الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
90 - سورة البلد
وهي سورة مكّية، وعدد آياتها (20).
موضوع السورة
القَسَمُ بمكة والوالد والولد أن الإنسان في شدة وعناء وأن سعادته في طاعة اللَّه واقتحام الموانع وإلا كان الشقاء
-
منهاج السورة
-
1 -
قَسَمُ اللَّه تعالى بمكة أم القرى وبالوالد وأولاده أن ابن آدم في شدة وعناء، ثم مصيره إن كفر وعصى ربه إلى الشقاء.
2 -
حث الإنسان على إخلاص العبادة لربه الذي أغدق عليه نعمه الكثيرة، كالعينين واللسان والشفتين والنجدين والآلاء الكبيرة.
3 -
توجيه الإنسان لاقتحام موانع الطاعة، من النفس والشيطان والشهوات والهوى بالبذل والعمل والإيمان والجهاد والشجاعة.
4 -
المؤمنون هم أصحاب الميمنة، والكفار هم أصحاب المشأمة.
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
10. قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)}.
في هذه الآيات: يقسِمُ تعالى بمكة أم القرى في حال كون الساكن فيها حلالًا، تنبيهًا لعظمة قدرها حالة إحرام أهلها، كما يقسم جلت عظمته بالوالد وأولاده، أن ابن آدم في شدة وعناء، ثم مصيره إن كفر وعصى ربه إلى الشقاء، فهلا أخلص العبادة لربه الذي أغدق عليه نعمه الكثيرة، كالعينين واللسان والشفتين والنجدين والآلاء الكبيرة.
فقوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ} . قال الأخفش: ({لَا} زائدة). والتقدير: أقسم بهذا البلد -وهي مكة-. قال القرطبي: (أي أقسم بالبلد الحرام الذي أنت فيه، لكرامتك عليّ وحبّي لك). وقال مجاهد: ({لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}: {لَا}: رَدٌّ عليهم).
وقد أقسم اللَّه به في قوله: {وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ} [التين: 3].
وقوله تعالى: {وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} . فيه تأويلان:
التأويل الأول: أي في المستقبل. قال مجاهد: (أحل لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ما صنع فيه ساعة). وقال قتادة: (يقول: وأنت به حل لست بآثم).
وقد فصّل ذلك ابن عباس حيث قال: ({وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ} يعني بذلك نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم، أحلّ اللَّه له يوم دخل مكة أن يقتل من شاء، ويستحيي من شاء، فقتل يومئذ ابن خطل صَبْرًا وهو آخذ بأستار الكعبة، فلم تحل لأحد من الناس بعد رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أن يقتل فيها حرامًا حرّمه اللَّه، فأحلّ اللَّه له ما صنع بأهل مكة).
أخرج البخاري في صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم-
افْتَتَحَ مَكَّةَ: [لَا هِجْرةَ ولكِنْ جِهادٌ ونِيَّةٌ، وإذا اسْتُنْفِرْتُم فانْفِروا، فإن هذا بلدٌ حَرَّمَ اللَّهُ يومَ خلق السماوات والأرضَ، وهو حرامٌ بِحُرْمَةِ اللَّه إلى يومِ القيامة، وإِنَّهُ لا يَحِلُّ القِتالُ فيه لأحَدٍ قبلي ولمْ يَحِلَّ لي إلا ساعةً مِنْ نَهارٍ، فهو حرامٌ بحُرْمَةِ اللَّه إلى يوم القيامة] الحديث (1).
والتأويل الثاني: أي أقسم بهذا البلد الذي أنت مقيم به، تشريفًا لك وتعظيمًا لقدرك، لأنه صار بحلولِكَ فيه عظيمًا شريفًا.
قلت: وكلا المعنيين حق، سواء أكان القسم تأويله في الحاضر أو المستقبل، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله تعالى: {وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} . قَسَمٌ من اللَّه تعالى بالوالد وأولاده، كآدم وما تناسل من ولده، وبكل والد ومولود من جميع الحيوانات، تنبيهًا على عظم آية التناسل والتوالد، ودلالتها على قدرة اللَّه وحكمته وعلمه.
