الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
75 - سورة القيامة
وهي سورة مكية، وعدد آياتها (40).
قال المهايميّ: (سميت به لتضمنها غاية تعظيم ذلك اليوم، من لا يتناهى ثوابه وعقابه، بحيث تتحسَّر فيه كل نفس من تقصيرها، وإن عملت ما عملت).
موضوع السورة
أحوال الناس عند الاحتضار وأهوال القيامة والحساب والانتظار
-
منهاج السورة
-
1 -
إثبات اللَّه تعالى المعاد، وتأكيد بعث الأجساد.
2 -
ذكر أهوال القيامة قبل الحساب، ومعرفة الإنسان بنفسه واستحقاقه الثواب أو العقاب.
3 -
تكفُّلُ اللَّه تعالى تثبيت القرآن في قلب نبيه عليه الصلاة والسلام، والناس في لهو وغفلة عن هول يوم الزحام.
4 -
الوجوه يوم القيامة إما ناضرة وهي وجوه المؤمنين، أو باسرة وهي وجوه الكافرين.
5 -
الإخبار عن حالة الإنسان عند الاحتضار، وما يرافق ذلك من تقلب الأحوال، وإلى اللَّه المرجع في النهاية والمآل.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
15. قوله تعالى: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)}.
في هذه الآيات: إثباتُ اللَّه تعالى المعاد، وتأكيد بعث الأجساد، وذِكْرُ أهوال القيامة قبل الحساب، ومعرفة الإنسان بنفسه وأعماله واستحقاقه الثواب أو العقاب.
فقوله: {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} . قيل: {لَا} صلة، وقيل:{لَا} توكيد للكلام:
أ - قال سعيد بن جبير: ({لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} قال: أقسم بيوم القيامة).
ب - قال أبو بكر بن عياش: (قوله {لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} توكيد للقسم، كقوله لا واللَّه).
والمقصود: إثبات المعاد، والردّ على منكري بعث الأجساد.
وقوله تعالى: {وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} . قال الحسن: (أقسم بيوم القيامة، ولم يُقسم بالنفس اللوامة). وقال قتادة: (بل أقسم بهما جميعًا). قلت: والصحيح أنه أقسم بهما تعالى جميعًا، وهو اختيار شيخ المفسرين الإمام ابن جرير رحمه الله.
وعن سعيد بن جبير: ({وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ} قال: تلوم على الخير والشر). وقال مجاهد: (تندَّم على ما فات وتلوم عليه). وقال الحسن البصري: (إن المؤمن -واللَّه- ما نراه إلا يلومُ نفسَه: ما أردتُ بِكلمتي؟ وما أردتُ بأكلتي؟ ما أردتُ بحديثِ نفسي؟ وإن الفاجر يمضي قُدُمًا ما يُعاتِبُ نفسه).
قال القاشانيّ: (جمع بين القيامة والنفس اللوامة، في القسم بهما، تعظيمًا لشأنهما، وتناسبًا بينهما. إذ النفس اللوامة، هي المصدقة بها، المقرّة بوقوعها، المهيئة لأسبابها، لأنها تلوم نفسها أبدًا في التقصير، والتقاعد عن الخيرات، وإن أحسنت، لحرصها على الزيادة في الخير، وأعمال البر، تيقُّنًا بالجزاء، فكيف بها إن أخطأت وفرطت وبدرت منها بادرة غفلة ونسيانٍ).
وقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: أيَظُنُّ ابن آدم أن لن نقدر على جمع عظامه بعد تفرّقها؟ ).
وقوله تعالى: {بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} . البنان: الأصابع، واحدها بنانة. أي: بلى قادرين على ما هو أعظم من ذلك: أن نسوي أصابع يديه ورجليه لتصبح شيئًا واحدًا كخفّ البعير أو حافر الحمار، فإذا هو يأكل بفيه كسائر البهائم. قال ابن عباس:({بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ} قال: لو شاء لجعله خفًا أو حافرًا). وقال الحسن: (جعلها يدًا، وجعلها أصابع يقبضهنّ ويبسطهنّ، ولو شاء لجمعهُنّ، فاتقيت الأرض بفيك، ولكن سوّاك خلقًا حسنًا).
