبريت، أنتنُ من الجيفة).

وقوله: {عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ} . قال القرطبي: (يعني الملائكة الزبانية غِلاظ القلوب لا يرحمون إذا استرحموا، خُلِقوا من الغضب، وَحُبِّبَ إليهم عذابُ الخلق

(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (204) - كتاب الإيمان. وانظر صحيح البخاري (4771).

(2)

حسن صحيح. أخرجه أبو داود (494) - كتاب الصلاة. باب متى يؤمر الغلام بالصلاة.

(3)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (495) - كتاب الصلاة. انظر صحيح أبي داود (466).

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم (744)، وأحمد (2/ 152)، (2/ 205) من حديث عائشة.

(5)

حديث صحيح. أخرجه أبو داود (1308)، وأحمد (2/ 250)، النسائي (3/ 205) وغيرهم.

ص: 116

كما حُبِّبَ لبني آدم أكل الطعام والشراب. {شِدَادٌ} أي: شداد الأبدان. وقيل: غِلاظ الأقوال شداد الأفعال. وقيل: غِلاظ في أخذهم أهل النار شداد عليهم). وقيل: {غِلَاظٌ شِدَادٌ} أي: طباعهم غليظة قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين باللَّه {شِدَادٌ} في تركيبهم ومنظرهم المزعج الرهيب.

وقوله: {لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} . أي: لا يخالفون اللَّه في أمره من زيادة أو نقصان، ولا يتأخرون عن فعل ما يأمرهم طرفة عين، بل يبادرون إلى الامتثال وتنفيذ الأمر بإتقان.

وقوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} .

أي: يقال للكفار يوم القيامة: إنه لا ينفعكم عذر اليوم فلا تعتذروا، إنما توفون جزاء أعمالكم التي كنتم تعملونها في الدنيا. قال ابن جرير:(فلا تطلبوا المعاذير منها). وقال القرطبي: ({لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ} فإن عذركم لا ينفع. وهذا النّهي لتحقيق اليأس).

وقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا} . إرشاد من اللَّه تعالى عباده المؤمنين للمبادرة إلى التوبة الصادقة قبل فوات الأوان.

يروي ابن جرير بسنده عن سماك، عن النعمان بن بشير، قال: سُئِلَ عمر عن التوبة النصوح، قال:(التوبة النصوح: أن يتوب الرجل من العمل السَّيِئ، ثم لا يعود إليه أبدًا). وقال ابن عباس: ({تَوْبَةً نَصُوحًا} أن لا يعود صاحبها لذلك الذنب الذي يتوب منه، ويقال: توبته أن لا يرجع إلى ذنب تركه). وقال قتادة: (هي الصادقة الناصحة). وقال ابن زيد: (التوبة النصوح الصادقة، يعلم أنها صدق ندامة على خطيئته، وحبّ الرجوع إلى طاعته، فهذا النصوح).

وعن الحسن: (التوبة النصوح: أن تُبْغِضَ الذنب كما أحببتَه، وتستغفِرَ منه إذا ذكرته).

قلت: وشروط التوبة النصوح كما أحب تصنيفها خمسة:

أولًا: أن يكف عن الآثام وينقلع عن المحرمات.

ثانيًا: أن يندم على ما فرط باجتراح السيئات.

ثالثًا: أن يعقد العزم ألا يعود إلى السقوط في هذه الآثام والزلات.

رابعًا: أن يؤدي الحقوق إلى أصحابها وكذلك الأمانات.

ص: 117

خامسًا: أن يترك الصحبة الفاسدة التي تحمله على الموبقات. وأن يهاجر من الأرض والقرية التي يعمل أهلها المنكرات، إلى القرى والبلاد التي يغلب على أهلها فعل الحسنات.

وأما ترتيب أدلتها من الكتاب والسنة:

1 -

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ} [الأعراف: 201].

2 -

أخرج أحمد وابن ماجة بسند حسن عن ابن معقل قال: [دخلت مع أبي على عبد اللَّه، فسمعته يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "النَّدمُ توبة". فقال له أبي: أنت سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "الندم توبة"؟ قال: نعم](1).

ورواه الطبراني من حديث أبي سعيد الأنصاري بلفظ: [الندم توبة، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له].

3 -

قال تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [آل عمران: 135].

4 -

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58].

وفي مسند أحمد بسند صحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[نفسُ المؤمن معلقة بدينه حتى يقضى عنه](2).

