الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
63 - سورة المنافقون
وهى سورة مدنية، وعدد آياتها (11).
أخرج البخاري ومسلم عن زيد بن أرقم قال: [كُنْتُ في غَزَاة فسَمِعْتُ عبدَ اللَّه بن أُبيّ يقول: لا تُنْفِقُوا على من عند رسول اللَّه حتى يَنْفَضُّوا من حَوْلِهِ، ولئن رجعنا مِنْ عِنده لَيُخرجَنَّ الأعزّ منها الأذلّ، فذكرت ذلك لعمي أو لِعُمَر فَذَكرَهُ للنبي صلى الله عليه وسلم فَدَعاني فَحَدَّثْتُهُ، فأرسلَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم إلى عبد اللَّه بن أُبيّ وأصحابِه فَحَلَفُوا ما قالوا، فَكَذَّبني رسولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم وصَدَّقَهُ، فأصابني هَمٌّ لَمْ يُصِبْني مِثْلُهُ قَطُّ، فَجَلَسْتُ في البيتِ فقال لي عَمِّي: ما أرَدْتَ الى أن كَذَّبَكَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ومَقَتَكَ؟ فأنزل اللَّه تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ} فبعث إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ فقال: إنَّ اللَّهَ قَدْ صَدَّقَكَ يا زَيْدُ](1).
موضوع السورة
فضح المنافقين وكشف صفاتهم
-
منهاج السورة
-
1 -
فضحُ المنافقين في كذبهم وكفرهم بالدين، وضخامة أجسادهم وفصاحة أقوالهم لا تخدع أهل اليقين.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4900)، كتاب التفسير، وانظر كذلك (4901)، (4904)، وأخرجه مسلم (2772)، والترمذي (3312)، (3313).
2 -
المنافقون يحسبون كل صيحة عليهم، وهم العدو الذي يجب الحذر من مكرهم.
3 -
كَشْفُ استكبار المنافقين وزهدهم في مغفرة اللَّه الكريم، وتقرير اللَّه تعالى أن العزة له ولرسوله وللمؤمنين.
4 -
تحذير المؤمنين من سبيل النفاق والمنافقين، والأمر بالإنفاق في سبيل اللَّه لإعتاق النفوس من الجحيم.
5 -
لا يؤخر اللَّه نفسًا إذا جاء أجلها واللَّه خبير بما تعملون.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
4. قوله تعالى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)}.
في هذه الآيات: فضحُ اللَّه تعالى المنافقين، في شهادتهم وأيمانهم الكاذبة وهم يصدون عن سبيل اللَّه وعن رسوله الكريم، فلقد آمنوا ثم كفروا فهم لا يفقهون، ولهم أجساد مستوية وصور مهيبة وفصاحة في القول ولكن قلوبهم خاوية من الإيمان، ويحسبون كل صيحة عليهم من شدة جبنهم وخوفهم من أهل الإسلام، إنهم العدو الذي يجب الحذر منه فقاتلهم اللَّه من قوم لئام.
فقوله: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} . إِخْبَارٌ من اللَّه تعالى عن مجيء المنافقين إلى النبي صلى الله عليه وسلم يتفوّهون بالإسلام، ويشهدون بالرسالة للنبي عليه الصلاة والسلام، وليس الأمر كذلك في قلوبهم بل هم قوم منكرون. وقيل: معنى {نَشْهَدُ} نحلف، والأول أظهر.
وقوله: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} . جملة اعتراضية ضرورية للسياق. قال القرطبي: ({وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} كما قالوه بألسنتهم).
وقوله: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} . قال ابن كثير: (أي: فيما أخبروا به، وإن كان مطابقًا للخارج، لأنهم لم يكونوا يَعْتقِدون صحة ما يقولون ولا صِدْقَهُ، ولهذا كَذَّبهم بالنسبة إلى اعتقادهم).
وقوله: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً} . أي استتروا بالأحلاف الكاذبة، والأيمان: جمع
يمين. قال مجاهد: (يجتنّون بها، قال: ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا). قال قتادة: ({جُنَّةً}: سترة يستترون بها كما يستتر المستجنّ بِجُنّتِه في حرب وقتال، فيمنعون بها أنفسهم وذراريهم وأموالهم، ويدفعون بها عنها).
وقوله: {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} . أي فصدوا الناس عن الإسلام والجهاد، بالتنفير وإلقاء الشبه والاقتداء بهم في تخلّفهم. وقيل: صرفوا المؤمنين عن إقامة حكم اللَّه عليهم من القتل والسَّبي وأخذ الأموال.