و{قَادِرِينَ} حال من الفاعل المضمر في الفعل المحذوف. قال سيبويه: (على معنى نجمعها قادرين). وقيل: بل المعنى نقدر قادرين، أو نقوى قادرين - حكاه الفرّاء.
وقوله تعالى: {بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} . فيه أقوال متقاربة:
1 -
قال ابن عباس: (يعني الأمل، يقول الإنسان: أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة. ويقال: هو الكفر بالحق بين يدي القيامة). وقال: ({لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} قال: يمضي قدمًا). وقال سعيد بن جبير: ({لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ} قال: سوف أتوب).
2 -
وقال عبد الرحمن بن زيد: (يعني الكافر يكذّب بما أمامه من البعث والحساب).
3 -
وقال مجاهد: ({لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ}: يمضي أمامه راكبًا رأسه). وقال الحسن: (لا تلقى ابن آدم إلا تنزع نفسه إلى معصية اللَّه قُدُمًا قُدُمًا، إلا من قد عصم اللَّه). وقال: (قدُمًا في المعاصي). وقال عكرمة: (قدمًا لا ينزع عن فجور).
4 -
وقال الضحاك: (هو الأمل، يؤمل الإنسان: أعيش وأصيب من الدنيا كذا، وأصيب كذا، ولا يذكر الموت).
وقوله تعالى: {يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ} . أي يسأل: متى يوم القيامة؟ سؤال استبعاد واستهزاء، أو تسويفًا منه للتوبة.
وقوله تعالى: {فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ} . قال ابن عباس ومجاهد: (هذا عند الموت).
وقال الحسن: (هذا يوم القيامة). وقرأ نافع وأبان عن عاصم: "بَرَقَ" والمعنى: لمع البصر من شدة شخوصه، فتراه لا يطرِف. وقرأ الباقون بالكسر "بَرِق" والمعنى: تَحَيَّرِ فلم يطرِف. قال الفرّاء والخليل: (بَرِق: فزع وبُهِتَ وتحيَّر).
قلت: والمقصود تنبيه المستبعد للقيامة إلى معالم حدوثها: إنه انبهار الأبصار ولمعها وتحيّرها من شدة الشخوص للموت أو للبعث.
وقوله تعالى: {وَخَسَفَ الْقَمَرُ} . قال قتادة: (ذهب ضوؤه فلا ضوء له).
والمقصود: ذهب ضوؤه كله ولا يعود كما يعود إذا خسف في الدنيا.
وقوله تعالى: {وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ} . قال مجاهد: (كُوِّرا يوم القيامة).
والمقصود: ذهب ضوؤهما جميعًا، فتجمع الشمس والقمر فلا يكون هناك تعاقب ليل ونهار.
وقوله تعالى: {يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ} . قال ابن كثير: (أي: إذا عاينَ ابنُ آدم هذه الأهوالَ يومَ القيامة حينئذ يُريد أن يَفِرَّ ويقول: أينَ المَفَرُّ؟ أي: هل من مَلجأٍ أو موئِل؟ ).
وقوله تعالى: {كَلَّا لَا وَزَرَ} . قال ابن عباس: (يقول: لا حرز). وقال أيضًا: (يعني: لا حصن، ولا ملجأ). وقال الحسن: (يقول: لا جبل). والوزَرُ في لغة العرب: ما يُلجأُ إليه من حِصْنٍ أو جبل أو غيرهما. قال السدي: (كانوا في الدنيا إذا فزعوا تحصّنوا في الجبال، فقال اللَّه لهم: لا وزَرَ يعصمكم يومئذ مني).
والمقصود: ليس يومئذ فرار ينفع صاحبه، ولا شيء يلجأ إليه من حصن ولا جبل ولا معقل.
وقوله تعالى: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ} . قال قتادة: (أي المنتهى).
والمقصود: إلى ربك أيها الإنسان يومئذ المرجع والمنتهى والاستقرار، وهو الذي يقرّ جميع خلقه مقرهم.
وقوله تعالى: {يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ} . قال ابن عباس: (يقول: ما عمل قبل
موته، وما سنّ فعمل به بعد موته). وقال أيضًا:(يقول: بما قدّم من المعصية، وأخَّر من الطاعة، فينبأ بذلك). وقال مجاهد: (بأول عمله وآخره).