فعن ابن عباس: ({وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ} قال: هو الوالد وولده). وقال أيضًا: (الوالد: الذي يلد، وما ولد: العاقر الذي لا يولد له). وقال مجاهد: (الوالد: آدم، وما ولد: ولده). وعن عطية العوفي: (هو عموم في كل والد وكل مولود).
وقال الماوردي: (ويحتمل أن الوالد النبي صلى الله عليه وسلم، لتقدّم ذكره، وما ولد أمته، لقوله عليه السلام:"إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم". فأقسم به وبأمّته بعد أن أقسم ببلده، مبالغة في تشريفه عليه السلام.
قلت: والراجح العموم، فيدخل في ذلك كل والد ومولود، كما تقدم، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} . هو جواب القسم. والإنسان هنا ابن آدم. والكَبَد: الشدة والمعاناة (2). والتقدير: لا يزال الإنسان في مكابدة شدائد هذه الدنيا ومقاساة آلامها حتى يموت، فإذا مات كابد شدائد القبر والبرزخ وأهوالهما، ثم إذا بُعث كابد شدائد الآخرة. وفيه تسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم مما كان يكابده من قريش، فإن الأنبياء أشُد الناس بلاء.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (1834)، كتاب جزاء الصيد. باب: لا يَحل القتال بمكة.
(2)
أصل الكبد من (كبد الرجل كبدًا) فهو أكبد، إذا وجعت كبده وانتفخت. ثم استعمل في كل تعب ومشقة، ومنه اشتقت المكابدة.
وعن ابن عباس: ({فِي كَبَدٍ} قال: في شدَّة خَلْقٍ، ألم تر إليه وذكر مَوْلِدَه ونبات أسنانه). وقال مجاهد: ({فِي كَبَدٍ} نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، يتكبَّدُ في الخلق). وقال ابن عباس أيضًا: ({فِي كَبَدٍ} يقول: في نصب). أو قال: (في انتصاب، يعني القامة). قال الضحاك: (خُلِقَ منتصبًا على رجلين، لم تخلق دابة على خلقه). وعن قتادة: ({لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ} حين خلق، في مشقة، لا يُلقى ابن آدم إلا مكابد أمر الدنيا والآخرة). وعن الحسن: (يكابد أمرًا من أمر الدنيا، وأمرًا من أمر الآخرة). وقال أيضًا: (يكابِدُ مضايقَ الدنيا وشدائدَ الآخرة). قلت: وإنما تهوين هذه الشدائد أو عبورها وتجاوزها يكون اختصاصًا من اللَّه تعالى لأوليائه وأحبابه المؤمنين، فإنما استراح من غُفر له، ولا راحة لمؤمن إلا بلقاء ربه ورضاه.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4].
2 -
وقال تعالى: {حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا} [الأحقاف: 15].
وفي صحيح السنة العطرة من آفاق هذه الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج أحمد في المسند، وأبو نعيم في الحلية، بسند حسن في الشواهد عن عائشة قالت: قيل: يا رسول اللَّه ماتت فلانة واستراحت! فغضب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وقال: [إنما يستريح من غُفِرَ له](1).
وفي رواية: [إنما استراحَ من غُفِرَ له].
الحديث الثاني: أخرج مالك وأحمد والشيخان عن أبي قتادة: أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مُرَّ عليه بجنازة، فقال: مستريحٌ أو مستراحٌ منه. قالوا: يا رسول اللَّه ما المتسريحُ والمستراحُ منه؟ قال: [العبدُ المؤمن يستريح من نَصَبِ الدنيا وأذاها إلى رحمه الله، والعبد الفاجر يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب](2).
الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة بسند صحيح من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم
(1) حديث حسن. أخرجه أحمد (6/ 69)، (6/ 102)، وأبو نعيم في "الحلية"(8/ 290). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1710)، وصحيح الجامع (2315).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مالك (1/ 244/ 54)، وعنه البخاري (4/ 233)، وكذا مسلم (3/ 54)، وأحمد (5/ 302 - 303)، والنسائي (1/ 272 - 273).
