الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
76 - سورة الإنسان
وهي سورة مكية، وعدد آياتها (31).
قال البخاري في كتاب الجُمعة: حدثنا أبو نُعيم، حدثنا سفيان، عن سَعد بن إبراهيم، عن عبد الرحمن بن هُرمُزَ الأعرج، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال:[كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في الفجر يوم الجمعة: {الم (1) تَنزِيلُ} السجدة، و {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ}](1).
موضوع السورة
قصة الإنسان في الدارين
-
منهاج السورة
-
1 -
خَلْقُ اللَّه الإنسان من نطفة فجعله سميعًا بصيرًا، وهداهُ لاختيار أحد السبيلين ليكون إما شاكرًا وإما كفورًا.
2 -
نَعْتُ حال الكافرين في السلاسل والجحيم، ونَعْتُ حال المتقين في جنات النعيم.
3 -
ذِكْرُ ما في الجنة لأهلها من النعيم والفضل العميم، وهو تكرمة لهم من اللَّه العلي الكريم.
4 -
امتنان الرحمن عز وجل على نبيه الكريم، بهذا التنزيل العظيم، ودعوته للاستعانة بالصبر والصلاة على مكر المجرمين، الذين توعدهم اللَّه سوء العذاب في نار الجحيم.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (891)، ورواه مسلم (880) من حديث سفيان الثوري به.
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
3. قوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)}.
في هذه الآيات: خَلْقُ اللَّه تعالى الإنسان من نطفة فجعله سميعًا بصيرًا، وتوضيح السبيلين له ليختار لنفسه أن يكون شاكرًا أو كفورًا.
فقوله تعالى: {هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا} .
قال سيبويه: ({هَلْ} بمعنى قد). وقال الفرّاء: ("هل" تكون جَحْدًا، وتكونُ خَبَرًا، فهذا من الخبر). فهو كما تقول: هل أعطيتك؟ تُقَرِّره بأنك أعطيته. والجحد أن تقول: هل يقدر أحد على مثل هذا؟ . وقيل: (هي بمنزلة الاستفهام، والمعنى أتى). قلت: هَلْ -في لغة العرب- للاستفهام، وقد تُصرف مجازًا إلى معاني أخرى، والأنسب للسياق هنا التقرير. قال الشهاب:(أي الحمل على الإقرار بما دخلت عليه، والمقرر بهِ من ينكر البعث).
والمرادُ بالإنسان جنس بني آدم. قال ابن كثير: (يقول تعالى مخبرًا عن الإنسان أنه أَوْجَدَهُ بعد أن لم يكن شيئًا يُذكر، لحقارتهِ وضَعفه).
وقد علم اللَّه تعالى أن جواب القوم: نعم، قد مضى دهر طويل لا إنسان فيه. فيقال لهم: فالذي أوجدهم بعد أن لم يكونوا، كيف يمتنع عليه إحياؤهم بعد موتهم؟ حكاه القاسمي.
وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} .
بيان وتفصيل لبدء ذلكَ الإيجاد والكون بعد عدم. وقوله: {أَمْشَاجٍ} يعني أخلاط، واحدها مِشْج وَمَشِيج. ويقال: مشجْتُ هذا بهذا أي خلطته، فهو مَمْشُوج
ومشيج، أي مَخلوط وخليط. قال ابن عباس:(ماء المرأة وماء الرجل يمشجان). وقال عكرمة: (ماء الرجل وماء المرأة يختلطان).
وقال الربيع: (الأمشاج هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة).
وعن قتادة قال: (الأمشاج: اختلط الماء والدم، ثم كان علقة، ثم كان مضغة).
وقال أيضًا: ({إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ} أطوار الخلق، طورًا نطفة، وطورًا علقة، وطورًا مضغة، وطورًا عظامًا، ثم كسى اللَّه العظام لحمًا، ثم أنشأهُ خلقًا آخر، أنبت له الشعر).
والمقصود: خلق اللَّه تعالى الإنسان من اختلاط ماء الرجل بماء المرأة، ثم نقله بعد ذلكَ من طور إلى طور، وحال إلى حال، ولونٍ إلى لون.
وقوله: {نَبْتَلِيهِ} . هو سرّ وغاية الخلق. أي نختبره ونمتحنه، كما قال جل ثناؤه:{الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا} [الملك: 2].
وقوله: {فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} . أي: فجعلنا له سمعًا وبصرًا يساعدانه على طاعة اللَّه أو معصيته.
وقوله: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} . قال مجاهد: (أي بيّنا له السبيل إلى الشقاء والسعادة). وقال عكرمة: (بيّنا له طريق الخير وطريق الشّر).
