الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
بقراءتك هذه السورة، إنَّها لآخِرُ ما سمِعْتُ من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يقرأُ بها في المغرب] (1).
الحديث الرابع: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عُبيد اللَّه، عن ابن عباس، عن أمِّهِ:[أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالمرسلات عُرفًا](2).
موضوع السورة
الإقسام بالملائكة المرسلات على نيل المؤمنين أرفع الدرجات واستقرار المشركين في النار أسفل الدركات
-
منهاج السورة
-
1 -
قسم اللَّه تعالى بالملائكة الكرام، يرسلها بالوحي إلى أنبيائه خير الأنام.
2 -
ذكر أهوال القيامة للوقوف للحساب، ووزن الأعمال والفصل بالثواب أو العقاب.
3 -
إهلاك اللَّه الكافرين، وخلقه تعالى الإنسان من ماء مهين، وجعله الأرض كفاتًا والجبال أوتادًا والماءَ فراتًا رحمة للعالمين، فويل يومئذ للمكذبين.
4 -
توجيه الكفار يوم القيامة إلى نار العذاب، فقد استحقوا بجرائمهم أشد العقاب.
5 -
وَصْفُ حال المتقين يوم الدين في جنات النعيم، وتوعّد المجرمين المكذبين نار الجحيم، جزاء بما كانوا يعملون.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (763)، كتاب الأذان. باب القراءة في المغرب. وأخرجه كذلك برقم (4429)، وأخرجه مسلم (462/ 173)، ورواه أصحاب السنن.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (6/ 338)، وإسناده على شرط البخاري ومسلم.
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
15. قوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)}.
في هذه الآيات: يقسم اللَّه تعالى بالملائكة يرسلها بالوحي إلى أنبيائه. تعصف لسرعة طيرانها وتنشر أجنحتها آتية بما يفرق بين الحق والباطل، والحلال والحرام، حتى توصل الوحي إلى الأنبياء، إعذارًا من اللَّه إلى خلقه، وإنذارًا من عذابه، وعذرًا للمحقين ونذرًا للمبطلين. فإذا النجوم محي نورها وذهب ضوؤها، وإذا السماء فتحت وشقت، ونسفت الجبال فقلعت من مكانها وطارت في الجو هباءً فاستوى مكانها بالأرض، وإذا جعل للرسل وقت للفصل والقضاء بينهم وبين الأمم، إنه يوم عظيم يعجب العبادُ منه لشدته ومزيد أهواله ضُرِبَ الأجل للرسل لجمعهم، يحضرون فيه للشهادة على أممهم. إنه يوم الفصل الذي يفصل فيه بين الناس بأعمالهم فيفرَّقون إلى الجنة والنار، وما أعلمك بيوم الفصل؟ ! إنه أمر هائل لا يقادر قدره، ويل يومئذ للمكذبين من عذاب اللَّه الذي أُعدَّ لهم.
فقوله تعالى: {وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا} . إقسام من اللَّه بالملائكة ترسل بالمعروف.
روى مسروق عن عبد اللَّه قال: (هي الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر اللَّه تعالى ونهيه. والخبر والوحي). وهو قول أبي هريرة ومقاتل وأبي صالح وغيرهم. وعن ابن عباس وابن مسعود: (إنها الرياح) -أرسلت متتابعة- {عُرْفًا} : أي يتبع بعضها بعضًا كعرف الفرس.
والخلاف قائم بين المفسرين من الصحابة والتابعين وغيرهم في توجيه الآيات إلى الرياح أو الملائكة. قيل: المرسلات والعاصفات والناشرات هي الرياح. والفارقات
والملقيات هي الملائكة، ومنهم من قال إنها جميعًا الملائكة.
قلت: والراجح أنها الملائكة في جميع الآيات لوجوه: (1)
1 -
لا مناسبة بين الريح والملائكة في موضوع القسم.
2 -
ليس هناك من فارق يفصل الصفات الثلاثة الأولى عن الصفتين الأخيرتين ليعلم أنهما لموصوفَيْن.
3 -
توالي فاءات التعقيب يدل على أن الموصوف شيء واحد.
4 -
السياق يفيد أن كل صفة موضحة لما قبلها.
5 -
هذه الصفات بمجموعها تنسجم مع كون الموصوف الملائكة.
وقوله تعالى: {فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا} .
هي الملائكةُ. قال أبو صالح: (الملائكةُ تنشر الكتب).
وقال قتادة: ({فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا}: هي الملائكة تلقي الذكر على الرسل وتبلغه).