وقال قتادة: ({يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ} من طاعة اللَّه {وَأَخَّرَ} مما ضَيَّعَ من حق اللَّه). أو قال: (بما قدّم من طاعته، وأخَّر من حقوق اللَّه).
والمقصود: يَخْبَرُ العبد يومئذ بجميع أعماله قديمها وحديثها، أولها وآخرها، صغيرها وكبيرها، مقطوعها ومستمرها، كما قال سبحانه:{وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} [الكهف: 49].
وقوله تعالى: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} .
أي: بل الإنسان يعرف ما هو عليه من إيمان أو كفر، وطاعة أو معصية، واستقامة أو اعوجاج، ولو اعتذر وجادل عن نفسه لم ينفعه ذلك، فعليه من يكذّب عذره، وجوارحه ستكون عليه شاهدة يوم الحساب.
فعن ابن عباس: ({بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ} يقول: الإنسان شاهد على نفسه وحده). وقال قتادة: (شاهد عليها بعملها). وقال سعيد بن جبير: (شاهد على نفسه ولو اعتذر). وعن مجاهد: (قوله: {بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} قال: ولو جادل عنها، فهو بصير عليها). وقال السدي:({وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} ولو أرخى الستور، وأغلق الأبواب). وقال الحسن: ({وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ} لم تقبل معاذيره).
وفي التنزيل:
1 -
قال تعالى: {اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا} [الإسراء: 14].
2 -
وقال تعالى: {يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النور: 24].
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [ثم يلقى الثالث فيقول له مثل ذلك (1)، فيقول: يا رب آمنتُ بك وبكتابك وبرسلك، وصَلّيت وصُمْتُ وتَصَدَّقْتُ، ويُثَنّي بخير ما استطاع، قال: فيقول: هاهنا إذن. قال: ثم يقال له: الآن نبعث شاهدنا عليك، ويتفكَّر في نفسه من ذا الذي يشهد عليّ؟ فَيُخْتَم على فيه، ويقال لفخذه ولحمه وعظامه: انطِقِي، فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بعمله، وذلك لِيُعْذِرَ من نفسه،
(1) أي يسأله اللَّه كما سأل رجلين قبله: "ألم أكرمك وأسودك وأزوجك وأسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع"؟ وكانا أقرّا بذلك وأنكرا البعث ولقاء اللَّه. فقال لكل منهما: اليوم أنساك كما نسيتني.
وذلك المنافق، وذلك الذي يَسْخَطُ اللَّه عليه] (1).
16 -
25. قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)}.
في هذه الآيات: تكفُّلُ اللَّه تعالى تثبيت القرآن في قلب نبيّه عليه الصلاة والسلام، والناس في لهو وغفلة عن يوم الزحام، والوجوه يومئذ إما ناضرة وهي وجوه المؤمنين، أو باسرة وهي وجوه الكافرين.
فقوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} . قال سعيد بن جبير، عن ابن عباس:(أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا نزل عليه القرآن تعَجَّل يريد حفظه). قال سعيد: (يحرّك شفتيه ليحفظه). وقال ابن عباس: (كان يحرك به لسانه وشفتيه، فيشتد عليه، فكان يعرف ذلك فيه). وقال قتادة: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرك به لسانه مخافة النسيان، فأنزل اللَّه ما تسمع). وقال الحسن: (كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحرك به لسانه ليستذكره، فقال اللَّه: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} إنا سنحفظه عليك).
وفي الصحيحين والمسند وجامع الترمذي عن سعيد بن جبير: [عن ابن عباس، في قوله تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ} قال: كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة، وكان مما يحرك شفتيه، فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يحركهما. وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما، فحرّك شفتيه، فأنزل اللَّه تعالى: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}. قال: جَمْعَهُ في صدرك ثمَّ تقرأَه. {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}. قال: فاستمع وأنصت. ثم إنَّ علينا أن تقرأه، قال: فكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بعد ذلك إذا أتاه جبريل استمع، فإذا انطلق جبريل قرأه النبي صلى الله عليه وسلم كما أقرأه](2).
