الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
70 - سورة المعارج
وهي سورة مكية، وعدد آياتها (44).
موضوع السورة
تأكيد عذاب اللَّه -ذي المعارج- على أهل الكفر والسيئات وتحذير المؤمنين من سَيِّئِ الأخلاق والعادات
-
منهاج السورة
-
1 -
سؤال بعض الكافرين عن عذاب اللَّه وهو لا محالة واقع، وليس له من دون اللَّه ذي المعارج دافع.
2 -
حث اللَّه تعالى نبيِّه صلى الله عليه وسلم على الصبر، فإن النصر لا بد قريب.
3 -
وَصْفُ الأهوال التي تسبق القيامة، ومشهد الذل في المحشر على المجرمين والندامة.
4 -
إخبار اللَّه عن الإنسان وما فيه من سَيِّئِ العادات، وثناء على المصلين المزكين في أرفع الصفات، وتخصيص اللَّه تعالى لهم في الجنة أرفع الدرجات.
5 -
استنكار على المشركين نفورهم عن الحق وبديع الآيات، وتوبيخ لهم في طمعهم بالجنة وهم قائمون على الشرك والموبقات.
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
7. قوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)}.
في هذه الآيات: سؤالُ بعض الكفار عن عذاب اللَّه وهو لا محالة واقع، على الكافرين وليس له من دون اللَّه ذي المعارج دافع، فاصبر يا محمد فكل آت قريب والصبر نافع.
فقوله تعالى: {سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} . قال ابن عباس: (ذاك سؤال الكفار عن عذاب اللَّه وهو واقع). وقال مجاهد: (دعا داع {بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} قال: يقع في الآخرة). وقال قتادة: (سأل عذاب اللَّه أقوام، فبين اللَّه على من يقع على الكافرين).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32].
2 -
وقال تعالى: {وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ} [الحج: 47].
وفي صحيح البخاري عن أنس بن مالك قال: [قال أبو جهل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فنزلت: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [الأنفال: 33 - 34] الآية] (1).
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4649) - كتاب التفسير من صحيحه - سورة الأنفال.
وقوله تعالى: {لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ليس للعذاب الواقع على الكافرين من اللَّه دافع يدفعه عنهم).
وقوله تعالى: {مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} . قال الرازي: (المعارج جمع معرج، وهو المصعد). قال ابن عباس: ({ذِي الْمَعَارِجِ} يقول: العلو والفواضل). أو قال: (ذي الدرجات).
وقال قتادة: (ذي الفواضل والنِّعم). وقال مجاهد: ({مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ} قال: معارج السماء). وقيل: هي معارج الملائكة؛ لأنها تعرج إلى السماء فوصف نفسه بذلك.
وقيل: المعارج هي الدرجات التي يعطيها سبحانه أولياءه في الجنة.
وقوله تعالى: {تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} .
أي: تصعد إليه الملائكة {وَالرُّوحُ} -وهو جبريل عليه السلام أو روح المؤمن عند الموت- فيكون مقدار صعودهم ذلك في يوم لغيرهم من الخلق خمسين ألف سنة.
قال ابن كثير: (وأما {وَالرُّوحُ}: يحتمل أن يكون المراد به جبريل، ويكون من بابَ عطْفِ الخاص على العام. ويحتمل أن يكون اسمَ جنْسٍ لأرواح بني آدم فإنها إذا قُبِضَت يُصْعَدُ بها إلى السماء).
قلت: وكلا المعنين حق، فصعود الروح جبريل وكذلك أرواح المؤمنين ثابت في السنة الصحيحة:
ففي المسند وسنن أبي داود ومستدرك الحاكم بسند صحيح من حديث البراء مرفوعًا: [فيصعدون بها -أي روح المؤمن- فلا يمرون بها على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هذا الروح الطيب؟ فيقولون: فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح لهم، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها، حتى ينتهي به إلى السماء السابعة] الحديث (1).
وعن مجاهد: ({فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} . قال: منتهى أمره من أسفل
(1) حديث صحيح. وهو جزء من حديث طويل. أخرجه أحمد (4/ 287)(4/ 295)، وأخرجه أبو داود (2/ 281)، والحاكم (1/ 37 - 40)، والطيالسي (رقم 753).