قال النسفي: (أقسم سبحانه وتعالى بطوائف من الملائكة أرسلهن بأوامره فعصفن في مضيّهن، وبطوائف منهم نشرن أجنحتهن في الجو عند انحطاطهن بالوحي، أو نشرن الشرائع في الأرض، أو نشرن النفوس الموتى بالكفر والجهل بما أوحين، ففرقن بين الحق والباطل، فألقين ذكرًا إلى الأنبياء عليهم السلام.
وقوله تعالى: {عُذْرًا أَوْ نُذْرًا} . قال ابن عباس: (يعني الملائكة). وقال قتادة: (عذرًا من اللَّه، ونُذْرًا منه إلى خلقه). أو قال: (عذرًا للَّه على خلقه، ونذرًا للمؤمنين ينتفعون به، ويأخذون به). والمقصود: إرسالُ الملائكةِ إعذارٌ من اللَّه إلى الخلق، وإنذارٌ لهم عقابه إن خالفوا أمره.
وقوله تعالى: {إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ} . هو جواب القسم. قال ابن كثير: (هذا هو المُقْسَمُ عليه بهذه الأقسام، أي: ما وُعِدْتُمْ بهِ من قيام الساعة، والنفخ في الصور، وبَعْثِ الأجساد، وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد، ومجازاةُ كلّ عامل بعملهِ، إن خيرًا فخير، وإن شرًا فشر، إن هذا كله {لَوَاقِعٌ}، أي: لكائن لا محالة).
(1) انظر بعض هذه الوجوه في مختصر تفسير ابن كثير - نسيب الرفاعي - سورة المرسلات.
وقوله تعالى: {فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ} . قال ابن جرير: (يقول: فإذا النجومُ ذهب ضياؤها، فلم يكن لها نور ولا ضوء).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ} [التكوير: 2].
2 -
قال تعالى: {وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ} [الانفطار: 2].
وقوله تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} . أي: شقِّقت وصدّعت وتدلَّت أرجاؤها، ووهت أطرافها. قال ابن عباس:(فرجت للطيّ). وقيل: فتحت: كقوله تعالى: {وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا} [النبأ: 19].
وقوله تعالى: {وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ} . قال ابن عباس: (سُوِّيت بالأرض). وقال القرطبي: (أي ذهب بها كلها بسرعة).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا} [طه: 105 - 107].
2 -
وقال تعالى: {وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا} [الكهف: 47].
وقوله تعالى: {وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ} . قال ابن عباس: (يقول: جُمعت).
وقال مجاهد: (أُجِّلَت). وقال الثوري، عن منصور، عن إبراهيم:({أُقِّتَتْ}: أُوعِدَت). قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وإذا الرسل أجلت للاجتماع لوقتها يوم القيامة).
وقوله تعالى: {لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} . أي ليوم عظيم يعجب العباد منه لشدّتهِ ومزيد أهواله ضُرِبَ الأجل للرسل لجمعهم، يحضرون فيه للشهادة على أممهم.
قال النسفي: ({لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ} أخرت وأمهلت، وفيه تعظيم لليوم وتعجيب من هوله، والتأجيل من الأجل، كالتوقيت من الوقت).
وقوله تعالى: {لِيَوْمِ الْفَصْلِ} . بيان ليوم التأجيل، وهو اليوم الذي يفصل فيه بين الناس بأعمالهم، فيفَرَّقون إلى فريقين، فريق في الجنة وفريق في السعير.
وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ} . أي: وما أعلمكَ بيوم الفصل؟ فهو تعجيب آخر وتعظيم لأمر ذلك اليوم.
وقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} . وعيد أكيد، وتهديد شديد، يحمل في مفهومه ثبات الهلاك ودوامه للمدعو عليهم. قال القرطبي:(أي عذاب وخزي لمن كذّب باللَّه وبرسله وكتبه وبيوم الفصل فهو وعيد. وكرره في هذه السورة عند كل آية لمن كذب؛ لأنه قسمه بينهم على قدر تكذيبهم).
16 -
28. قوله تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)}.
في هذه الآيات: يقول تعالى ذكره: ألم نهلك الكفار من الأمم الماضية من لدن آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم يعني- بالعذاب في الدنيا حين كذبوا رسلهم، ثم نتبعهم الآخرين ممن جاؤوا بعدهم ممن أشبههم في عنادهم وتكذيبهم؟ ! ألم نخلقكم -أيها الناس- من ماء مهين، ثم سوّيناكم فقدرنا فنعم القادرون؟ ! ألم نجعل الأرض تضم الأحياء على ظهرها، والأموات في بطنها، والرواسي فوقها؟ ! ألم نسقكم الماء من ينابيعها وأنهارها؟ ! فويل يومئذ للمكذبين.
