الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
94 - سورة الشرح
وهي سورة مكية، وعدد آياتها (8).
موضوع السورة
انشِراحُ صدر النبي عليه الصلاة والسلام وإِتْباعُ اللَّه العسر باليسر والوصية بالتفرغ للعبادة والدعاء والقيام
-
منهاج السورة
-
1 -
تذكيرُ اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم ببعض نعمه عليه كشرح الصدر، ووضع الوزر، ورفع الذكر.
2 -
تقرير اللَّه تعالى سنة من سننه العظيمة، وهي: إنَّ مع العسر يسرًا.
3 -
الوصية بالتفرغ للعبادة والقيام والدعاء، بعد الفراغ من الجهاد والبلاغ والبلاء.
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
8. قوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)}.
في هذه الآيات: تذكير اللَّه تعالى نبيّه ببعض آلائه عليه، وإحسانه إليه، ليحضّه ذلك على المزيد من شكره، ويستوجب لديه الإكثار من حمده. وتقريره تعالى أن مع العسر يسرًا، وأن بعد الضيق فرجًا. فإذا حصل الفراغ من الجهاد والبلاغ والبلاء، فالخير كل الخير في التفرغ للعبادة والقيام والدعاء.
فقوله تعالى: {أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ} . امتنان من اللَّه تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم. قال ابن جرير: ({أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ} يا محمد، للهدى والإيمان بِاللَّه ومعرفة الحق {صَدْرَكَ} فنلين لك قلبك، ونجعله وعاءً للحكمة). وقال ابن كثير: (يعني أما شرحنا لك صدرك؟ أي نوّرناه وجعلناه فسيحًا رحيبًا واسعًا كقوله: {فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ}، وكما شرحَ اللَّه صدره كذلك جعَلَ شرْعَه فسيحًا واسعًا سمْحًا سهلًا لا حَرَجَ فيه ولا إِصْرَ ولا ضيق).
قلت: والشَّرْحُ في لغة العرب الكَشْف، تقول: شرحَ الغامضَ أي فسَّره، وشرحُ الصدر فتحه وتليينه، ومنه قول ابن عباس:({أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ}: ألم نُلين لك قلبك). والمراد: قد شرحنا صدرك يا محمد لقبول النبوة، وملأناه حكمًا وعلمًا، لتقوم بأعباء الوحي وبلاغ النبوة.
وقد أخرج الترمذي -في كتاب التفسير عند هذه الآية- بإسناد صحيح عن مالك بن صعصعة: [أنّ نبيَّ اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "بَيْنَما أنا عند البَيْتِ بَيْنَ النائم واليَقْظانِ، إذ سَمِعْتُ قائلًا يقولُ: أَحَدٌ بَيْنَ الثلاثَةِ، فأتُيتُ بِطَسْتٍ من ذهب، فيها ماء زَمْزَمَ، فشُرحَ صَدْري إلى كذا كذا". قال قتادة: قلت لأنس ما يعني؟ قال: إلى أسفل بطني، قال: "فاسْتُخْرِجَ
قلبي فَغُسِل قلبي بماء زَمْزم، ثم أعيدَ مكانَهُ، ثم حُشِيَ إيمانًا وحِكْمةً"] (1).
ولا شك أن حدث شقّ صدره في طفولته صلى الله عليه وسلم ثم ليلة الإسراء كما ذُكر في السيرة العطرة داخل في مفهوم هذه الآية، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} . قال مجاهد: (ذَنْبَك). والوِزْر: الذنب. والمقصود: حططنا عنك ما سلف منك من زلل في الجاهلية. كما قال تعالى: {لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2]. قال النسفي: ({وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ} وخففنا عنك أعباء النبوة والقيام بأمرها. وقيل هو زلة لا تعرف بعينها وهي ترك الأفضل مع إتيان الفاضل، والأنبياء يعاتبون بمثلها، ووضعه عنه أن غفر له. والوزر: الحمل الثقيل).
وقوله تعالى: {الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ} . أي الذي أثقل ظهرك. والإنقاض: الصوت. والمقصود: لو كان حملًا يحمل لسمع نقيض ظهره من ثقل حمله.
وقوله تعالى: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} . أي: في الدنيا والآخرة. قال مجاهد: (لا أُذكر إلا ذُكِرْتَ معي: أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه). وقال قتادة: (رفع اللَّه ذكره في الدنيا والآخرة، فليس خطيب، ولا متشهد، ولا صاحب صلاة، إلا ينادي بها، أشهد أن لا إله إلا اللَّه، وأشهد أن محمدًا رسول اللَّه).