وقال النسفي: (بيّنا له طريق الهدى بأدلة العقل والسمع).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} [البلد: 10].
2 -
وقال تعالى: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17].
3 -
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الشورى: 52].
فهذه الهداية المذكورة في قوله جل ثناؤه: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ} والآيات السابقة بعدها هداية الدلالة والإرشاد -هداية الرسل وإقامة حجة اللَّه على عباده- وهي المرتبة الثانية من مراتب الهداية كما وردت في الكتاب والسنة. فمراتب الهداية:
أ - الهداية العامة لجميع الخلق لمصالحهم.
ب - هداية الدلالة والإرشاد.
ج - هداية التوفيق والإلهام.
د - الهداية إلى الجنة يوم القيامة.
وقد فصلت هذا البحث في كتابي: "أصل الدين والإيمان، عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان"، فلله الحمد والمنة.
فهداية السبيل هنا هي بيان طريق النجاة والسعادة في الدارين، وقد قام بذلكَ الرسل صلوات اللَّه وسلامه عليهم على أكمل وجه.
ففي صحيح مسلم من حديث عبد اللَّه بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنه لم يكن نبيّ قبلي إلا كان حقًا عليهِ أن يدلَّ أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شرّ ما يعلمه لهم. . .] الحديث (1).
وقوله: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} . قال قتادة: (إما شاكرًا للنعم وإما كفورًا لها).
قال ابن جرير: (فيكون قوله: {إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا} حالًا من الهاء التي في هديناه، فيكون معنى الكلام إذا وجه ذلكَ إلى هذا التأويل: إنا هديناهُ السبيل، إما شقيًا وإما سعيدًا). وقيل التأويل: إنا بينا لهُ طريق الجنة، وعرفناه سبيله، إن شكر، أو كفر.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي مالك الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [والقرآنُ حُجَّةٌ لك أو عليك، كُلُّ الناس يغدو، فبايعٌ نفسَهُ، فمعتِقُها، أو موبِقها](2).
قال القرطبي: (وجمع بين الشاكر والكفور، ولم يجمع بين الشكور والكفور مع اجتماعهما في معنى المبالغة، نفيًا للمبالغة في الشكر، وإثباتًا لها في الكفر، لأن شكر اللَّه تعالى لا يُؤدَّى، فانتفت عنه المبالغة، ولم تنتفِ عن الكفر المبالغة).
والمقصود: لما كان الشكر قلّ من يتصف به قال: {شَاكِرًا} ، ولما كان الكفر كثيرًا
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (6/ 18)، كتاب الإمارة. وانظر مختصر صحيح مسلم (1199)، ورواه أحمد (2/ 161)، (2/ 191).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (223)، كتاب الطهارة، باب فضل الوضوء، في ختام حديث.
من يتصف به ويكثر وقوعه من الإنسان بخلاف الشكر قال {كَفُورًا} بصيغة المبالغة، واللَّه تعالى أعلم.
4 -
12. قوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)}.
في هذه الآيات: وَصْفُ حال الكافرين في السلاسل والجحيم، ونَعْتُ حال المتقين في الملذات والسرور والنعيم، فإنهم كانوا قبل ذلك محسنين، يعظمون أوامر ربهم ويخشون يوم الحشر العظيم.
فقوله تعالى: {إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا} .
السلاسل: القيود في جهنم طول كل سلسلة سبعون ذراعًا كما مضى في "الحاقة". والأغلالُ جمع غُلّ. قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: إنا أعتدنا لمن كفر نعمتنا وخالف أمرنا سلاسل يُسْتوثق بها منهم شدًّا في الجحيم {وَأَغْلَالًا} يقول: وتشدّ بالأغلال فيها أيديهم إلى أعناقهم. وقوله: {وَسَعِيرًا} يقول: ونار تُسعر عليهم فتتوقد).
وعن جبير بن نُفير، عن أبي الدرداء كان يقول:(ارفعوا هذه الأيدي إلى اللَّه جل ثناؤه قبل أن تُغَلَّ بالأغلال). وقال الحسن: (إن الأغلال لم تجعل في أعناقِ أهل النار؛ لأنهم أعجزوا الربّ سبحانه ولكن إذلالًا).
وفي جامع الترمذي ومسند أحمد بسند حسن عن عبد اللَّه بن عمرو، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يُحشر المتكبرون يوم القيامةِ أمثالَ الذر في صور الرجال، يغشاهم الذل من كل
مكان، يُساقون إلى سجن في جهنم يسمى بولس، تعلوهم نار الأنيار، يُسقونَ من عُصَارةِ أهل النار، طينة الخبال] (1).