فقوله تعالى: {أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ} . قال النسفي: (الأمم الخالية المكذبة).
وقوله تعالى: {ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ} . وعيد لأهل مكة، أي ثم نسلك بأمثالهم من الآخرين المكذبين ما فعلنا بالأولين لما كذبوا الحق وعاندوا الرسل.
وقوله تعالى: {كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} . قال القاسمي: ({كَذَلِكَ} أي مثل ذلكَ الأخذ العظيم {نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ} أي بكل من أجرم وطغى وبغى).
وقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} . قال ابن جرير: (بأخبار اللَّه التي ذكرناها في هذه الآية، الجاحدين قدرته على ما يشاء).
وقوله تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} . قال ابن عباس: (يعني بالمهين: الضعيف).
والآية امتنان من اللَّه تعالى على خلقه، واحتجاج على الإعادة بالبدء.
أخرج ابن ماجة بسند حسن عن بسر بن جحَّاش القُرَشي قال: [بزَق النبي صلى الله عليه وسلم في كفه. ثم وضع أصبُعَهُ السبابة وقال: يقول اللَّه عز وجل: أنَّى تُعْجزُني، ابْنَ آدم! وقد خلقتكَ مِنْ مِثْل هذِه. فإذا بَلَغَتْ نَفْسُكَ هذه (وأشارَ إلى حلقه) قُلْتَ: أتصدقُ. وأنّى أوانُ الصدقة؟ ](1).
وقوله تعالى: {فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ} . قال مجاهد: (الرحم). قال ابن كثير: (يعني: جمَعناه في الرحم، وهو قرار الماء من الرجل والمرأة، والرَّحم مُعَدٌّ لذلك، حافِظٌ لما أودِعَ فيهِ من الماء).
وقوله تعالى: {إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ} . وهو مدة الحمل، وهي في جنس البشر بين ستة أشهر إلى تسعة أشهر.
وقوله تعالى: {فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ} . أي: فقدرنا على ذلك، فنعم القادرون عليه نحن. وهو المعنى إذا قرئ {فقَدَرْنا} بالتخفيف - قراءة أهل الكوفة والبصرة.
وأما إذا قُرئ: "فَقَدَّرنا" بالتشديد -قراءة أهل المدينة- فيكون المعنى: فقدّرنا ذلك الخلق تقديرًا: الأعضاء والصفات، وجعلنا كل حال من أحوال ذلكَ التخلّق على الصفة التي أردنا، فنعم المقدّر اللَّه.
وقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} . قال ابن جرير: (يقول جلّ ثناؤه: ويل يومئذ للمكذبين بأن اللَّه خلقهم من ماء مهين). قلت: والأشمل من ذلكَ أن يقال: ويل يومئذ للمكذبين بنعمة الفطرة والعناية من اللَّه بأطوار النشوء والتكوين واستواء الخلق.
وقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا} . قال ابن عباس: (يقول: كِنًّا). وقال أبو عبيدة: (كفاتًا: أوعية). قال القرطبي: (أي: ضامّة تضم الأحياء على ظهورها والأموات في بطنها).
قلت: وأصلها في لغة العرب من كفتَ: أي ضَمَّ. قال الرازي: (والكِفات: الموضِعُ الذي يُكْفَتُ فيه شيء أي يُضَمّ ومنه قوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا}).
وقوله تعالى: {أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا} . قال الشعبي: (بطنها لأمواتكم، وظهرها
(1) حديث حسن. أخرجه ابن ماجة (2707)، كتاب الوصايا. وانظر صحيح ابن ماجة (2188).
لأحيائكم). وقال مجاهد: ({كِفَاتًا} تكفت أذاهم وما يخرج منهم، {أَحْيَاءً} تواريه، {وَأَمْوَاتًا} يدفنون: تكفتهم).
وقال الحارث: (يغيبون فيها ما أرادوا).
وقوله: {وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ} . قال قتادة: (يعني الجبال).
وقال ابن عباس: (يقول: جبالًا مشرفات). والمقصود: أرسى اللَّه تعالى الأرض بالجبال لئلا تميد وتضطرب. فهو امتنان منه سبحانهُ على عباده في معرض ذكر النعم الكبيرة المنسية.
وقوله: {وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا} . قال ابن عباس: (يقول: عذبًا). أي من السحاب أو العيون.
وقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} . أي: بهذا السيل العظيم من النِّعم.
29 -
40. قوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)}.