5 -

قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} [النساء: 97].

وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري -في قصة الرجل قتل تسعة وتسعين نفسًا ثم كمّل بالراهب مئة، فسأل عن أعلم أهل الأرض فدل على رجل عالم فنصحه فقال له-: [ومن يحول بينه وبين التوبة؟ انطلق إلى أرض كذا وكذا فإن بها أناسًا يعبدون

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (1/ 33)، وابن ماجة (4252). انظر صحيح ابن ماجة (3429). ورواه الطبراني بسند حسن من حديث أبي سعيد الأنصاري. انظر صحيح الجامع (6679).

(2)

حديث صحيح. رواه أحمد من حديث أبي هريرة. انظر تخريج: "مشكاة المصابيح"(2915).

ص: 118

اللَّه تعالى فاعبد اللَّه معهم ولا ترجع إلى أرضك فإنها أرض سوء] الحديث (1).

وقوله: {عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} قال القرطبي: ({عَسَى} من اللَّه واجبة). وقال النسفي: (هذا على ما جرت به عادة الملوك من الإجابة بعسى ولعل ووقوع ذلك منهم موقع القطع والبت).

وقوله: {يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ} . قال القاسمي: (أي لا يذلّهم. تعريض لأعدائهم بالخزي والصغار).

وقوله: {نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ} . قال ابن جرير: (يقول: يسعى نورهم أمامهم {وَبِأَيْمَانِهِمْ} يقول: وبأيمانهم كتابهم).

وقوله: {يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . قال مجاهد: (هذا يقوله المؤمنون حين يرون يوم القيامة نورَ المنافقين قد طفِئ).

أخرج الإمام أحمد بسند حسِن في الشواهد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [أنا أوّل من يُؤْذَنُ له بالسجود يومَ القيامة، وأنا أول من يرفع رأسه، فأنظرُ بين يديَّ، فأعرف أمتي من بين الأمم، ومن خلفي مِثْلُ ذلك، وعن يميني مِثْلُ ذلك، وعن شمالي مِثلُ ذلك. فقال رجل: كيف تعرِف أمتَك يا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال: هم غرٌّ مُحَجَّلُون، مِنْ أَثَرِ الوضوء، ليس لأحد كذلك غيرِهم، وأَعْرِفُهُم أنهم يؤتَون كُتُبَهُم بأيمانهم، وأعرفهم تسعى بين أيديهم ذُرِّيَتُهُم](2). ورواه محمد بن نصر المروزِيّ بنحوه وفي روايته: [غرٌّ مُحَجَّلون من أثر الوضوء، ولا يكون أحدٌ من الأمم كذلك غيرُهم، وأعرفهم أنهم يُؤْتَون كُتُبَهم بأيمانهم، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثَر السجود، وأعرِفُهم بِنُورهم يسعى بين أيديهم].

وأخرج الإمام أحمد بسند رجاله ثقات عن يحيى بن حسان، عن رجل من بني كنانة قال: صلّيت خلف النبي صلى الله عليه وسلم عام الفتح فسمعته يقول: [اللهم لا تخزني يومَ القيامة](3).

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6/ 373)، (6/ 374)، وأخرجه مسلم (2766).

(2)

رواه أحمد، وفي إسناده ابن لهيعة، وهو حديث حسن في المتابعات. انظر صحيح الترغيب (1/ 175) - كتاب الطهارة، الترغيب في الوضوء وإسباغه.

(3)

أخرجه أحمد في المسند (4/ 234)، ورجاله كلهم ثقات، وجهالة الصحابي لا تضرّ.

ص: 119

9 -

10. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)}.

في هذه الآيات: أمْرُ اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بمجاهدة الكفار والمنافقين أصحاب الجحيم، وضَرْبه تعالى المثل بامرأة نوح وامرأة لوط في خيانتهما منهاج النبوة لتكونا يوم القيامة في النار مع الداخلين.

فقوله: {يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} . قال قتادة: (أمر اللَّه نبيه عليه الصلاة والسلام أن يجاهد الكفار بالسيف، ويغلظ على المنافقين بالحدود). فجهاد الكفار بالسلاح والقتال، وجهاد المنافقين بالوعيد واللسان وبإقامة الحدود عليهم.

وقوله: {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} . قال قتادة: (يقول: واشدد عليهم في ذات اللَّه). وقوله: {وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . أي: ومكثهم جهنم ومستقرهم إلى النار، وبئس القرار والموضع الذي يصيرون إليه نار السعير.