وقوله: {إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} . قال النسفي: (من نفاقهم وصدّهم الناس عن سبيل اللَّه، وفي {سَاءَ} معنى التعجب الذي هو تعظيم أمرهم عند السامعين).
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا} . أي: أقروا باللسان ثم كفروا بالقلب. وفيه إثبات أن الذي استقر عليه أمر المنافقين هو الكفر. ولذلك قال بعدها {فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ} : أي ختم عليها بالكفر. قال قتادة: (أقروا بلا إله إلا اللَّه وأن محمدًا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وقلوبهم منكرة تأبى ذلك).
وقوله: {فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} . أي: الحق من الباطل، والمعروف من المنكر، لطبع اللَّه على قلوبهم وإقفالها. قال القاسمي:({فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} أي حقيقة الإيمان، وحمكة الرسالة والدين).
وقوله: {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ} . أي: وإذا نظرت -يا محمد- إلى هؤلاء المنافقين لأعجبتك أجسامهم لاستواء خلقها وحسن صورتها.
وقوله: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} . أي: كانوا ذوي فصاحة وبلاغة، فلو سمعهم السامع لأصغى إلى حديثهم لبلاغة ألسنتهم. قال ابن عباس:(كان عبد اللَّه بن أُبَيّ وسيمًا جسيمًا صحيحًا صبيحًا ذَلِقَ اللسان، فإذا قال سمع النبي صلى الله عليه وسلم مقالته. وصفه اللَّه بتمام الصورة وحسن الإبانة).
وقوله: {كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ} . قال النسفي: (إلى الحائط، شُبِّهوا في استنادهم -وما هم إلا أجرام خالية عن الإيمان والخير- بالخشب المسندة إلى الحائط، لأن الخشب إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظان الانتفاع، وما دام متروكًا غير منتفع به أسند إلى الحائط، فشبهوا به في عدم الانتفاع، أو لأنهم أشباح بلا أرواح، وأجسام بلا أحلام).
قال سيبويه: (خَشبَة وخُشُب، مثل بدَنة وبدن). و {مُسَنَّدَةٌ} للتكثير، لكثرة استنادهم إلى الأيمان الكاذبة لحقن دمائهم.
وقوله: {يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ} . أي يظنون كلما وقع أمر أو حدث أو خوف أنه نازل بهم. قال القرطبي: (يحسبون كلّ صيحة عليهم أنه قد فُطِن بهم وعُلِمَ بنفاقهم، لأنّ للريبة خوفًا). وقال ابن جرير: (يقول جلّ ثناؤه: يحسب هؤلاء المنافقون من خبثهم وسوء ظنهم وقلة يقينهم، كلّ صيحة عليهم، لأنهم على وجل أن يُنزل اللَّه فيهم أمرًا يهتك به أستارهم ويفضحهم، ويبيح للمؤمنين قتلهم وسبي ذراريهم، وأخذ أموالهم).
وفي التنزيل نحو ذلك، قال تعالى:{أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [الأحزاب: 19].
وفي صحيح مسلم عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[مَثَلُ المنافق كَمَثَلِ الشاةِ العائِرة (1) بين الغنمين، تَعِير إلى هذه مرَّة، وإلى هذِه مرَّة](2).
وقوله: {هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ} . إثبات عداوتهم ووجوب الحذر منهم. وذلك من وجهين: الأول: الحذر من الميل إلى كلامهم أو تصديقهم أو الثقة بأقوالهم. الثاني: الحذر من تخذيلهم المؤمنين أو قيامهم عيونًا للكافرين يتجسّسون على أعراض المسلمين ومخططاتهم ومناهجهم وتحركاتهم.
وقوله: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} . كلمة ذمّ وتوبيخ. قال ابن عباس: (أي لعنهم اللَّه). وقيل: بل المعنى أخزاهم اللَّه. قال النسفي: ({قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} دعاء عليهم، أو تعليم للمؤمنين أن يدعو عليهم بذلك).
وقوله: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} . أي: كيف يصرفون عن الهدى إلى الضلال، وكيف يعدلون عن الحق إلى الجهل والمكر.
(1) العائرة: المترددة، الحائرة لا تدري أيهما تتبع وكيف تتوجه، ومعنى تعير أي تتردد وتذهب.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (2784)، كتاب صفة المنافقين وأحكامهم. وفي رواية للحديث:"تَكِرُّ في هذه مرّة، وفي هذه مرّة".