الأرضين إلى منتهى أمره من فوق السماوات والأرض مقدار خمسين ألف سنة، ويوم كان مقداره ألف سنة، يعني بذلك نزول الأمر من السماء إلى الأرض، ومن الأرض إلى السماء في يوم واحد، فذلك مقداره ألف سنة، لأن ما بين السماء إلى الأرض مسيرة خمس مئة عام).
قلت: والآية دليل واضح من أدلة العلو للَّه تعالى فوق جميع خلقه، فوق السماوات السبع فوق العرش العظيم.
ففي التنزيل:
1 -
قوله تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ} [السجدة: 5].
2 -
وقوله تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ} [فاطر: 10].
3 -
وقوله تعالى: {أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ} [الملك: 16].
ومن كنوز السنة العطرة في آفاق ذلك أحاديث، منها:
الحديث الأول: أخرج الشيخان من حديث أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[الملائكة يتعاقبون فيكم، ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفحر وصلاة العصر، ثم يعرج إليه الذي باتوا فيكم فيسألهم، وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون. أتيناهم وهم يصلون، وتركناهم وهو يصلون](1).
الحديث الثاني: أخرج أحمد في المسند بسند جيد عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [كان ملك الموت يأتي الناس عيانًا، فأتى موسى عليه السلام فلطمه، فذهب بعينه، فعرج إلى ربه عز وجل فقال: يا رب بعثتني إلى موسى فلطمني فذهب بعيني، ولولا كرامته عليك لشققت عليه. قال: ارجع إلى عبدي فقل له: فليضع يده على ثور، فله بكل شعرة وارت كفه سنة يعيشها] الحديث (2).
الحديث الثالث: حديث المعراج -في الصحيحين وغيرهما- عن أنس وفيه: [ثم
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (555)، ومسلم (632)، ورواه أحمد (2/ 312).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد، وأصله وشاهده في الصحيحين. انظر:"مختصر العلو"(86).
عرج بنا إلى السماء فاستفتح جبريل] الحديث (1).
وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا} . أي: فاصبر يا محمد على أذى قومك صبرًا لا جزع فيه، ولا يثنيك ما تلقى منهم من الأذى عن تبليغ رسالة ربك، فإن النصر مع الصبر، وإن مع العسر يسرًا.
وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا} . قال النسفي: ({إِنَّهُمْ} إن الكفار {يَرَوْنَهُ} أي العذاب أو يوم القيامة {بَعِيدًا} مستحيلًا {وَنَرَاهُ قَرِيبًا} كائنًا لا محالة، فالمراد بالبعيد البعيد من الإمكان، وبالقريب القريب منه).
8 -
18. قوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)}.
في هذه الآيات: نَعْتُ الأهوال التي تسبق القيامة، ومشهد الذل في أرض المحشر على المجرمين والندامة، ونار جهنم قد أعدت لاستقبال الطغاة لتنقلهم من الفرحة إلى السآمة.
فقوله تعالى: {يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ} . يعني: كالشيء المذاب. قال مجاهد: (كَعَكَرِ الزيت). وقال قتادة: (تتحول يومئذ لونًا آخر إلى الحمرة).
وقوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ} . يعني: كالصوف المنفوش. وهو كقوله تعالى: {وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ} [القارعة: 5]. وعن مجاهد: ({كَالْعِهْنِ} قال: كالصوف).
وقوله تعالى: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} . أي: ولا يسأل قريب قريبه عن شأنه أو حاله لانشغاله بشأن نفسه. قال قتادة: {وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا} يشغل كل إنسان بنفسه عن الناس).
(1) حديث صحيح. انظر صحيح البخاري (فتح الباري 7/ 201 - 202)، (6/ 477)، وصحيح مسلم (1/ 448)، (1/ 156 - 157)، من حديث الإسراء والمعراج.
وقوله: {يُبَصَّرُونَهُمْ} فيه أكثر من تأويل:
التأويل الأول: المقصود الأقرباء يعرف بعضهم بعضًا، ثم ينشغل كل بنفسه عن غيره.
قال ابن عباس: ({يُبَصَّرُونَهُمْ}: يعرف بعضهم بعضًا، ويتعارفون بينهم، ثم يفر بعضهم من بعض، يقول: {لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ} [عبس: 37]).