وقوله تعالى: {إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا} .
الأبرار: أهل الصدق والوفاء بامتثال ما أمر اللَّه تعالى. واحدهم بَرُّ. والكأس: كل إناء كان فيه شراب. والكافور: مزاج يجمع بين التبريد والرائحة الطيبة.
وقال ابن عباس: ({يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ} يريد الخمر). فنفس الخمر تسمى كأسًا، وقيل: الكأس الزجاجة إذا كان فيها خمر. قال قتادة: (تمزج لهم بالكافور وتُختم بالمسك). وقال الحسن: (بَرْدُ الكافورِ في طيب الزَّنجبيل).
وقوله: {عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ} . فيه أكثر من تأويل حسب إعراب {عَيْنًا} :
1 -
قيل: يشربون عينًا. قال الزجاج: (المعنى من عين).
2 -
وقيل: {عَيْنًا} بدل من كافور. قال الفراء: (إن الكافور اسم لعين ماء في الجنة).
3 -
وقيل: {عَيْنًا} بدل من كأس على الموضع.
4 -
وقيل: {عَيْنًا} حال من المضمر في مزاجها.
5 -
وقيل: نصب على المدح. قلت: وكل ما سبق يقتضيه الإعجاز لهذا القرآن العظيم. والمقصود: أن الأبرار يشربون في الجنةِ من عين نضاخة بشراب ممزوج بالكافور، وقد جمع بين التبريد والرائحةِ الطيبة واللذاذة الرائعة.
وقوله: {يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا} . قال مجاهد: (يقودونها حيث شاؤوا). وقال قتادة: (مستقيد ماؤها لهمِ يفجرونها حيثُ شاؤوا). وقال الثوري: (يُصرِّفونها حيث شاؤوا). قال النسفي: ({يُفَجِّرُونَهَا} يجرونها حيث شاؤوا من منازلهم {تَفْجِيرًا} سهلًا لا يمتنع عليهم).
وقوله: {يُوفُونَ بِالنَّذْرِ} . قال قتادة: (بطاعة اللَّه، وبالصلاة، وبالحج، وبالعمرة).
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: إن الأبرار الذين يشربون من كأس كان مزاجها كافورًا، برّوا بوفائهم للَّه بالنذور التي كانوا ينذرونها في طاعة اللَّه).
(1) حديث حسن. أخرجه أحمد والترمذي. انظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (2025)، وصحيح الجامع الصغير (7896).
وفي صحيح البخاري عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطيعَ اللَّهَ فليُطِعْهُ، ومَنْ نذرَ أَنْ يعصي اللَّه فلا يعصه](1).
وفي سنن النسائي بسند صحيح عن عمران بن حُصين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [النَّذْرُ نَذْران، فما كان من نَذْرٍ في طاعة اللَّه فذلك للَّه، وفيه الوفاء. وما كان من نذر في معصية اللَّه، فذلك للشيطان، ولا وفاء فيه. ويكفّره ما يكفِّرُ اليمين](2).
وقوله: {وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} . أي: ممتدًا طويلًا فاشيًا. قال ابن عباس: ({مُسْتَطِيرًا}: فاشيًا).
وقال قتادة: (استطار -واللَّه- شرُّ ذلك اليوم حتى ملأ السماوات والأرض).
والمعنى كما قال ابن كثير: (ويتركون المحرَّمات التي نهاهم عنها خِيْفةً من سوء الحساب يوم المعاد، وهو اليوم الذي شرّه مستطيرٌ، أي: منتشرٌ عام على الناس إلا من رحم اللَّه).
وقوله: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} . الضمير في {حُبِّهِ} يعود على الطعام. قال مجاهد: ({وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ} قال: وهم يشتهونه). وقال سليمان بن قيس: (على حبهم للطعام).
والمقصود: وكذلكَ من صفات هؤلاء الأبرار التي برّوا بها أنهم يطعمون المحتاجين الطعام في حال مَحبّتهم وشهوتهم له.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ} [البقرة: 177].
2 -
وقال تعالى: {لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران: 92].
وفي صحيح مسلم عن أبي زُرْعَةَ، عن أبي هُريرة قال: [أتى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رَجُلٌ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6696)، (6700)، وأبو داود (3289)، والترمذي (1526)، والنسائي (1717)، ومالك في الموطأ (2/ 476)، وأحمد (6/ 36).
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن النسائي (3599)، وتخريج "الإرواء"(8/ 217).