5 -
8. قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)}.
في هذه الآيات: كَشْفُ استكبار المنافقين وزهدهم في نيل المغفرة وتوعُّد اللَّه لهم الحرمان من المغفرة والخذلان. وتقرير اللَّه تعالى أن العزة له ولرسوله وللمؤمنين وأن الذلة على القوم المنافقين اللئام.
فقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: وإذا قيل لهؤلاء المنافقين: تعالوا إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يستغفر لكم {لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ} يقول: حرّكوها وهزّوها استهزاء برسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وباستغفاره).
وقوله: {وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ} . قال القرطبي: (أي يعرضون عن الرسول متكبرين عن الإيمان).
قال النسفي: (أي ماداموا على النفاق. والمعنى: سواء عليهم الاستغفار وعدمه لأنهم لا يلتفتون إليه ولا يعتدون به لكفرهم، أو لأن اللَّه لا يغفر لهم).
وقوله: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ} . أي إن اللَّه لا يوفق ولا يصلح من سبق في علم اللَّه أنه سيموت فاسقًا.
وقوله: {هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا} . أي: حتى يتفرّقوا عنه. قال ابن عباس: (لا تطعموا محمدًا وأصحابه حتى تصيبهم مجاعة، فيتركوا نبيهم) -وهو قول عبد اللَّه بن أبيّ المنافق لأصحابه-.
أخرج الترمذي وأحمد وابن جرير بسند صحيح عن الحكم قال: سمعت محمد بن كعب القرظي قال: سمعت زيد بن أرقم رضي اللَّه قال: [لما قال عبد اللَّه بن أبيّ: {لَا
تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ}، وقال أيضًا:{لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ} ، أخبرت به النبي صلى الله عليه وسلم فلَامني الأنصار، وحلف عبد اللَّه بن أبي ما قال ذلك، فرجعت إلى المنزل فنمت فدعاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فأتيته، فقال: إن اللَّه قد صدقك، ونزل بهم:{هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا} الآية] (1).
وقد جاء في رواية أخرى عند الترمذي تفصيل كامل الحدث -من حديث زيد بن أرقم قال: [غزونا مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، وكان معنا أناس من الأعراب، فكنا نبتدر الماء، وكان الأعراب يسبقونا إليه، فسبق أعرابي أصحابه، فيسبق الأعرابي فيملأ الحوض ويجعل حوله حجارة، ويجعل النطع عليه، حتى يجيء أصحابه، قال: فأتى رجل من الأنصار أعرابيًا فأرخى زمام ناقته لتشرب فأبى أن يدعه، فانتزع قباض الماء فرفع الأعرابي خشبة، فضرب بها رأس الأنصاري فشجّه. فأتى عبد اللَّه بن أبي -رأس المنافقين- فأخبره، وكان من أصحابه. فغضب عبد اللَّه بن أبي ثم قال: لا تنفقوا على من عند رسول اللَّه، حتى ينفضوا من حوله -يعني الأعراب- وكانوا يحضرون رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عند الطعام.
فقال عبد اللَّه: إذا انفضوا من عند محمد، فأتوا محمدًا بالطعام، فليأكل هو ومن عنده.
ثم قال لأصحابه: لئن رجعنا إلى المدينة فليخرج الأعزُ منكم الأذل. قال زيد: وأنا ردف رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فسمعت عبد اللَّه بن أبي فأخبرت عمي، فانطلق فأخبر رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، فأرسل إليه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فحلف وجحد، قال: فصدقه رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكذبني، قال: فجاء عمي إلي فقال: ما أردت إلى أن مقتك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وكذبك والمسلمون، قال: فوقع علي من الهمّ ما لم يقع على أحد، قال: فبينما أنا أسير مع رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في سفر قد خفقت برأسي من الهم، إذ أتاني رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فعرك أذني وضحك في وجهي، فما كان يسرني أن لي بها الخلد في الدنيا.
ثم إن أبا بكر لحقني فقال: ما قال لك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ قلت: ما قال لي شيئًا، إلا أنه عرك أذني وضحك في وجهي. فقال: أبشِر. ثم لحقني عمر، فقلت له مثل قولي
(1) حسن صحيح. أخرجه الترمذي في الجامع -حديث رقم- (3312) - كتاب التفسير، ورواه أحمد في المسند (4/ 369 - 373). ورواه ابن جرير. وانظر صحيح سنن الترمذي عقب الحديث (2640)، وكذلك صحيح البخاري (4902).