وقوله: {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا} . قال ابن كثير: (أي: في مخالطتِهم المسلمين ومُعَاشَرتهم لهم، أنَّ ذلك لا يُجْدي عنهم شيئًا، ولا ينفعهم عند اللَّه، إن لم يكن الإيمان حاصلًا في قُلوبهم، ثم ذكر المثل فقال: {امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ}، أي: نبيَّين رسُولَين عندهما في صُحبتهما ليلًا ونهارًا، يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشدَّ العشرة والاختلاط).

وقوله: {فَخَانَتَاهُمَا} ، أي في الدين، لم يوافقاهما على الإيمان والرسالة. وليس المقصود الزنا أو الفاحشة، فإن نساء الأنبياء معصومات عن ذلك لحرمة الأنبياء. قال ابن عباس:(ما بغت امرأة نبي قط. إنما كانت خيانتهما في الدين). وقال عكرمة: (وكانت خيانتهما أنهما كانتا مشركتين). وقال الضحاك: (كانتا مخالفتين دين النبي صلى الله عليه وسلم كافرتين باللَّه).

يروي ابن جرير بإسناده عن سفيان عن موسى بن أبي عائشة عن سليمان بن قيس، عن ابن عباس: (قوله {فَخَانَتَاهُمَا} : قال: كانت امرأة نوح تقول للناس: إنه مجنون.

ص: 120

وكانت امرأة لوط تَدُلّ على الضيف). أو قال: (أما امرأة نوح فكانت تُخبر أنه مجنون، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تَدُلُّ قومها على أضيافِه).

وقال العوفي، عن ابن عباس قال:(كانت خيانتُهما أنهما كانتا على غير دينهما، فكانت امرأة نوح تَطّلِعُ على سِرِّ نوح، فإذا آمن معَ نوحٍ أحدٌ أخبرت الجبابرة من قوم نُوح به، وأما امرأة لوطٍ فكانت إذا أضافَ لوطٌ أحدًا أخبرت به أهلَ المدينة ممن يعمل السوء).

وقوله: {فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا} . أي فما نفع هاتين المرأتين إذ عصتا اللَّه أن أزواجهما أنبياء. قال قادة: (هاتان زوجتا نَبِيَّي اللَّه، لما عصتا ربهما لم يغن أزواجهما عنهما من اللَّه شيئًا). وقال: (يقول اللَّه: لم يغن صلاح هذين عن هاتين شيئًا، وامرأة فرعون لم يضرّها كفر فرعون).

وقوله: {وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ} . قال ابن جرير: (قال اللَّه لهما يوم القيامة: ادخلا أيتها المرأتان نار جهنم مع الداخلين فيها).

11 -

12. قوله تعالى: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)}.

في هذه الآيات: ذِكْرُ الصورة المقابلة من المثل، فالذين آمنوا لا يضرهم مخالطةُ الكافرين إن ضاق الأمر عليهم أو حوصروا أو كانوا محتاجين إليهم، فإن اللَّه تعالى قضى أن لا تزر وازرة وزر أخرى، وأن لكل نفس ما كسبت، وامرأة فرعون خير مثل في ذلك للمؤمنين، وكذلك مريم ابنة عمران التي أحصنت فرجها وصبرت على أمر ربها وكانت من القانتين.

فقوله: {وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ} . قال قتادة: (كان فرعون أغنى أهلِ الأرض وأكفره، فواللَّه ما ضَرَّ امرأته كُفْر زَوجها حين أطاعت رَبَّها لِتَعلموا أن اللَّه تعالى حَكَمٌ عدل، لا يؤاخذ أحدًا إلا بذنبه).

وقوله: {إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ} . قال العلماء: اختارت الجار قبل الدار. قال النسفي: (فكأنها أرادت الدرجة العالية لأنه تعالى منزه عن المكان، فعبرت

ص: 121

عنها بقولها عندك). قال ابن جرير: (فاستجاب اللَّه لها فبنى لها بيتًا في الجنة).

وقوله: {وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ} . قال القرطبي: (تعني بالعمل الكفر. وقيل: من عمله من عذابه وظلمه وشماتته. وقال ابن عباس: الجماع).

وقوله: {وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} . قال مقاتل: (القبط). وقال الكلبي: (أهل مصر). قال ابن جرير: (تقول: وأخلصني وأنقذني من عمل القوم الكافرين بك، ومن عذابهم). وهذه المرأة هي آسية بنت مزاحم، رضي الله عنها.