وقال قتادة: ({يُبَصَّرُونَهُمْ} يعرفونهم يعلمون، واللَّه ليعرِفَنَّ قوم قومًا، وأناس أناسًا).
التأويل الثاني: المؤمنون يبصرون الكفار. قال مجاهد: ({يُبَصَّرُونَهُمْ} المؤمنون يبصرون الكافرين).
التأويل الثالث: الكفار الأتباع يعرفون المتبوعين الرؤساء في النار.
قال ابن زيد: ({يُبَصَّرُونَهُمْ}: يبصرون الذين أضلوهم في الدنيا في النار).
والتأويل الأولى هو الأنسب للسياق، وهو اختيار ابن جرير. قال:(معنى ذلك: ولا يسأل حميم حميمًا عن شأنه، ولكنهم يبصرونهم فيعرفونهم، ثم يفر بعضهم من بعض). وبنحوه ذكر الحافظ ابن كثير حيث قال: (أي: لا يسأل القريبُ عن حاله، وهو يراه في أسوأ الأحوال، فتشغلُه نفسُه عن غيره).
أي: يتمنى الكافر لو يفتدي يومئذ من عذاب جهنم بأعز من كان عليه في الدنيا: الولد والزوجة والأخ والعشيرة، بل وكل أهل الأرض ليحظى بالنجاة ولكن هيهات! !
وعن قتادة: ({يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ}. الأحبّ فالأحبّ، والأقرب فالأقرب من أهله وعشيرته لشدائد ذلك اليوم).
وعن مجاهد: ({وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} قال: قبيلته). وقال ابن زيد: ({وَصَاحِبَتِهِ} قال: الصاحبة الزوجة {وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ} قال: فصيلته: عشيرته).
وقوله تعالى: {كَلَّا إِنَّهَا لَظَى} . أي: لا سبيل له إلى ذلك، فإنه لا يُقبل منه فِداءٌ ولو جاء بأهل الأرض وبأعزّ ما يجده من المال ولو بملء الأرض ذهبًا لو استطاع إلى
ذلك سبيلًا، فإن {لَظَى} -وهي جهنم- له بالمرصاد.
قال القرطبي: ({كَلَّا}: تكون بمعنى حقًا، وبمعنى لا. وهي هنا تحتمل الأمرين، فإذا كانت بمعنى حقًا كان تمام الكلام {يُنْجِيهِ}. وإذا كانت بمعنى لا كان تمام الكلام عليها، أي ليس ينجيه من عذاب اللَّه الافتداء ثم قال: {إِنَّهَا لَظَى} أي هي جهنم، أي تتلظّى نيرانها).
و{لَظَى} اسم من أسماء جهنم، واشتقاق {لَظَى} من التلظِّي. والتِظاءُ النار التهابها، وتلظيها تَلَهُّبُها، كما قال تعالى:{فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى} [الليل: 14] أي تتلهب.
وقوله تعالى: {نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} . قرأ أبو جعفر وشيبة ونافع، وعاصم -في رواية أبي بكر عنه- "نَزَّاعَةٌ" بالرفع. وقرأها عاصم في رواية أبي عمرو عنه {نَزَّاعَةً} بالنصب. فبالرفع هي خبر لمبتدأ محذوف تقديره "هي"، أو خبر آخر لإن، أو بدل من لظى. وبالنصب تكون حالًا مؤكدة، أو تُنْصَبُ على معنى أنها تتلظى نزاعة، أي في حال نزعها للشّوى. وقيل غير ذلك.
والشّوى في لغة العرب: جمع شواة وهي جلدة الرأس. والشّوى: اليدان والرجلان والرأس من الآدميين، وكل ما ليس مقتلًا. يقال: رماه فأشواه إذا لم يصب المقتل.
وعن ابن عباس: ({نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} قال: تنزع أم الرأس). وفي رواية: (يعني الجلود والهام). وقال مجاهد: ({نَزَّاعَةً لِلشَّوَى} قال: لجلود الرأس). وقال أبو صالح: (نزاعة للحم الساقين). وقال قتادة: (أي نزاعة لهامته ومكارم خلْقه وأطرافه). وقال الضحاك: (تبري اللحم والجلد عن العظم حتى لا تترك منه شيئًا). وقال ابن زيد: (الشوى: الآراب العظام).