ورُوي عن الضحاك عن ابن عباس، قال:(يقول له لا ذُكِرتُ إلا ذُكِرتَ معي في الأذان، والإقامة والتشهد، ويوم الجمعة على المنابر، ويوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيام التشريق، ويوم عرفة، وعند الجِمار، وعلى الصفا والمروة، وفي خطبة النكاح، وفي مشارق الأرض ومغاربها).
وقوله تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} . إخبار من اللَّه تعالى أن اليسر يعقب العسر، ثم أكّد ذلك أروع التأكيد. قال مجاهد:({إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}: يتبع اليسرُ العسرَ). وفي الأثر عن عبد اللَّه بن مسعود قال: (لو دخل العسر في حُجْر، لجاء اليسر حتى يدخل عليه، لأن اللَّه يقول: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا}). وفي رواية: (والذي نفسي بيده، لو كان العسر في حُجْر، لطلبه اليسر حتى يدخل عليه، ولن يغلب عسر يسرين).
(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2666) - كتاب التفسير - سورة {أَلَمْ نَشْرَحْ} . والحديث أصله في الصحيحين، وفيه قصة طويلة -ليلة الإسراء-.
وكتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعًا من الروم، وما يُتَخَوّف منهم، فكتب إليه عمر رضي الله عنهما:(أما بعد، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من مَنزِل شدّة، يجعل اللَّه بعده فرجًا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن اللَّه تعالى يقول في كتابه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)} [آل عمران: 200]).
والمقصود بالآيات: تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من أذى قومه وتكذيبهم، فإن مع الشدة التي أنت فيها -يا محمد- من جهاد هؤلاء المشركين وما في طريق الدعوة من عقبات وآلام، رجاء وفرجًا، ونصرًا قريبًا، وظفرًا مؤكدًا. وهو خطاب يمضي عبر الزمان يحمل الأمن والطمأنينة وبشائر النصر لرجال هذا الدين وعلمائه الذين يقارعون مناهج الكفر والطغيان في الأرضن حتى يُعْبدَ اللَّه تعالى وحده، ويُحكم بشرعه ويعلو منهاجه فوق كل مناهج الدنيا.
أخرج البزار في "مسنده"، وابن عدي في "الكامل"، بإسناد حسن في الشواهد، عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ المَعُونَةَ تأتي مِنَ اللَّه على قَدْرِ المُؤْنة، وإن الصبرَ يأتي من اللَّه على قدْرِ البلاء](1). والمؤنة والمؤونة: القوت.
وأخرج الخطيب في "التاريخ"، والديلمي بإسناد جيد، عن أنس مرفوعًا:[النَّصْرُ مع الصَّبرِ، والفرجُ مع الكَرْبِ، وإنَّ مع العُسْرِ يُسْرًا، وإنَّ مع العُسْر يُسْرًا](2).
ومما يُروى عن الشافعي أنه قال:
صبرًا جميلًا ما أقْرَبَ الفَرجا
…
من راقَبَ اللَّه في الأمور نجَا
مَن صدّق اللَّه لم ينلْه أذى
…
ومَنْ رَجَاه يكونُ حَيْثُ رجَا
وقال ابن دُرَيد: أنشدني أبو حاتم السِّجستاني:
إذا اشتملت على اليأس القلوبُ
…
وضاقَ لما به الصدرُ الرحيبُ
وأوطأتِ المكاره واطمأنَّت
…
وَأَرستْ في أماكِنها الخُطوبُ
(1) حديث حسن. أخرجه البزار في المسند (ص 136 - زوائد ابن حجر)، وابن عدي في "الكامل"(1/ 206)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1664).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الخطيب في "التاريخ"(10/ 287)، والديلمي (4/ 111 - 112)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة -حديث رقم- (2382).