لأبي بكر، فلما أصبحنا قرأ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم سورة المنافقين] (1).
وقوله: {وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} . ردٌّ من اللَّه على المنافقين، أَنّ بيده تعالى مفاتيح خزائن السماوات والأرض، فهو ينفق كيف يشاء، ولا يقدر أحد أن يعطي أحدًا شيئًا إلا بمشيئته.
وقوله: {وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ} - أنّ الأمر كذلك، وأنه إذا أراد شيئًا يَسَّره.
وقوله: {يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ} .
أخرج البخاري ومسلم عن جابر بن عبد اللَّه الأنصاري قال: [كنّا في غزاة، فكسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار -أي ضربه برجله-، فقال الأنصاري: يا للأنصار. وقال المهاجري: يا للمهاجرين. فسمع ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال: ما بال دعوى جاهلية. قالوا: يا رسول اللَّه! كسع رجل من المهاجرين رجلًا من الأنصار. فقال: دعوها فإنها منتنة، فسمع بذلك عبد اللَّه بن أبي فقال: فعلوها؟ أما واللَّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقام عمر فقال: يا رسول اللَّه دعني أضرب عنق هذا المنافق. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه لا يتحدّث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه. وكانت الأنصار أكثر من المهاجرين حين قدموا المدينة، ثم إن المهاجرين كثروا بعد](2).
ورواه الترمذي وفيه زيادة: [وقال غير عمر: فقال له ابنه عبد اللَّه بن عبد اللَّه: واللَّه لا تنقلب حتى تُقِرَّ أَنّك الذليل، ورسول اللَّه صلى الله عليه وسلم العزيز ففعل](3).
ورواه ابن إسحاق، وفيه: (فقال عمر: مُرْ به عبّاد بن بشر فليقتله، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه! لا، ولكن أذّن بالرحيل، وذلك في ساعة لم يكن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس. قال: فلما استقل رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم وسار، لقيه أُسيد بن حُضير، فحيّاه بتحية النبوة وسلّم عليه، ثم قال: يا نبي اللَّه، واللَّه لقد رُحْتَ في ساعة مُنْكَرة، ما كنت تروح في مثلها، فقال له رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: أو ما بَلَغَكَ ما قال صاحبكم؟ قال: وأيّ صاحب يا رسول اللَّه؟
(1) صحيح الإسناد. أخرجه الترمذي في "التفسير" - سورة المنافقين. انظر صحيح الترمذي (2640).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح -حديث رقم- (4905) - كتاب التفسير. وأخرجه مسلم في الصحيح (2584) - كتاب البر والآداب والصلة.
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح سنن الترمذي (2641)، كتاب التفسير، سورة المنافقين.
قال: عبد اللَّه بن أبي. قال: وما قال؟ قال: زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليُخرجن الأعز منها الأذل. قال: فأنت يا رسول اللَّه واللَّه تُخْرِجه منها إن شئت، هو واللَّه الذليل وأنت العزيز، ثم قال: يا رسول اللَّه، ارفق به، فواللَّه لقد جاءنا اللَّه بك، وإن قومَهُ ليَنْظُمون له الخرَزَ ليتوّجوه، فإنه ليرى أنك قد استلبتَهُ مُلكًا.
ثم مشى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بالناس يومَهُم حتى أمسى، ولَيْلَتَهُم حتى أصبح، وصَدْرَ يومهم ذلكَ حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وَجدوا مسّ الأرض فوقعوا نيامًا، وإنما فعل ذلك رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس من حديث عبد اللَّه بن أبي) (1).
وقوله: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ} . أي: وللَّه {الْعِزَّةُ} يعني الشدة والقوة، وكذلك لرسوله وللمؤمنين باللَّه، ولكن المنافقين لا يعلمون ذلك.
9 -
11. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)}.
في هذه الآيات: تحذيرُ اللَّه تعالى المؤمنين من سبيل النفاق والمنافقين، والأمر بالإنفاق في سبيل اللَّه لإعتاق النفوس من الجحيم، ولا يؤخر اللَّه نفسًا إذا جاء أجلها واللَّه بكل شيء عليم.
فعن الضحاك: (قوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} قال: الصلوات الخمس). وقيل: {عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} أي عن الحج والزكاة. وقيل: عن قراءة القرآن. وقيل: عن إدامة الذكر. وقال الحسن: (جميع الفرائض، كأنه قال عن طاعة اللَّه). وهذا القول يشمل جميع ما قبله.