فقال: يا رسول اللَّه! أيُّ الصَّدقة أعظَمُ؟ فقال: أن تَصَدَّقَ وأنت صحيحٌ شحيحٌ، تخشى الفقر وتأمل الغنى] الحديث (1).
والمراد: أن خير الصدقة ما كان حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتكَ إليه، وهو مفهوم قوله صلى الله عليه وسلم:(وأنتَ صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى).
وبعض المفسرين أعاد الضمير في قوله تعالى: {عَلَى حُبِّهِ} على اللَّه عز وجل، أي على حبّ اللَّه، والأول أرجح وأنسب للمعنى ولنظيره من الآيات والأحاديث كما سبق بيانه، واللَّهُ تعالى أعلم.
وقوله: {مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا} . المسكين هو الفقير ذو الحاجة لا يجد ما يكفيه. واليتيم هو مَنْ فقد أبويه أو أحدهما في حال صغره. والأسير المحبوس. قال مجاهد: (الأسير: المسجون). أو قال: (المحبوس).
وقال قتادة: (لقد أمَرَ اللَّه بالأُسراء أن يحسن إليهم، وإن أسراهم يومئذ لأهل الشرك)، وقال:(كان أسراهم يومئذ المشرك، وأخوك المسلم أحق أن تطعمه).
وقوله تعالى: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا} . قال مجاهد: (أما إنهم ما تكلموا به، ولكن علمه اللَّه من قلوبهم، فأثنى بهِ عليهم ليرغب في ذلكَ راغب).
والمقصود: إنما يطعم هؤلاء الأبرار الفقراء واليتامى والأسارى لوجه اللَّه، فهم لا يتوقعون المكافأة، ولا يريدون ثناء الناس عليهم بذلكَ، علمه اللَّه من قلوبهم فأثنى عليهم بذلك.
وقال تعالى: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا} . قال ابن عباس: ({عَبُوسًا} ضَيِّقًا، {قَمْطَرِيرًا}: طويلًا). وقال مجاهد: ({عَبُوسًا}، العابس الشفتين: {قَمْطَرِيرًا}، قال: تقبيض الوجه بالبُسُور). وقال قتادة: (تعبس فيه الوجوه من الهول، {قَمْطَرِيرًا}: تقليصُ الجبين وما بين العينين، من الهول). وقال ابن زيد: (العَبوس: الشرّ، والقمطرير: الشديد).
قلت: والعرب تقول اقمطَرّ اليوم فهو مُقْمَطِرّ إذا كان صعبًا شديدًا. ويوم عبوس أي تعبس فيهِ الوجوه من هوله وشدته. فيكون المعنى: إنا نخاف يومًا ذا عبوس -لكثرة
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (1032)، كتاب الزكاة. . باب بيان أن أفضل الصدقة صدقة الصحيح الشحيح.
عبوس الكفار فيه-، {قَمْطَرِيرًا} صعبًا شديد الأهوال.
وقوله تعالى: {فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} .
أي: فآمنهم اللَّه بلطفه ورحمته من شدائد ذلك اليوم، ومنحهم حسنًا وبهاءً في وجوههم، وسرورًا في قلوبهم. قال الحسن:({وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} قال: نضرة في الوجوه، وسرورًا في القلوب). فإن القلب إذا سُرَّ استنار الوجه.
وفي النضرة ثلاثة أوجه: قال الضحاك: (البياض والنقاء). وقال سعيد بن جبير: (الحسن والبهاء). وقال ابن زيد: (أثر النعمة. قال: {وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا} قال: نعمة وسرورًا).
وفي التنزيل نحو ذلك: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ} (عبس: 38 - 39).
وفي الصحيحين والمسند من حديث كعب بن مالك -حين تاب اللَّه عليه بعد التخلف عن تبوك- قال: [فلما سَلَّمتُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: وهو يَبْرُقُ وجهه من السرور: أبشر بخير يوم مَرَّ عليك منذُ وَلَدَتْكَ أُمُّكَ. . قال: وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إذا سُرَّ استنار وجهُه كأنه قطعة قمر، حتى يُعْرَفَ ذلكَ منه](1).
وقوله تعالى: {وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا} . قال قتادة: (يقول: وجزاهم بما صبروا على طاعة اللَّه، وصبروا عن معصيته ومحارمه، جنة وحريرًا).
والمقصود: أورثهم سبحانهُ بصبرهم على إقامة الدين الحق خير منزل وأرغد عيش وأحسن لباس.