ولم ترَ لانكشاف الضرِّ وجهًا
…
ولا أغنى بحيلَتِه الأريب
أتاك على قُنوطٍ منك غَوثٌ
…
يَمُنُّ به اللطيف المُسْتجيبُ
وكل الحادثات إذا تناهتْ
…
فموصول بها الفرجُ القريبُ
وقال آخر:
ولرُبَّ ضائقة يضيق بها الفتى
…
ذَرْعًا، وعند اللَّه منها المَخْرجُ
ضاقت فلما استحكمت حلقاتها
…
فُرِجت، وكان يظنها لا تُفْرَجُ
وقال الشيخ خير الدين وانلي رحمه الله:
صَبَرَ الصحابةُ في الحروب يقودهم
…
خيرُ الرجالِ وسيِّدُ الشُّجعان
حتى تقوَّضَتِ الشرور وزُلزلتْ
…
أركانُ شركٍ عمَّ كالطوفانِ
وتحرّر البيت الحرامُ وحُطِّمَتْ
…
أصنامُهُ فهوتْ على الأذقان
ورقى بلالٌ بالأذان مكبِّرًا
…
اللَّه أكبرُ واحدٌ لا ثانِ
نَصْرٌ من اللَّه العزيز لجندِه
…
والخِزيُ للطاغوتِ والشيطان
واللَّه ينصرُ ناصرًا لكتابهِ
…
مُتَدَرِّعًا بالصبر والإيمان
لا يستحِقُّ النصرَ إلا صابرٌ
…
ويبوءُ بالخُسْرانِ كُلُّ جَبانِ
اليُسْرُ يأتي بعدَ كلّ عَسيرة
…
والنصرُ بعدَ النصرِ في المَيْدانِ
وقوله تعالى: {فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} . أي: فإذا فرغت من جهاد عدوك، أو من بلاغ دعوتك، أو من سفرك وما شَغَلَكَ، فاجتهد بدعائك وعبادتك، وتفرّغ إلى ربك. والخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو إلى جميع أمته من بعده. فعن ابن عباس:({فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ} يقول: في الدعاء). وقال أيضًا: (يقول: فإذا فرغت مما فرض عليك من الصلاة فسل اللَّه، وارغب إليه، وانصب له). وقال الحسن: (أمره إذا فرغ من غزوه، أن يجتهد في الدعاء والعبادة). وقال ابن زيد عن أبيه: (فإذا فرغت من الجهاد، جهاد العرب، وانقطع جهادهم، فانصب لعبادة اللَّه {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ}).
وقال مجاهد: (إذا فرغت من أمر الدنيا فانصب، قال: فصلِّ). وقال: (إذا فرغت من أمر الدنيا، وقمت إلى الصلاة، فاجعل رغبتك ونيتك له).
قلت: ونَصَبَ الشيء -في لغة العرب- أقامه، ونَصِبَ: تَعِب. والمقصود: إذا فرغت من الموانع والعوائق فارجع لإقامة ما شُغلت عنه واجتهد في الذكر وطلب العلم
والإعداد وألوان العبادة التي تحتاجها لنفير آخر، وموقف قادم، ومشهد من مشاهد الملاحم.
أخرج الترمذي وابن ماجة وابن حبان بسند صحيح عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ اللَّه يقول: يا ابن آدم تفرَّغ لعبادتي أملأ صدرك غنًى، وأسُدَّ فقرك، وإن لا تفعل ملأت يديك شغلًا، ولم أسُدَّ فقرك](1).
وله شاهد أخرجه الحاكم بسند صحيح عن معقل بن يسار رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه: [يقول ربكم تبارك وتعالى: يا ابن آدم! تفرّغ لعبادتي أملأ قلبك غنى، وأملأ يديك رزقًا. يا ابن آدم! لا تباعدْ مني فأملأ قلبك فقرًا، وأملأ يديك شغلًا](2).
وقوله تعالى: {وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ} . قال مجاهد: (اجعل نيتك ورغبتك إلى اللَّه). والمقصود: فإذا فرغت من الموانع فانصب إلى الصلاة والذكر والدعاء، وأخلص رغبتك ونيتك إلى ربك عز وجل، فتضرّع إليه راهبًا من النار، راغبًا في الجنة، إنه تعالى قريب من أوليائه الصالحين، وهو الكريم المنعم البر الرحيم.
تم تفسير سورة الشرح بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه صبيحة يوم الجمعة 30 - ذي القعدة - 1426 هـ الموافق 30/ كانون الأول/ 2005 م
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3/ 308)، وابن ماجة (2/ 525)، وابن حبان (2477)، ورواه أحمد (2/ 358). وانظر: السلسلة الصحيحة (1359).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الحاكم (4/ 326)، وقال: صحيح الإسناد، ووافقه الذهبي. وهو كما قالا. ويصلح شاهدًا للحديث الذي قبله.