فقوله تعالى: {تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} . قال مجاهد: (عن الحق). وقال قتادة: ({تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ} عن طاعة اللَّه {وَتَوَلى} قال: عن كتابه، وعن حقه). وقال ابن زيد: (ليس لها سلطان إلا على هوانِ مَنْ كفرَ وتولى وأدبر عن اللَّه، فأما من آمن باللَّه ورسوله، فليس لها عليه سلطان). قال ابن كثير: (أي: تَدْعُو النارُ إليها أبناءها الذين خلقهم اللَّه لها، وقَدَّر لهم أنَّهم في الدار الدنيا يعملون عملها، فتدعوهم يوم القيامة بلسانٍ طَلْقٍ ذَلْقٍ، ثم تَلْتَقِطُهم من بين أهل المحشر كما يَلْتَقِطُ الطيرُ الحبَّ، وذلك أنهم كما قال اللَّه عز وجل كانوا ممن {أَدْبَرَ وَتَوَلَّى}، أي: كَذَّب بقلبه، وتركَ العملَ بجوارِحه).
وقوله تعالى: {وَجَمَعَ فَأَوْعَى} . قال مجاهد: (جمع المال). وقال قتادة: (كان
جَموعًا قمومًا للخبيث). قال ابن جرير: (يقول: وجمع مالًا فجعله في وعاء، ومنع حق اللَّه منه، فلم يزكّ ولم ينفق فيما أوجب اللَّه عليه إنفاقه فيه).
19 -
35. قوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)}.
في هذه الآيات: إخبارٌ من اللَّه تعالى عن الإنسان وما هو مجبول عليه من الصفات والأخلاق الدنيئة الواجب مدافعتها، وثناءٌ على المصلين المزكين المشفقين من عذاب اللَّه الحافظين فروجهم والموفون بعهودهم والمؤدون الأمانات إلى أهلها، ووعد لهم مع البشرى بدخول الجنان والاستقرار في روضاتها.
فقوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} . الهلع: شدة الجزع مع شدة الحرص والضجر. والهلوع: الجزوع الحريص. قال سعيد بن جبير: ({إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا} قال: شحيحًا جزوعًا). وقال عكرمة: (ضجُورًا). وقال الضحاك: ({إِنَّ الْإِنْسَانَ} يعني الكافر {خُلِقَ هَلُوعًا} يقول: هو بخيل منوع للخير، جزُوع إذا نزل به البلاء، فهذا الهلوع). وقال شعبة: (الهلوع: الحريص).
أخرج أبو داود بسند صحيح عن أبي هريرة، قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [شرُّ ما في رجلٍ شحٌّ هالِعٌ، وَجُبْنٌ خَالِعٌ](1).
وقوله تعالى: {إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا} . تفسير لآفاق ذلك الهلع: قال ابن كثير: (أي:
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن -حديث رقم- (2511). كتاب الجهاد. باب في الجرأة والجبن. من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وانظر صحيح سنن أبي داود (2192)، ومسند أحمد (2/ 302)، وصحيح ابن حبان (3250).
إذا أصابه الضُّرُّ فَزِع وجَزِع وانخلعَ قلبُهُ من شدة الرُّعب، وأيِسَ أن يحصلَ له بعد ذلك خير).
وقوله تعالى: {وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا} . قال النسفي: (وإذا ناله خير بخل به ومنعه الناس، وهذا طبعه وهو مأمور بمخالفة طبعه وموافقه شرعه. والشر: الضر والفقر. والخير: السعة والغنى. (أو المرض والصحة)).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [ما مِنْ يَوْمٍ يُصْبِحُ العبادُ فيه، إلا ملكان ينزلان، فيقول أحدُهما: اللهمَّ! أَعْطِ مُنْفِقًا خَلَفًا، ويقول الآخر: اللهم! أَعْطِ مُمْسِكًا تَلَفًا](1).
وقوله تعالى: {إِلَّا الْمُصَلِّينَ} . قال القرطبي: (دلّ على أن ما قبله في الكفار، فالإنسان اسم جنس بدليل الاستثناء الذي يعقبه، كقوله تعالى: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر: 2، 3]). وقال ابن كثير: (أي: الإنسان من حيثُ هو مُتَّصِفٌ بصفات الذم إلا من عصمه اللَّه ووفَّقَه، وهداه إلى الخير ويَسَّرَ له أسبابه، وهم المصلون).