قال: [إنَّ الميتَ يصيرُ إلى القبر، فَيُجْلَسُ الرجلُ الصالحُ في قبرِهِ، غَيْرَ فَزِعٍ ولا مشعوف. ثم يُقال له: فيمَ كُنتَ؟ فيقول: كنتُ في الإسلام. فَيُقالُ له: ما هذا الرجل؟ فيقول: محمدٌ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، جاءَنا بالبينات مِن عند اللَّه فصَدَّقْناه. فيُقالُ له: هل رأيتَ اللَّه؟ فيقول: ما ينبغي لأَحَدٍ أن يرى اللَّه، فَيُفْرَجُ له فُرْجَةٌ قِبَلَ النار. فينظُر إليها يَحْطِمُ بَعْضُها بعْضًا. فيُقال له: انظُرْ إلى ما وقاكَ اللَّه. ثم يُفْرَجُ له قِبَلَ الجنة. فينظرُ إلى زَهْرَتها وما فيها. فيقال له: هذا مَقْعَدُكَ، ويُقال له: على اليقين كُنْتَ، وعليه مُتَّ، وعليه تُبْعَثُ، إن شاءَ اللَّه](1).
وقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ} . أي: أيظن الإنسان أن لن يقدر عليه ولا ينتقم منه أحد، مهما اقترف من السيئات، حتى ولا ربِّه عز وجل؟ !
وقوله تعالى: {يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} . أي يقول ابن آدم: أنفقت مالًا كثيرًا مجتمعًا. وهو من تلبَّد الشيء: إذا اجتمع.
والمقصود: ما أنفقه من الأموال للافتخار والمباهاة والرياء. قال ابن عباس: (يعني باللبد: المال الكثير). وقال مجاهد: ({أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا} قال: مالًا كثيرًا). قال القاسمي: (كقولهم: "خسرت عليه كذا وكذا" إذا أنفق عليه. يتفضل على الناس بالتبذير والإسراف، ويحسبه فضيلة لاحتجابه عن الفضيلة وجهله).
وقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} . كشف لحقيقة ما كان عليه من النفاق والرياء.
قال النسفي: ({أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ} حين كان ينفق ما ينفق رياء وافتخارًا، يعني أن اللَّه تعالى كان يراه وكان عليه رقيبًا).
وقوله تعالى: {أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ} . قال قتادة: (نِعَمٌ من اللَّه متظاهرة، يقررك بها كيما تشكره). وقال القاشانّي: (أي ألم ننعم عليه بالآلات البدنية التي يتمكن بها من اكتساب الكمال، ليبصر ما يعتبر به، ويسأل عما لا يعلم، ويتكلم فيه؟ ).
والمقصود: تذكير من اللَّه تعالى عباده بنعمه عليهم، في سلامة الآلات التي يتوصلون بها إلى تحصيل منافعهم الدينية والدنيوية، فالحاجة إلى العينين للرؤية، واللسان للنطق والتعبير عما في الضمير، والتكلم بالحجة والحق، والشفتين لحبس
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (4268). وانظر صحيح سنن ابن ماجة (3443) - كتاب الزهد - باب ذكر القبر والبلى، وهو جزء من حديث أطول.
الطعام والشراب وإمساكهما في الفم، والنطق أيضًا، وفيهما جمالٌ للوجه والفم.
وقوله تعالى: {وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} . النجد: الطريق المرتفع -أو ما ارتفع من الأرض-.
فمفهوم الآية: وهديناه الطريقين: طريق الخير وطريق الشر.
والمقصود: امتنان من اللَّه تعالى على الإنسان في معرض ذكر النعم الجليلة عليه. أي: ألم نعرِّفه طريق الخير وطريق الشر، مبينتين واضحتين كتبيّن الطريقين العاليتين! فهو يدرك ذلك بفطرته التي فطره اللَّه عليها.
يروي ابن جرير عن عاصم، عن زر، عن عبد اللَّه:{وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ} قال: (الخير والشر). وعن ابن عباس: (يقول: الهدى والضلالة). وقال الضحاك: (نجد الخير، ونجد الشر).
قلت: وفي تسميتهما بالنجدين إشارة إلى وعورة وصعوبة كل مسلك منهما، فليس الشر بأهون من الخير، وإنما في كل طريق ما فيه من المحن، وإنما النجاة بمجاهدة النفس ألا تقع في الآثام، وأن تسلك سبيل تعظيم أوامر الرحمان.