13 -
22. قوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4418)، ومسلم (2769)، والترمذي (3102)، وأحمد (38716)، والنسائي في "التفسير"(252)، وابن حبان (3370)، وهو جزء من حديث طويل.
شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)}.
في هذه الآيات: ذِكْرُ ما فيه أهل الجنة من الفضل العميم، وروائع النعيم المقيم، وما ذاكَ إلا تكرمةً لهم من اللَّه العلي الكريم.
فقوله تعالى: {مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا} .
الأرائك: جمع أريكة. قال ابن عباس: (يعني الحِجال). وقال قتادة: (كنا نُحَدَّثُ أنها الحجالُ في الأسرّة). ونصب {مُتَّكِئِينَ} على الحال. والزمهرير: البرد الشديد. قال مُرَّة الهَمداني: (الزمهرير: البرد القاطع).
والمقصود: جزاهم ربهم جنة متكئين فيها على الأسرة التي عليها الكلل، ولا يرون حرَّ الشمس ولا برد الزمهرير، بل أعذب المناخ وأروع المجلس.
وقوله: {وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا} . قال ابن جرير: (وقَرُبت منهم ظلالُ أشجارها).
وقوله: {وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا} . قال قتادة: (لا يردُّ أيديهم عنها بُعد ولا شوك).
وقال مجاهد: (إذا قام ارتفعت بقدره، وإن قعد تدلَّت حتى ينالها، وإن اضطجع تدلَّت حتى ينالها، فذلكَ تذليلها).
والمقصود: ذُلِّل لهم اجتناءُ ثمر شجرها، فقد دنت منهم أغصانها، كما قال جل ثناؤه:{مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ} [الرحمن: 54]، وكما قال جلت عظمته:{قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} [الحاقة: 23]. قال ابن زيد: (الدانية: التي قد دنت عليهم ثمارها). وقال ابن كثير: (أي متى تعاطاه دنا القِطفُ إليهِ وتَدلَّى من أعلى غُصنِه، كأنهُ سامعٌ طائع).
وقوله: {وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ} . أي: وتدور عليهم الخدم إذا أرادوا الشرب بآنيةٍ من فضة وكؤوس الفضة. والأكواب: جمع كوب. وهو كوز لا أذن له، أو إبريق لا عروة له.
وقوله: {كَانَتْ قَوَارِيرَا} . قال النسفي: (كان تامة، أي كونت فكانت قوارير بتكوين اللَّه، نصب على الحال). وقيل: {قَوَارِيرَا} في محل نصب خبر كان. وقال ابن جرير: (يقول: كانت هذه الأواني وأكواب قوارير، فحوّلها اللَّه فضة. وقيل: إنما قيل: ويطاف عليهم بآنية من فضة، ليدلّ بذلك على أن أرض الجنة فضة، لأن كلّ آنية تُتَّخَذُ، فإنما تُتخذ من تربة الأرض التي فيها، فدلَّ جلّ ثناؤهُ بوصفة الآنية متى يطاف
بها على أهل الجنة أنها من فضة، ليعلم عباده أن تربة أرض الجنة فضة).
وقوله: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} . قال الحسن: (صفاء القوارير في بياض الفضة). وقال مجاهد: (فيها رقة القوارير في صفاء الفضة). ونصب {قَوَارِيرَا} هنا على البدلية أو "تمييزًا" لتبيان اللَّه له بقوله: {قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ} . والمقصود: هذه القوارير الموصوفة تجمع بين صفاء الزجاج وبياض الفضة، والقوارير لا تكونُ عادة إلا من زجاج، فجعلها اللَّهُ من فضة شفافة يُرى ما في باطنها من ظاهرها مما لا نظير لهُ في الدنيا.
وقوله: {قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا} . أي مصنوعة في حجومٍ على قدر ريِّ طالبيها من أهل الجَنَّة، وهو أبلغ في الاعتناءِ والتشريف والتكريم وحسن الضيافة. قال الحسن:(قُدِّرت لرّي القوم). وقال سعيد: (قدر ريِّهم). وقال مجاهد: (لا تنقص ولا تفيض).
وقال ابن جرير: (قدّرها لهم السُّقاة يطوفون بها عليهم).
وقوله تعالى: {وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا} . قال مجاهد: (يأثُرُ لهم ما كانوا يشربون في الدنيا فيحبِّبُه إليهم). وقال قتادة: (تمزج بالزنجبيل).