وقوله تعالى: {الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} . يشمل في مفهومه المحافظة على أوقاتها وأركانها وواجباتها، وسكونها وخشوعها جزء من ذلك.
وعن إبراهيم النخعي: ({الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ} قال: الصلوات الخمس). أو قال: (المكتوبة).
وعن ابن مسعود قال: (الذين يصلونها لوقتها، فأما تركها فكفر). وقال عقبة بن عامر: (هم الذين إذا صلوا لم يلتفِتوا خلفهم، ولا عن أيمانهم، ولا عن شمائلهم).
رواه بسنده ابن جرير. كما روى عن قتادة قوله: (ذُكر لنا أن دانيال نعت أمة محمد صلى الله عليه وسلم قال: يصلون صلاة لو صلاها قوم نوح ما غرقوا، أو عاد ما أُرسلت عليهم الريح العقيم، أو ثمود ما أخذتهم الصيحة، فعليكم بالصلاة فإنها خُلُقٌ للمؤمنين حسن).
وقال ابن جريج والحسن: (هم الذين يكثرون فعل التطوع منها).
وقيل: المراد بالدوام السكون والخشوع، ومنه الماء الدائم، أي: الساكن الراكد.
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1010)، كتاب الزكاة، باب في المنفق والممسك.
ولا شك أن الطمأنينة ركن من أركان الصلاة.
ففي التنزيل:
{قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ} [المؤمنون: 1 - 2].
وفي صحيح السنة المطهرة في آفاق ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الترمذي بسند صحيح عن الحارث الأشعري -من وصايا يحيى بن زكريا عليه السلام كما ذكر لنا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [وإن اللَّه أمركم بالصلاة، فإذا صليتم فلا تلتفتوا، فإن اللَّه ينصب وجهه لوجه عبده في صلاته ما لم يلتفت](1).
الحديث الثاني: أخرج أبو داود بسند صحيح عن عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن التفات الرجل في الصلاة؟ فقال: [هو اختلاس يختَلِسُهُ الشيطان من صلاة العبد](2).
والاختلاس: هو الاختطاف بسرعة على غفلة. قال العلامة الطيبي طيب اللَّه ثراه: (سمي اختلاسًا تصويرًا لقبيح تلك الفعلة بالمختلس، لأن المصلي يقبل عليه الرب سبحانه وتعالى والشيطان مرتصد له ينتظر فوات ذلك عليه، فإذا التفت اغتنم الشيطان الفرصة فسلبه تلك الحالة). واللَّه أعلم.
الحديث الثالث: أخرج النسائي والترمذي -واللفظ للنسائي- من حديث رفاعةَ بن رافع -حديث المسيء صلاته- قال له النبي صلى الله عليه وسلم: [إنه لا تَتِمُّ صلاةُ أحدِكم حتى يُسْبِغَ الوضوءَ كما أمَرَه اللَّه تعالى، ويغسلَ وجهَهُ ويديه إلى المرفقين، ويمسحَ برأسِه ورجلَيه إلى الكعبين، ثم يكبّر اللَّهَ، ويحمدُه، ويُمَجِّدُه، ويقرأ من القرآن ما أذِنَ اللَّهُ له فيه وتَيَسَّرَ، ثم يكبر ويركع، فيضع كفيه على ركبتيه حتى تطمئن مفاصِلُهُ وتسترخي، ثم يقول: سمع اللَّه لمن حمده، ويستوي قائمًا حتى يأخذ كلُّ عظمٍ مأخذه، ويقيمَ صُلبَه، ثم يكبر، فيسجدُ، ويُمَكِّنُ جبهتَه من الأرض، حتى تطمئِنَّ مفاصِلُهُ وتسترخي، ثم يكبِّر فيرفع رأسه، ويستوي قاعدًا على مقعدته ويقيم صلبه (فوصف الصلاة هكذا حتى فرغ ثم قال: ) لا تتم صلاةُ أحدكم حتى يفعلَ ذلك](3).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} . قال قتادة: (الحق
(1) حديث صحيح. وهو جزء من حديث طويل. انظر صحيح سنن الترمذي (2298)، أبواب الإمثال.