11 -
20. قوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)}.
في هذه الآيات: توجيهُ اللَّه تعالى الإنسان لاقتحام موانع الطاعة، من النفس والشيطان والشهوات والهوى بالبذل والعمل والإيمان والجهاد والشجاعة، فالمؤمنون أصحاب الميمنة، والكفار أصحاب المشئمة.
فقوله تعالى: {فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ} . أي: فهلا اجتهد واخترق الموانع التي تحول بينة وبين طاعة اللَّه، من تسويل النفس واتباع الهوى والشيطان. وقال قتادة: (إنها عقبة
قُحْمَةٌ (1) شديدة فاقتحموها بطاعة اللَّه تعالى). وقال الحسن: (هي واللَّه عقبة شديدة: مجاهدة الإنسان نفسه وهواه وعدوّه الشيطان). وقيل: العقبة خَلاصُه من هول العرض.
وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ} . استفهام لزيادة التقرير والاهتمام. قال القاسمي: (أيْ أيّ شيء أعلمك ما اقتحام العقبة؟ وفي الاستفهام زيادة تقريرها وكونها عند اللَّه تعالى بمكانة رفيعة).
وقوله تعالى: {فَكُّ رَقَبَةٍ} . فكّها خلاصها من الأسر. وقيل: من الرِّق.
قال القرطبي: (والفكّ: هو حل القيد، والرِّق قيد. وسمي المرقوق رقبة، لأنه بالرق كالأسير المربوط في رقبته، وسمِّي عتقها فَكًّا كفك الأسير من الأسْر).
وقد حفلت السنة العطرة بأحاديث كثيرة في فضائل العتق، منها:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [أَيَّما رَجُلٍ أعتقَ امرأً مسلمًا اسْتَنْقَذَ اللَّه بِكُلِّ عُضْوِ مِنْهُ عُضْوًا من النار](2).
الحديث الثاني: أخرج الإمام أحمد في المسند بإسناد صحيح عن سعيد بن مُرجانَةَ: [أنه سمع أبا هريرة يقول: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "من أَعْتَقَ رقبةً مؤمنة أعتقَ اللَّه بكل إِرْبٍ منها إرْبًا منه من النار، حتى إنه ليُعْتِقُ باليدِ اليدَ، وبالرجلِ الرجلَ، وبالفرجِ الفرجَ". فقال عليُّ بن الحسين: أنت سمعتَ هذا من أبي هريرة؟ فقال سعيد: نعم. فقال علي بن الحسين لغلام له أفْرَهُ غلمانه: ادعُ مِطْرَفًا. فلما قام بين يديه قال: اذهب فأنت حُرٌّ لوجهِ اللَّه](3).
وروى البخاري نحوه وفيه: (فعمد عليّ بن الحسين رضي الله عنهما إلى عَبْدِ له قد أعطاهُ به عبد اللَّه بنُ جَعفر عَشَرَةَ آلافِ درهم، أو ألْفَ دينار فأعتقه).
الحديث الثالث: أخرج الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة قال: سمعت
(1) القُحْمة: المَهْلَكة، والسنة الشديدة. والقُحَم: صِعاب الطريق. والاقتحام: الرَّميُ بالنفس في شيء من غير رَوية. والمقصود هنا: الدخول والمجاوزة بشدة ومشقة. والعقبة: الطريق الوعرة في الجبل يصعب سلوكها، استعيرت لتمثيل ما سيأتي مما فيه معاناة ومشقة ومجاهدة للنفس من أجل النَجاة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (2517) كتاب العتق. وكذلك (6715)، ورواه مسلم (1506)، والترمذي (1541)، والنسائي (9/ 505)، وأحمد (2/ 420).
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (2/ 420)، وانظر صحيح البخاري -حديث رقم- (6715)، كتاب كفارات الإيمان.
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [مَنْ أعتقَ رقَبةً مؤمنة أعتقَ اللَّه منه بكل عُضْوٍ مِنْهُ عُضْوًا من النار، حتى يُعْتِقَ فرْجَهُ بِفرْجِهِ](1).