أخرج أبو يعلى بسند صحيح عن أبي هريرة مرفوعًا: [إنّ فرعون أوْتدَ لامرأتِه أربعة أوتادٍ في يديها ورِجْليها، فكان إذا تفرّقوا عنها ظلّلتها الملائكة، فقالت: {رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}، فكشف لها عن بيتها في الجنة](1).

وله شاهد عند الحاكم والطبري بسند على شرط الشيخين من حديث سلمان رضي الله عنه قال: [كانت امرأة فرعون تُعَذَّبُ بالشمس، فإذا انصرفوا عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها، وكانت ترى بيتها في الجنة].

وشاهد عند البيهقي في "شعب الإيمان" عن ثابت عن أبي رافع قال: [وتَدَ فرعون لامرأته أربعة أوتاد، ثم حمل على بطنها رحىً عظيمة حتى ماتت]-وهو مرسل صحيح-.

وقوله: {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا} . قال ابن كثير: (أي: حَفِظَتْه وصانته. الإحصان: هو العَفاف والحُرمة. {فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا} ، أي: بواسِطة المَلَك، وهو جبريلُ، فإن اللَّه بَعَثَهُ إليها فتَمَثَّلَ لها في صورة بَشَر سَوِيٍّ، وأمره اللَّه تعالى أن ينفُخ بفيه في جيب دِرْعِها، فنزلت النفخةُ فَوَلَجَت في فَرْجها، فكان منه الحمل بعيسى عليه السلام.

وقوله: {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} . أي: بقدره وشرعه. قال قتادة: (يقول: آمنت بعيسى، وهو كلمة اللَّه {وَكُتُبِهِ} يعني التوراة والإنجيل).

وقوله: {وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ} . أي: من المطيعين المخبتين. قال قتادة: (يقول: وكانت من القوم المطيعين).

(1) حديث صحيح. أخرجه أبو يعلى في "مسنده"(4/ 1521 - 1522) وإسناده على شرط مسلم، وانظر للشاهد الأول تفسير الطبري (28/ 110)، والحاكم (2/ 492)، وهو موقوف إسناده صحيح. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (2508). وللشاهد الثاني "شعب الإيمان"(2/ 244/ 1638).

ص: 122

وقد حفلت السنة الصحيحة بأحاديث كثيرة في فضل آسية بنت مزاحم -امرأة فرعون- وفضل مريم بنت عمران عليهما السلام.

الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن علي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [خير نسائِها مريمُ بنتُ عمران، وخير نسائها خديجةُ بنتُ خُوَيلد](1).

الحديث الثاني: أخرج أحمد في المسند بسند على شرط الصحيح عن ابن عباس قال: [خطّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في الأرض أربعة خُطوطٍ، وقال: أتدرون ما هذا؟ قالوا: اللَّه ورسوله أعلمُ. فقال رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم: أفضلُ نساءِ أهل الجنة خديجة بنتُ خُوَيلد، وفاطِمةُ بنتُ محمد، ومريم ابنةُ عِمران، وآسية ابنةُ مزاحمٍ امرأة فِرعون](2).

وله شاهد في المسند -أيضًا- من حديث أنس بلفظ: [خير نساء العالمين أربع: مريمُ بنتُ عمران، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد، وآسية امرأة فرعون].

الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم وأحمد عن أبي موسى قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [كَملَ من الرجال كثير، ولم يكمُلْ من النساء إلا آسية امرأةُ فرعون، ومريم بنتُ عمران -زاد ابن مردويه: (وخديجة بنت خويلد) - وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام](3).

تم تفسير سورة التحريم بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه صبيحة الجمعة 9 شوال 1426 هـ الموافق 11/ تشرين الثاني/ 2005 م.

* * *

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (3815) - كتاب مناقب الأنصار. ورواه مسلم برقم (2430) - كتاب فضائل الصحابة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (1/ 316) وإسناده على شرط الصحيح. وانظر للشاهد -بعده- صحيح الجامع (3323)، وسنده صحيح.

(3)

حديث صحيح. أخرجه البخاري (3411) - كتاب أحاديث الأنبياء، وكذلك (3769)، (5418). وأخرجه مسلم (2431) - كتاب فضائل الصحابة، ورواه أحمد، وغيرهم.

ص: 123