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (910)، في الصلاة. باب الالتفات في الصلاة. ورواه البخاري.
(3)
رواه النسائي وهذا لفظه، والترمذي وقال:"حديث حسن". انظر صحيح الترغيب (1/ 537).
المعلوم: الزكاة). أو قال: (الزكاة المفروضة). وقال ابن عباس: (يقول: هو سوى الصدقة يصل بها رحمه، أو يقري بها ضيفًا، أو يحمل بها كَلًّا، أو يُعين بها محرومًا).
قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وإلا الذين في أموالهم حقّ مؤقت، وهو الزكاة للسائل الذي يسأله من ماله، والمحروم الذي قد حرم الغنى، فهو فقير لا يسأل).
قلت: والزكاة أشبه بالحق المعلوم، وسوى الزكاة ليس بمعلوم، إنما هو واجب على قدر الحاجة، فيكون بعد الزكاة المعلومة في أنصبتها ومقاديرها، كما قال الشعبي:(إن في المال حقًا سوى الزكاة).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} . أي: وإلَّا المؤمنون باليوم الآخر، فهم يقرون بالبعث والحساب، ويعملون لما يَكون فيه الفوز بالجنة والنجاة من العقاب.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ} . أي: والذين هم في الدنيا من عذاب الآخرة خائفون وجلون، فهم راجون رحمة ربهم لا يضيعون له فرضًا، ولا يتعدّون له حدًّا، وهم له خاشعون.
وقوله تعالى: {إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ} . قال النسفي: (أي لا ينبغي لأحد وإن بالغ في الاجتهاد والطاعة أن يأمنه، وينبغي أن يكون مترجحًا بين الخوف والرجاء).
أخرج أبو نعيم في "الحلية" بسند حسن عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [قال اللَّه تعالى: وعزتي وجلالي لا أجمع لعبدي أمنين ولا خوفين، إن هو أمنني في الدنيا أخفته يوم أجمع عبادي، وإن هو خافني في الدنيا أمَّنْتُه يوم أجمع عبادي](1).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ} . أي: والذين هم حافظون فروجهم عن الحرام، فهم يمنعونها أن توضع في غير ما أذن اللَّه.
وقوله تعالى: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ} . أي: ويستثنى مما سبق الأزواج والإماء، فهن حلال لمن ملكهن بكلمة اللَّه وضوابط الشرع.
أخرج أبو داود بسند حسن عن حكيم، عن أبيه، قال: قلت: يا رسول اللَّه!
(1) حديث حسن. أخرجه أبو نعيم والبزار بسند حسن. انظر صحيح الجامع الصغير (4208).
عوراتنا ما نأتي منها وما نذر؟ قال: [احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينُك] الحديث (1).
وقوله تعالى: {فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ} . أي: فمن التمس لفرجه منكحًا سوى زوجته أو ما ملكت يمينه فهو بذلك متعد حدود اللَّه، ماض في طريق معصيته.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وإلا الذين هم لأمانات اللَّه التي ائتمنهم عليها من فرائضه وأمانات عباده التي اؤْتُمِنُوا عليها، وعهوده التي أخذها عليهم بطاعته فيما أمرهم به ونهاهم، وعهود عباده التي أعطاهم على ما عقده لهم على نفسه راعون، يرقبون ذلك، ويحفظونه فلا يضيعونه، ولكنهم يؤدّونها ويتعاهدونها على ما ألزمهم اللَّه وأوجب عليهم حفظها).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} [الأحزاب: 58].
2 -
وقال تعالى: {وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا} [الإسراء: 34].
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [مَنْ حَمَلَ علينا السلاح فليس مِنّا، ومَنْ غَشَّنا فليس منا](2).
وفي الصحيحين من حديث أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: [لكل غادر لواء يومَ القيامة، يقال: هذه غَدْرةُ فلان](3).
وفي جامع الترمذي بسند صحيح من حديث أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[المسلم أخو المسلم، لا يخونُه، ولا يَكذِبُه، ولا يخذُله، كل المسلم على المسلم حرام، عِرضُه ومالُه ودمُه](4).
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ} . أي: والذين لا يكتمون الشهادة التي استشهدوا عليها، بل يؤدونها صحيحة غير مبدلة ولا معدّلة.