الحديث الرابع: أخرج الطبري بسند على شرط مسلم عن أبي نَجِيح قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [أَيَّما مُسلِمٍ أعتقَ رجُلًا مُسلمًا فإنَّ اللَّه جاعِلٌ وقاءَ كل عَظْمٍ من عِظامه عظْمًا من عِظام مُحَرِّرِه من النار. وَأَيُّما امرأة مُسلمة أعتقتْ امرأة مسلمةً فإن اللَّه جاعل وقاءَ كلِّ عظم من عِظامِها عظمًا من عِظامها من النار](2).
الحديث الخامس: أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن كثير بن مُرَّة، عن عمرو بن عَبَسَةَ: أنه حدَّثهم: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ بنى مسجدًا لِيُذْكَرَ اللَّهُ فيه بنى اللَّه له بيتًا في الجنة. ومن أعتق نفسًا مسلمةً كانت فِديته من جهنّم. ومن شابَ شيبة في الإسلام كانت له نورًا يوم القيامة](3).
الحديث السادس: أخرج الإمام أحمد بسند حسن عن البراء بن عازب قال: [جاء أعرابي إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول اللَّه! عَلّمني عملًا يدخلني الجنةَ. فقال: لئن كُنْتَ أقصرت الخطبةَ لقد أعرضت المسألة. أعتق النسمةَ، وفكّ الرقبة. فقال: يا رسول اللَّه! أوليستا بواحدةٍ؟ قال: لا، إن عِتْقَ النسمة أن تنفرد بِعِتْقها، وفَكَّ الرقبة أن تُعين في عِتقها. والمِنْحة الوكوفُ، والفيء على ذي الرحم الظالم، فإن لم تُطِق ذلك فأطعم الجائعَ، واسقِ الظمآن "واؤْمُر بالمعروف وانه عن المنكر"، فإن لم تطق ذلك فَكُفَّ لسانك إلا من الخير](4).
وقوله تعالى: {أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ} . السَّغَبُ: الجوع، والساغب الجائع. قال ابن عباس:({أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ}: ذي مَجاعةٍ). وقال إبراهيم النَّخَعِيُّ: (في يومٍ الطعامُ فيه عزيز). وقال قتادة: في يومٍ يُشتهى فيه الطعام).
والمقصود: إن من سبل اقتحام العقبة إطعام الطعام وخاصة عند انتشار الجوع ووجود الحاجة إليه، فإطعامه فضيلة وهو مع الجوع أفضل.
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (1541)، أبواب النذور والأيمان. باب ثواب من أعتق رقبة. وانظر صحيح الترمذي (1247)، وله شواهد كثيرة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الطبري (37317)، وإسناده على شرط مسلم. وله طرق.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 386)، وإسناده على شرط مسلم.
(4)
حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (4/ 299)، وإسناده حسن، وله شواهد.
أخرج الترمذي وابن ماجة بسند صحيح عن عبد اللَّه بن سلام قال: [لما قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، يعني: المدينة، انجفل الناس إليه، وقيل قدم رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فجئت في الناس لأنظر إليه، فلما استبنت وجه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب، وكان أول شيء تكلم به أن قال: يا أيها الناس أفشوا السلامَ، وأطعموا الطعام، وصَلُّوا والناسُ نيامٌ، تدخلوا الجنة بسلام](1).
وقوله تعالى: {يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ} . قال ابن زيد: (ذا قرابة). والمعنى: أي يطعم اليتيم -وهو الصغير الذي لا أب له-، ويكون اليتيم من أقارب هذا المقتحم الذي يبغي النجاة في الآخرة.
أخرج الترمذي وابن ماجة بسند صحيح عن سلمان بن عامر يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال: [الصدقة على المسكين صدقة، وهي على ذي الرحِم ثِنْتان: صدقةٌ وصلة](2).
وقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} . أي لا شيء له، حتى كأنه لشدة فقره قد لصِقَ بالتراب. وهو من "ترب الرجل" إذا افتقر، والمتربة: المسكنة والفاقة. قال ابن عباس: ({ذَا مَتْرَبَةٍ} هو المطروح في الطريق، الذي لا بيت له، ولا شيء يقيه من التراب). وفي رواية: (هو الذي لَصِقَ بالدقعاء من الفقر والحاجة، ليس له شيء). والدقعاء: التراب. وقال عكرمة: (هو الفقير المديونُ المحتاجُ). وقال سعيد بن جبير: (هو الذي لا أحدَ له). وقال قتادة: (هو ذو العيالى). وقيل: هو البعيدُ التربة -قاله ابن عباس- يعني الغريب عن وطنه. وكل ما سبق داخل في مفهوم الآية، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ} .
أي: ثم إن ذلك المقتحم للعقبة إضافة إلى ما سبق من الأوصاف الجميلة فهو مؤمن يوصف بالتحلي برفيع الإيمان في قلبه، وجميل الأعمال على جوارحه، مع الاحتساب ثواب الابتلاء عند ربه، ورحمته عباد اللَّه جميعًا.
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن -حديث رقم- (1334)، (3251)، والترمذي. انظر صحيح سنن الترمذي (2019).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الترمذي (658)، أبواب الزكاة، باب الصدقة على ذي القرابة. ورواه ابن ماجة (1844)، كتاب الزكاة، باب فضل الصدقة. وقد مضى.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا} [الإسراء: 19].
2 -
وقال تعالى: {وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)} [العصر: 1 - 3].
وفي الصحيحين عن جرير بن عبد اللَّه مرفوعًا: [لا يرحم اللَّه مَنْ لا يرحم الناس](1).
وله شاهد صحيح رواه الحافظ العراقي عن أنس بن مالك مرفوعًا: [والذي نفسي بيده لا يضع اللَّه رحمته إلا على رحيم. قالوا: كلنا يرحم. قال: ليس برحمة أحدكم صاحبه، يرحم الناس كافة](2).
وأخرج البخاري في الأدب المفرد بسند قوي عن عبد اللَّه بن عمرو يرفعه: [مَنْ لَمْ يرحَمْ صغيرَنا، ويعرِفْ حَقَّ كبيرنا، فليسَ منا](3).
وأخرج الديلمي بسند حسن في الشواهد عن معقل بن يسار مرفوعًا: [أفضل الإيمان الصبرُ والسماحة](4).
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ} . أي المتصفون بهذه الصفات هم أصحاب اليمين، الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم. وقال يحيى بن سلام:(لأنهم ميامينُ على أنفسهم).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ} . أي: أصحاب الشمال. قال محمد بن كعب: (أي يأخذون كتبهم بشمائلهم). قال يحيى بن سلام: (لأنهم مشائيم على أنفسهم).
وقوله تعالى: {عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ} . قال ابن عباس: (مغلقة الأبواب).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (7376)، ومسلم (319)، وأحمد (4/ 562).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الحافظ العراقي في "المجلس 86 من الأمالي"(2/ 77)، وله شاهد عند ابن المبارك في "الزهد"(1/ 203). وانظر "الصحيحة"(167).
(3)
حديث حسن. أخرجه البخاري في "الأدب المفرد"(355)، وأبو داود في "السنن"(4943)، والترمذي (1920)، وهو حديث قوي وله شواهد.
(4)
حسن لغيره. أخرجه الديلمي (1/ 1/ 128)، وابن أبي شيبة في "الإيمان"(43).
وقال سعيد بن جبير: (أي مُطبقةٌ). وقال مجاهد: (أصَد الباب بلغة قريش: أي أغلقه). وقال الضحاك: ({مُؤْصَدَةٌ}: حيطٌ لا باب له).
وقال قتادة: ({مُؤْصَدَةٌ}: مطبقة فلا ضوءَ فيها ولا فُرَج، ولا خروج منها آخر الأبد).
قلت: وفي الصحاح: أوصَدْت الباب وآصَدْته أي أغلقته.
والقصود: تُطبق أبواب النار وتغلق على الكفار، لحبسهم فيها، وسدّ سبل الخلاص منها، أعاذنا اللَّه والمؤمنين من نار جهنم، بفضله ورحمته وكرمه.
تم تفسير سورة البلد بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه عصر يوم الأحد 25 - ذي القعدة - 1426 هـ الموافق 25/ كانون الأول/ 2005 م