والمقصود: يسقون -أي الأبرار- في الجنة {كَأْسًا} أي: خمرًا مزجت بالزنجبيل. قال القاسمي: (أي ما يشبهه في الطعم. وكانت العرب يستلذون الشراب الممزوج به). وقال ابن كثير: (فتارة يُمزَجُ لهم الشرابُ بالكافور وهو باردٌ، وتارةً بالزنجبيل وهو حار، ليعتدل الأمرُ، وهؤلاء يُمزَجُ لهم من هذا تارة ومن هذا تارةً. وأما المقرَّبون فإنهم يشربونَ من كلِّ منهما صِرْفًا، كما قال قتادة وغير واحد).
وقوله تعالى: {عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا} . السلسبيل في لغة العرب: اسم لماء في غاية السلاسة، حديد الجرية، يسوغ في الحلوق. قال عكرمة:(اسم عين في الجنة). وقال مجاهد: (سميت بذلك لسلاسة سيلها وجدة جريها).
وقوله: {عَيْنًا} بدل من {زَنْجَبِيلًا} ، فسميت العين زنجبيلا لطعم الزنجبيل فيها. والعرب تستلذه وتستطيبه، وقد جمع بين سلاسة الانحدار وسهولة المساغ والمذاق الطيب.
وقوله: {وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ} . أي: ويطوف على أهل الجنةِ غلمانٌ ينشئهم اللَّه لخدمةِ المؤمنين، أو ولدان الكفرة يجعلهم اللَّه تعالى قائمين على خدمة أصحاب النعيم، وهم {مُخَلَّدُونَ} أي: على حالة واحدة وسن واحدة لا يتغيرون عنها. وقال قتادة: ({مُخَلَّدُونَ} أي لا يموتون). والمعنى الأول أرجح.
قال القرطبي: ({مُخَلَّدُونَ} أي باقون على ما هم عليهِ من الشباب والغضاضةِ والحُسن، لا يَهْرَمونَ ولا يتغيرون، ويكونون على سنّ واحدة على مر الأزمنة. وقيل: مخلّدون لا يموتون. وقيل: مُسوَّرون مَقَرَّطون، أي مُحَلَّونَ والتخليد التحلية).
أخرج أبو نعيم في "الحلية"، والطبراني في "الأوسط"، بسند حسن في الشواهد عن أنس بن مالك قال:[سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن ذراري المشركين لم يكن لهم ذنوب يعاقبون بها فيدخلون النار، ولم تكن لهم حسنة يجازون بها فيكونون من ملوك الجنة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: هم خدم أهل الجنة](1).
وله شاهد عند ابن مندة في "المعرفة" عن سنان بن سعد عن أبي مالك قال: سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين؟ قال: [أطفال المشركين هم خَدَمُ أهل الجنة](2).
وقوله: {إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا} . أي: وإذا نظرت إليهم في حسنهم وكثرتهم وصفاء ألوانهم وسرعة انتشارهم في قضاء حوائج السادة ظننتهم لؤلؤًا مفرقًا منثورًا. وأما الحور العين فشبَّههن باللؤلؤ المكنون المخزون لأنهن لا يُمتهنَّ بالخدمة.
وقوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا} .
{ثَمَّ} ظرف مكان. والمقصود: وإذا رأيت هناك في الجنة -يا محمد- ورميت بطرفك في أرجائها رأيت مملكة للَّه عظيمة وسلطانًا باهرًا وكرامة لهؤلاء الأبرار في الكسوة والطعام والشراب وألوان الملذات وروعة الخدمة.
وفي صحيح مسلم ومسند أحمد من حديث أبي سعيد مرفوعًا: [إن أدنى أهل الجنة منزلًا رجل صرفَ اللَّه وجهه عن النار قِبَل الجنة. . . فيقول: أي رب أدخلني الجنة، فيدخلُ الجنة، فإذا دخلَ الجنة قال: هذا لي؟ فيقول اللَّه لهُ: تمنَّ، فيتمنى، ويذكره اللَّه عز وجل: سَلْ مِنْ كذا وكذا، حتى إذا انقطعت به الأماني، قال اللَّه: هو لك وعشرةُ أمثالِه، ثم يدخله اللَّهُ الجنة، فيدخلُ عليه زوجتاهُ من الحور العين، فيقولان: الحمدُ
(1) صحيح لغيره. أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(6/ 308) من طريق الطبراني. وأخرج الجملة الأخيرة منه أبو يعلى في "مسنده"(1011 - 1012)، ويشهد له أيضًا ما أخرجه البزار في مسنده (232). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (1468).
(2)
رواه ابن مندة في "المعرفة"(2/ 261/ 1)، ويشهد له ما قبله. انظر صحيح الجامع الصغير (1035)، والسلسلة الصحيحة (1468)، والحديث صحيح في الشواهد.