(1) حديث حسن. أخرجه أبو داود في السنن (4017)، كتاب الحمّام. باب ما جاء في التعرّي. ورواه ابن ماجة (1920). وانظر صحيح سنن أبي داود (3391).
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (101)، كتاب الإيمان. وانظر كذلك الحديث (100)، (102).
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (10/ 464)، (12/ 299)، وأخرجه مسلم (1735).
(4)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (1572)، وكذلك (1152) من حديث ابن عمر.
قال القرطبي: ({قَائِمُونَ} على من كانت عليه من قريب أو بعيد، يقومون بها عند الحاكم ولا يكتمونها ولا يغيرونها).
وفي التنزيل: {وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ} [البقرة: 283].
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ} . قال قتادة: (على وضوئها وركوعها وسجودها). وقيل: على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها. وقيل: الدوام عليها الاستكثار منها، والمحافظة عليها أن لا تضيع عن مواقيتها.
قلت: الدوام يشمل المحافظة على أدائها وعدم الانشغال عنها. وأما المحافظة عليها فيضم مراعاة إسباغ الوضوء لها وإقامتها في مواقيتها بأركانها وواجباتها ومستحباتها وآدابها. وقد افتتح الكلام بذكر الدوام على الصلاة واختتمه بذكر المحافظة عليها، ليدل على مكانتها في الإسلام وشرفها وعلو قدر صاحبها.
وقوله تعالى: {أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ} . أي: هؤلاء الموصوفون بهذه الصفات والنعوت الرفيعة هم أهل الكرامة وحسن التكريم في الآخرة، ينعمون بأنواع الملاذ، وصنوف المسارّ، وألوان الكرامات.
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري وأبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يُنادي مُنَادٍ: إنَّ لكم أن تَصِحُّوا فلا تَسْقموا أَبَدًا، وإنَّ لكم أن تَحْيَوا فلا تموتوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تَشِبُّوا فلا تَهْرَمُوا أبدًا، وإنَّ لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا](1).
36 -
44. قوله تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)}.
في هذه الآيات: استنكارٌ على المشركين نفورهم من الحق وقد رأوا أمامهم تأييد اللَّه نبيّه بالنصر والمعجزات، وتوبيخٌ لهم في طمعهم بالجنان وهم باقون على الشرك
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (2837)، كتاب الجنة ونعيمها. باب في دوام نعيم أهل الجنة.
والموبقات، كلا فإن مآلهم إلى نار الجحيم والحميم والدركات.
فقوله تعالى: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} . قال قتادة: (عامدين). وقال ابن زيد: (المهطع: الذي لا يطرف. وكان بعض أهل المعرفة بكلام العرب من أهل البصرة يقول: معناه: مسرعين).
وعن الحسن: ({مُهْطِعِينَ} قال: منطلقين). والمعنى: فمال هؤلاء الكفار من قومك -يا محمد- مسرعين نافرين منك وهم مشاهدون لما أيدك اللَّه به من الآيات والمعجزات. كما قال تعالى: {فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ} [المدثر: 49 - 51].
وقوله تعالى: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} . أي متفرقين، واحِدها عِزَةٌ.
قال ابن عباس: ({فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ} قال: قَبِلك ينظرون، {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ}. قال: العزِين: العُصَبُ من الناس، عن يمين وشمال مُعرِضين يستهزئون به). وعن الحسن: ({عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} متفرقين، يأخذون يمينًا وشمالًا يقولون: ما قال هذا الرجل؟ ). وقال قتادة: ({عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ} أي: فِرَقًا حول النبي صلى الله عليه وسلم لا يَرغبون في كتاب اللَّه، ولا في نبيّه صلى الله عليه وسلم).
وفي صحيح مسلم عن جابر بن سمرة: [أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم خرجَ عليهم وهم حِلَقٌ، فقال: "ما لي أراكُم عِزينَ؟ "](1).
وقوله تعالى: {أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا} . قال ابن كثير (أي: أيطَمعُ هؤلاء، والحالةُ هذه من فرارهم عن الرسول ونِفَارهم عن الحق أن يدخلوا جناتِ النعيم؟ بل مأواهم نارُ الجحيم).