في هذه الآيات: توجيه الكفار يوم القيامة إلى نار العذاب، فقد استحقوا بجرائمهم وكفرهم وصدهم عن سبيل اللَّه أشد العقاب.
فقوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره لهؤلاء المكذبين بهذه النِّعم، والحجج التي احتجَّ بها عليهم يوم القيامة: {انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ} في الدنيا {تُكَذِّبوُنَ} من عذاب اللَّه لأهل الكفر به).
وقوله تعالى: {انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} . المراد لهب النار إذا ارتفعَ وصعد معه دخان فمن شدته وقوته أن له ثلاث شعب. قال مجاهد: (قوله {إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ} قال: دخان جهنم). وقال قتادة: (هو كقوله: {نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا} [الكهف: 29]. قال: والسرادق: دخان النار، فأحاط بهم سرادقها، ثم تفرق، فكان ثلاث شعب،
فقال: انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب: شعبة هاهنا، وشعبة هاهنا، وشعبة هاهنا).
وقوله تعالى: {لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} . أي: ثم إنّ ظل الدخان لا يغني بنفسه من اللهب، فهو لا يظلهم من حرها، ولا يُكنُّهم من لهبها. قال القرطبي:({لَا ظَلِيلٍ} أي: ليس كالظلّ الذي يقي حرَّ الشمس {وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ} أي لا يدفع من لهب جهنم شيئًا. واللهب ما يعلو على النار إذا اضطرمت، من أحمر وأصفر وأخضر).
وقوله تعالى: {إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} . أي: وإنما يتطاير الشرر من لهبها كالقصر. قال ابن مسعود: (كالحصون). وقال ابن عباس ومجاهد: (يعني أصول الشجر). والشرر جمع شررة، والشرار جمع شرارة، وهو ما تطاير من النار من كل جهة، وأصله عند العرب من شَرَّرت الثوب إذا بسطته للشمس ليجف. والمقصود: يتطاير شرر نار جهنم كالقصر -وهو البناء العالي- في العظم، أو كارتفاع الغليظ من الشجر (جمع قصرة).
وقوله تعالى: {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ} . فيه أكثر من تأويل:
التأويل الأول: قيل المراد به الإبل السود، ذكره الحسن وقتادة واختاره ابن جرير.
التأويل الثاني: قيل بل المراد قطع النحاس. وذكره ابن عباس.
التأويل الثالث: قيل بل المراد به حبال السفن، ذكره مجاهد.
وقال البخاري: (حدثنا عمرو بن علي: حدثنا يحيى: أخبرنا سفيان: حدثني عبد الرحمن بن عابس قال: [سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول: {تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ} قال: كُنّا نَعْمِدُ إلى الخشبة ثلاثةَ أَذْرُعٍ وفوق ذلكَ، فَنَرْفَعُه للشتاء فنسميه القَصْرَ {كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ}: حِبالُ السُّفُن تُجْمَعُ حتى تكون كأوساط الرجال] (1).
قلت: وخلاصة القول - فإن شدة اللهب المنبعث من سعير جهنم يتطاير شرره في السماء بشدة وسرعة، حتى ينشطر ثلاثة فروع، كل واحد منهم كحبل السفينة المفتول والعياذ باللَّه.
وقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} . أي: فويل يومئذ للمكذبين بهذا الوعيد الذي توعده اللَّه المكذبين، للوحي والمرسلين.
وقوله تعالى: {هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ} . أي: لا يتكلمون. وسئل ابن عباس رضي اللَّه
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4933)، كتاب التفسير، سورة المرسلات. وانظر (4932).
عنهما عن هذه الآية، وعن قوله:{ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر: 31] فقال: (في ذلكَ اليوم مواقف، في بعضها يختصمون، وفي بعضها لا ينطقون). أو المعنى لا ينطقون بما ينفعهم فجعل نطقهم كلا نطق - حكاه النسفي.
وقوله تعالى: {وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ} . أي: ولا يسمح لهم في الاعتذار والتنصل، فقد قامت عليهم حجة اللَّه البالغة، وفاتهم قطار الاعتذار والتوبة.
وقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} . أي: بهذه الحقائق والمشاهد من الخزي يوم القيامة.
وقوله: {هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ} . أي: ويقال لهم يوم يبعثون: هذا اليوم هو يوم يفصل اللَّه فيه بين عباده، فيتبين المحق من المبطل. والخطاب لهؤلاء المكذبين بالبعث.
وقوله: {جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ} . قال ابن عباس: (جمع الذين كذبوا محمدًا والذين كذّبوا النبيين من قبله).