للَّه الذي أحياكَ لنا، وأحيانا لكَ. فيقول: ما أعطيَ أحدٌ مثل ما أعطيتُ] الحديث (1).
وقوله: {عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ} .
السندس: ما رقّ من الديباج، والإستبرق: ما غلظ منه. قال الزجاج: (هما نوعان من الحرير). وقوله: {عَالِيَهُمْ} يفيد أن ذلكَ اللباس ظاهر بارز للزينة والجمال.
فالرفيع منه كالقمصان مما يلي الأبدان، والنوع الأغلظ على الظاهر وله البريق واللمعان. و {خُضْرٌ} نعت للثياب.
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[مَن يدخل الجنة ينعم ولا يبأس، ولا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، في الجنة ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر](2).
وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال: [أهدى أكيدر (3) دومة إلى النبي صلى الله عليه وسلم جبة من سندس، فتعجب الناس من حسنها. فقال: "لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا"](4).
وفيهما من حديث البراء قال: [أهدي لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ثوب حرير فجعلوا يعجبون من لينه، فقال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: تعجبون من هذا؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنة أحسن من هذا](5). وفي رواية: (خير منها وألين).
وقوله: {وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ} . أي: وحلَّاهم ربهم أساور -جمع أسورة- من فضة. والمقصود بذلك: حلية الأبرار. وأما المقرّبون فتميزوا عنهم كما قال جل ذكره: {يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ} [الحج: 23].
وقوله: {وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} . قال أبو قلابة وإبراهيم النخعي: (يؤتون بالطعام، فإذا كان آخره أُتوا بالشراب الطهور، فيشربون، فتضمر بطونهم من ذلك ويفيض عرق من أبدانهم مثل ريح المسك). قال ابن جرير: ({وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا} . يقول تعالى ذكره: وسقى هؤلاء الأبرار ربُّهم شرابًا طهورًا، ومن طهره أنه
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1/ 120)، (1/ 135)، وأخرجه أحمد (3/ 27).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2836)، كتاب الجنة ونعيمها. وانظر كذلك (2824).
(3)
أكيدر دومة: أي أميرها.
(4)
حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (2615)، (3248)، وصحيح مسلم (2469).
(5)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3802)، (5836)، وأخرجه مسلم (2468) عن البراء.
لا يصير بولًا نَجِسًا، ولكنه يصير رشحًا من أبدانهم كرشح المسك).
وقال النسفي: ({شَرَابًا طَهُورًا} ليس برجس كخمر الدنيا لأن كونها رجسًا بالشرع لا بالعقل ولا تكليف ثمّ، أو لأنه لم يعصر فتمسه الأيدي الوضرة وتدوسه الأقدام الدنسة).
وقوله تعالى: {إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا} . قال قتادة: (لقد شكر اللَّه سعيًا قليلًا. قال: غفر لهم الذنب وشكر لهم الحُسْنَى). وقال مجاهد: ({مَشْكُورًا} أي مقبولَا). قال القرطبي: (والمعنى متقارب، فإنه سبحانهُ إذا قبل العمل شكره، فإذا شكره أثاب عليه بالجزيل، إذ هو سبحانه ذو الفضل العظيم).
والمقصود: يقال لأهل الجنة تكريمًا لهم وإحسانًا إليهم: إن هذا النعيم الذي وردتموه إنما كانَ جزاء لأعمالكم، وكان سعيكم محمودًا ومقبولًا ومرضيًا.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} [الحاقة: 24].
2 -
وقال تعالى: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الأعراف: 43].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ينادي منادٍ: إن لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدًا، وإن لكم أن تَحْيَوا فلا تموتوا أبدًا. وإن لكم أن تَشِبُّوا فلا تهرموا أبدًا، وإن لكم أن تَنْعَموا فلا تَبأسوا أبدًا، فذلكَ قوله عز وجل: {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}](1).
23 -
31. قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلَا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلَا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلَا طَوِيلَا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلَا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلَا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلَا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30)
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2837)، كتاب الجنة ونعيمها. باب في دوام نعيم أهل الجنة.
يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)}.
في هذه الآيات: امتنانُ الرحمن عز وجل على نبيهِ الكريم، بما نزل عليهِ من هذا التنزيل العظيم، ودعوته للاستعانة بالصبر والصلاة على مكر المجرمين، الذين توعدهم اللَّه سوء العذاب يوم الدين.
فقوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} . قال ابن عباس: (أنزل القرآن متفرّقًا: آية بعد آية، ولم ينزل جملة واحدة، فلذلكَ قال: {نَزَّلْنَا}).