وقوله: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ} . قال قتادة: (إنما خُلِقْتَ من قَذرٍ يا ابن آدم، فاتق اللَّه). قال ابن جرير: (يقول جلّ وعزّ: إنا خلقناهم من منيّ قذر، وإنما يستوجب دخول الجنة من يستوجبه منهم بالطاعة، لا بأنه مخلوق، فكيف يطمعون في دخول الجنة وهم عصاة كفرة).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (430/ 119)، وأبو داود (4823)، والنسائي في "التفسير"(642)، وأخرجه الطبري (34965). وفيه حث على الاجتماع، ونهي عن الفرقة.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ} [المرسلات: 20].
2 -
وقال تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ} [الطارق: 5 - 10].
ومن كنوز صحيح السنة حديث رائع في ذكر هذه الآيات موضع التفسير:
فقد أخرج الحاكم في المستدرك، وأحمد في المسند، وابن ماجة مختصرًا، بإسناد صحيح -واللفظ للحاكم- عن جبير بن نفير، عن بسر بن جحاش القرشي قال:[تلا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ}، ثم بزق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم على كفّه فقال: يقول اللَّه: يا ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه، حتى إذا سَوَّيْتُكَ وعدَّلتك مشيت بين بردتين وللأرض منك وئيد -يعني شكوى- فجمعت ومنعت، حتى إذا بلغت التراقي قلت: أتصدق، وأنى أوان الصدقة؟ ! ](1).
قال القرطبي: ({فَلَا أُقْسِمُ} أي أقسم. و"لا" صلة. {بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ} هي مشارق الشمس ومغاربها. {إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ} يقول: نقدر على إهلاكهم والذهاب بهم، والمجيء بخير منهم في الفضل والطوع والمال. {وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ} أي لا يفوتنا شيء ولا يعجزنا أمر نريده).
وقوله تعالى: {فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ} . تهديد ووعيد.
أي: فاتركهم -يا محمد- يخوضوا في باطلهم ولهوهم وغرورهم، وانشغل أنت بما أمرت به من البلاغ وإقامة الدين الحق، فإن لهم يومًا يحاصرهم فيه العذاب ويدفعون ثمن الكبر والاستهتار غاليًا.
وقوله تعالى: {يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} .
(1) حديث صحيح. أخرجه الحاكم (2/ 502)، (2/ 323)، وأحمد (4/ 210)، وابن سعد (7/ 427)، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي، وقال البوصيري في "الزوائد" (ق 168/ 1):"إسناده صحيح، ورجاله ثقات". وقال الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (1143): (وهو كما قالوا).
أي: إنه اليوم الذي يخرجون فيه من قبورهم مسرعين، وذلك حين يسمعون الصيحة الآخرة إلى إجابة الداعي كأنهم إلى عَلم أو غاية يستبقون.
و{يَوْمَ} بدل من "يَوْمَهُم" الذي قبله، والأجداث: القبور، وهي: جمع جدث. و {سِرَاعًا} : أي مسرعين. وعن ابن عباس: ({إِلَى نُصُبٍ} إلى غاية، وهي التي تنصب إليها بصرك). وهناك قراءة مشهورة بفتح النون، أي:"نَصْبٍ". قال الكلبيّ: (إلى شيء منصوب، عَلَم أو راية).
والإيفاض الإسراع، فقوله:{يُوفِضُونَ} . أي: يُسرعون. قال قتادة: ({كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ} قال: إلى عَلَم يسعون). وقال أبو العالية: (إلى علامات يستبقون).
وقوله: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} قال ابن جرير: (يقول: خاضعة أبصارهم للذي هم فيه من الخزي والهوان {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} يقول: تغشاهم ذلة). والرَهَقُ: الغشيان. قال قتادة: (هو سواد الوجوه).
والمقصود: ذليلة أبصارهم في ذلك اليوم لما يتوقعونه من الخزي والهوان والعذاب.
وقوله: {ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ} . أي: ذلك هو اليوم الذي كانوا يوعدون في الدنيا أنهم ملاقوه، وأنه سيكون يوم شؤم عليهم، لما ينتظرهم فيه من العذاب والقصاص والنكال.
تم تفسير سورة المعارج بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه مساء يوم الثلاثاء 20 - شوال - 1426 هـ الموافق 22 - تشرين الثاني - 2005 م
* * *