وقوله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ} . قال الضحاك، عن ابن عباس:(أي قدرتم على حرب: "فكيدوني" أي حاربوني). وقال القرطبي: ({فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ} أي حيلة في الخلاص من الهلاك {فَكِيدُونِ} أي فاحتالوا لأنفسكم وقاووني (1) ولن تجدوا ذلكَ). وهو تهديد شديد ووعيد أكيد، مفاده أنهم سيكونون يومئذ في قبضة حكمه سبحانه فيهم، فلا مفرّ ولا خلاص ولا نجاة.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {يَامَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ} [الرحمن: 33].
2 -
وقال تعالى: {وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} [هود: 57].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي ذر مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربه عز وجل: [يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضرِّي فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني](2).
وفي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول:
(1) في القاموس: التقاوي: تزايد الشركاء.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (8/ 17)، وأحمد في المسند (5/ 160) في أثناء حديث طويل.
[يقبضُ اللَّه الأرضَ ويطوي السماوات بيمينه، ثم يقول: أنا الملك، أين ملوك الأرض؟ ](1).
وفي لفظ عند الإمام مسلم من حديث عبد اللَّه بن عمر: [يطوي اللَّه السماوات يومَ القيامةِ ثم يأخذهن بيدهِ اليمنى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون، أين المتكبرون؟ ثم يطوي الأرضين يأخذهن بيدهِ الأخرى ثم يقول: أنا الملك، أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ ].
وقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} . أي: بالبعث والجزاء ونوال الثواب ونكال العقاب.
41 -
50. قوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)}.
في هذه الآيات: نَعْتُ حال المتقين يوم الدين، فهم في الملذات في جنات النعيم، وتوعّد المجرمين المكذبين نار الجحيم، جزاء بما كانوا يعملون.
فقوله تعالى: {إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: إن الذين اتقوا عقاب اللَّه بأداء فرائضه في الدنيا، واجتنابِ معاصيه {فِي ظِلَالٍ} ظليلة، وكنّ كنين، لا يصيبهم أذى حر ولا قرّ، إذ كان الكافرون باللَّه في ظل ذي ثلاث شعب، لا ظليل ولا يغني من اللهب. {وَعُيُونٍ} أنهار تجري خلال أشجار جناتهم).
وقوله تعالى: {وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ} . أي: ويأكلون من سائر أنواع الثمار، من كل ما اشتهوا وتمنوا من صنوف الفاكهة وثمار الأشجار.
وقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} . أي: ويقال لهم على سبيل الإحسان إليهم وحسن الاستقبال والضيافة: كلوا من هذه الفواكه واشربوا من هذه
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (2/ 48)، كتاب التفسير، وكذلك (6519)، (7382)، و (7413). وانظر للشاهد بعده: مختصر صحيح مسلم (1946).
العيون، فلا تكدير عليكم ولا تنغيص، ولا أذى يلحق أبدانكم، بل سرور وهناءة وعافية مقابل صبركم وحسن أعمالكم.
وقوله تعالى: {إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ} . أي: إنا كذلكَ نثيب الذين أحسنوا الإيمان وأخلصوا العمل.
وقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} . أي: بتكريم اللَّه المتقين، وحسن مستقر الأبرار والصالحين.
وقوله تعالى: {كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ} . تهديد شديد، ووعيد أكيد.
قال ابن زيد: (عُني به أهل الكفر). والمقصودُ: كلوا معشر الكفرة في بقية آجالكم، وتمتعوا ببقية أعمالكم، فإنه مسنون بكم سنة اللَّه في من سبقكم من المجرمين، خِزي وعذاب في الدنيا ثم جحيم وسعير في الآخرة.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ} [لقمان: 24].
2 -
وقال تعالى: {مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ} [يونس: 70].
3 -
وقال تعالى: {ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ} [الحجر: 3].
وقوله تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ} . أي: الذين كذبوا بما أخبر اللَّه جلت عظمتهُ أنه فاعل بالمجرمين المستكبرين.
وقوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ} . قال ابن كثير: (أي: إذا أُمِرَ هؤلاء الجهلةُ من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة امتنعوا من ذلكَ واستكبروا عنه. ولهذا قال تعالى: {وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ}).
وقوله تعالى: {فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ} . أي: فبأي حديث غير هذا القرآن المعجز يصدقون إذا لم يؤمنوا به؟ وهو توبيخ للمشركين واستخفاف بعقولهم.
تم تفسير سورة المرسلات بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه عصر يوم الأربعاء 7/ ذي القعدة/ 1426 هـ الموافق 7/ كانون الأول/ 2005 م