قال النسفي: ({إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا} تكرير الضمير بعد إيقاعه اسمًا لإنّ تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص اللَّه بالتنزيل ليستقر في نفس النبي صلى الله عليه وسلم أنه إذا كان هو المنزل لم يكن تنزيلهُ مفرقًا إلا حكمة وصوابًا ومن الحكمةِ الأمر بالمصابرة).
وقوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} . قال ابن عباس: (اصبر على أذى المشركين، هكذا قضيت).
قال ابن كثير: (أي: كما أكرمتُكَ بما أنزلتُ عليكَ فاصبر على قضائه وقدره، واعلم أنه سَيُدَبِّرُكَ بِحُسْنِ تدبيره).
وقوله: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا} . الآثم الفاجر في أفعاله، والكفور: الكافر بقلبه. قال ابن جرير: (يقول: ولا تطع في معصية اللَّه من مشركي قومكَ آثمًا يريدُ بركوبه معاصيه، أو كفورًا: يعني جحودًا لنعمه عنده، وآلائه قبله، فهو يكفر به، ويعبد غيره).
وقوله: {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} . أي: واذكر -يا محمد- ربك فادعهُ بكرة في صلاة الصبح، وعشيًا في صلاة الظهر والعصر. قال ابن زيد:(بكرة: صلاة الصبح. وأصيلًا: صلاة الظهر الأصيل). وقيل: هو الذكر المطلق سواء كان في الصلاة أو في غيرها.
وقوله تعالى: {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} . قال ابن عباس: (يعني الصلاة والتسبيح). قال القرطبي: ({وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ} يعني صلاة المغرب والعشاء الآخرة. {وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا} يعني التطوع في الليل، قاله ابن حبيب).
وقوله: {إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} . توبيخ وتقريع لكفار مكة الذين آثروا العاجلة وهي الدنيا الفانية على الآخرة الباقية، فهم يحبون البقاء فيها وتعجبهم زينتها.
وقوله: {وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا} . أي: ويدعونَ بين أيديهم يومًا عسيرًا شديدًا هم قادمون عليه، قد أثقلته المصائب والأهوال.
وقوله: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ} . قال ابن عباس: (يقول: شددنا خلقهم). والمقصود: خلقناهم ابتداء، وشددنا أوصالهم بعضًا إلى بعض بالعروق والعصب.
وقوله: {وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا} . أي: لو شئنا لأهلكناهم وجئنا بأطوع للَّه منهم.
وقوله: {إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ} . قال قتادة: (إن هذه السورة تذكرة). أي: لمن تذكر واتعظ واعتبر.
وقوله: {فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا} . اي: فمن شاء أيها الناس اتخذ طاعة اللَّه واتباع رسوله سبيلًا له، فإن في ذلك النجاة كل النجاة، والسعادة في الدارين.
وقوله: {وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} . أي: وما اتخاذكم السبيل إلى ربكم أيها الناس إلا بمشيئته جلَّت عظمته، فإنه لا يُطاع سبحانه إلا بإذنه، كما لا يعصى إلا بإذنه، فمشيئتهُ قاهرة لكل مشيئةٍ، وهو الحكيم في أقواله وأفعاله وقدره وشرعه، العليم بمن يستحق الهداية والنجاة، ولذلكَ ختم الآية بقوله:{إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا} .
أخرج الإمام أحمد في المسند، وابن أبي عاصم في "السنة"، بإسناد صحيح على شرط الشيخين عن أنس بن مالك قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [لا تعجبوا بعمل أحد حتى تنظروا بما يختم له، فإن العامل يعمل زمانًا من دهره، أو برهة من دهره بعمل صالح لو مات عليه دخل الجنة، ثم يتحول فيعملُ عملًا سيئًا. وإن العبد ليعملُ زمانًا من دهره بعمل سَيِّئٍ لو ماتَ عليهِ دخل النار، ثم يتحول فيعملُ عملًا صالحًا. وإذا أرادَ اللَّهُ بعبدٍ خيرًا استعملهُ قبل موتهِ فوفقه لعمل صالحٍ، ثم يقبضه عليه](1).
وقوله: {يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ} . قال أبو السعود: (بيان لإحكامِ مشيئتهِ تعالى المترتبة على علمه وحكمته).
وقوله: {وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا} . أي: وأعدَّ اللَّهُ للظالمينَ الذين صرفوا مشيئتهم
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (3/ 120، 123)، (3/ 230، 257)، وأخرجه ابن أبي عاصم في "السنة"(347، 353)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1334).