(1) انظر سيرة ابن هشام (2/ 290 - 292) وهو حديث رجاله ثقات لكنه مرسل، وله شاهد مرسل جيد من طريق عروة عند ابن أبي حاتم، فيكون حسنًا لغيره مع أصله الذي مضى في الصحيحين. انظر كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين (2/ 847).
وقوله: {وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} . قال ابن جرير: (ومن يلهه ماله وأولاده عن ذكر اللَّه {فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} يقول: هم المغبونون حظوظهم من كرامة اللَّه ورحمته تبارك وتعالى.
وقوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ} . قال الضحاك، عن ابن عباس قال:(ما يمنع أحدكم إذا كان له مال يجب عليه فيه الزكاة أن يزكي، وإذا أطاق الحج أن يحج من قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربه الكرّة فلا يعطاها، فقال رجل: أما تتقي اللَّه، يسأل المؤمن الكرّة؟ قال: نعم، أقرأ عليكم قرآنًا، فقرأ: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ} فقال الرجل: فما الذي يوجب عليَّ الحج؟ قال: راحلة تحمله، ونفقة تبلغه).
وعن سفيان: (قوله: {فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ}: الزكاة والحج).
قلت: والآية عامّة في الحثّ على الإنفاق في الطاعات، فكل مُفَرِّط يندم عند الاحتضار، ويسأل الزيادة في العمر ويتمنى الرجعة ليستعتب مما فات، ويتدارك نفسه قبل أن يصير في الأموات، ولكن هيهات هيهات، فقد كان ما كان وأتى ما هو آت.
قال الحافظ أبو القاسم الطَّبراني: حدثنا أحمد بن عبد الوهاب بن نَجْدَة الحَوْطِيُّ، حدثنا المغيرة، حدثنا حَريزُ بن عثمان، عن نُعَيم بن نَمْحَة قال: كان في خُطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه: (أما تعلَمون أنكم تَغْدون وتَروحون لأجل معلوم. فمن استطاعَ أن يقضِيَ الأجل وهو في عَمَلِ اللَّه عز وجل فليفعَلْ، ولن تنالوا ذلك إلا باللَّه عز وجل، إن قومًا جَعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم اللَّه أن تكونوا أمثالهم:{وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ} [الحشر: 19]، أينَ مَنْ تَعْرِفون مَن إخوانكم؟ قدِموا على ما قدّموا في أيام سَلَفِهم، وخَلُّوا بالشِّقوة والسعادة، أين الجبّارون الأوّلون الذي بَنَوا المدائنَ وحَفَّفُوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصَّخرِ والآبار. هذا كتاب اللَّه لا تفنى عجائبُه فاستضِيئوا منه ليوم ظُلمَةٍ، واستنصحوا كتابه وتبيانه، إِن اللَّه أثنى على زكريا وأهل بيته فقال:{كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ} [الأنبياء: 90]، لا خيرَ في قول لا يُراد به وجهُ اللَّه، ولا خير في مالٍ
لا يُنفَقُ في سبيل اللَّه. ولا خيرَ فيمن يغلِب جهلُه حلمَه، ولا خير فيمن يخاف في اللَّه لومةَ لائم) (1).
وأما الكفار، فإنهم يرجون الرجعة إلى الدنيا عند الاحتضار، ليؤمنوا باللَّه ويصدقوا الرسل ويعملوا بعمل الأبرار. قال تعالى:{وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ} [إبراهيم: 44].
وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} [المؤمنون: 99 - 100].
وقوله تعالى: {وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} .
قال ابن جرير: (لن يؤخر اللَّه في أجل أحد فيمدّ له فيه إذا حَضَرَ أجله، ولكن يخترمه {وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} يقول: واللَّه ذو خبرة وعلم بأعمال عبيده هو بجميعها محيط، لا يخفى عليه شيء، وهو مجازيهم بها، المحسن بإحسانه، والمسيء بإساءته).
تم تفسير سورة "المنافقون"، بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه عصر الثلاثاء 29 رمضان 1426 هـ الموافق 1/ تشرين الثاني/ 2005 م
* * *
(1) إسناد جيد. ورجاله كلهم ثقات، ولهذه الخطبة شواهد. وقد ذكرها الحافظ ابن كثير في "التفسير" - سورة الحشر، آية (19)، وقال: هذا إسناد جيد.