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (8/ 216)، كتاب التوبة وقبولها وسعة رحمة اللَّه وغير ذلك. باب: تقرير النعم يوم القيامة على الكافر والمنافق. وانظر مختصر صحيح مسلم (1932).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4927)، (5044)، (7524)، ومسلم (448/ 147)، وأحمد (1/ 343) وإسناده على شرطهما. ورواه الترمذي (3329)، والنسائي في "التفسير"(654).
وروى البخاري في كتاب التفسير من صحيحه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: [كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحيُ حَرَّك به لسانَه يُريد أنْ يحفَظَهُ، فأنزل اللَّه: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ}](1). وفي رواية: [فقيل له: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ} - يخشى أن يتفلت منه].
وقوله تعالى: {إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ} . قال البخاري: قال ابن عباس: [{إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ}: أن نَجْمَعَهُ في صدرك {وَقُرْآنَهُ} أن تَقْرَأه](2).
وقوله تعالى: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} . قال ابن عباس: ({قَرَأْنَاهُ}: بَيّناه. {فَاتَّبِعْ}: اعْمَل به). ذكره البخاري في "كتاب التفسير" عند هذه الآية أول الباب.
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس: [{فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ}: فإذا أَنْزلْنَاهُ فاستمع {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} علينا أن نُبَيِّنَهُ بلسانِك. قال: فكان إذا أتاهُ جِبريلُ أطْرَقَ، فإذا ذهب قرأهُ كما وعَدَهُ اللَّه](3).
وقوله تعالى: {كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} . قال قتادة: (اختار أكثر الناس العاجلة، إلا من رحم اللَّه وعصم). قال النسفي: ({كَلَّا} ردع عن إنكار البعث أو ردع لرسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عن العجلة وإنكار لها عليه، وأكّده بقوله: {بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ} كأنه قيل: بل أنتم يا بني آدم لأنكم خلقتم من عجل وطبعتم عليه تعجلون في كل شيء، ومن ثم تحبّون العاجلة الدنيا وشهواتها {وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ} الدار الآخرة ونعيمها فلا تعملون لها).
وقوله تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ} . أي: ناعمة غضة حسنة مشرقة. قال مجاهد: (مسرورة). وقال: (الوجوه الحسنة. نضرة الوجوه: حُسنها. من السرور والنعيم والغبطة).
وقال ابن زيد: (الناضرة: الناعمة). قلت: والنَّضْرة في لغة العرب: الحُسْن والرَّوْنَق.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4927)، كتاب التفسير، سورة القيامة (آية: 16). وانظر كذلك الحديث (4928) - عند الآية (17).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4928)، كتاب التفسير، عند هذه الآية.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (4929)، كتاب التفسير، في ختام حديث في تفسير هذه الآيات من سورة القيامة:(16 - 19). وانظر مسند أحمد (1/ 343) نحوه.
وفي الحديث: [نَضَّرَ اللَّه امرأ سمع مقالتي فوعاها]: أي دعاء لوجهه بالنضارة. أي: نعَّمَهُ وحَسَّنه وزاده نورًا وإشراقًا وبهاء وجمالًا.
وقوله تعالى: {إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} أي: تنظر إلى ربها نظرًا. قاله عكرمة. وكان الحسن يقول: (نضرت وجوههم ونظروا إلى ربّهم). والآية في إثبات رؤية المؤمنين للَّه عز وجل يوم القيامة، وأما الكفار فيحرمهم ربهم من هذه النعمة العظيمة فلا يبصرون إلا ما يخزيهم.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ} [المطففين: 15].
قال الحاكم: حدثنا الأصم حدثنا الربيع بن سليمان قال: [حضرت محمد بن إدريس الشافعي وقد جاءته رقعة من الصعيد فيها: ما تقول في قول اللَّه عز وجل: {كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ}؟ فقال الشافعي: لما أن حُجب هؤلاء في السخط، كان في هذا دليل على أن أولياءه يرونه في الرضى]. وفي رواية: (ما حجب الفجار إلا وقد عَلِمَ أن الأبرار يرونه عز وجل.
2 -
وقال تعالى: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس: 26]. فالحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه اللَّه الكريم.
ففي صحيح مسلم عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا دخل أهل الجنة الجنة، يقول اللَّه تعالى: تريدون شيئًا أزيدكم؟ فيقولون: ألم تبيض وجوهنا؟ ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار! قال: فيرفَعُ الحجاب فينظرون إلى وجه اللَّه، فما أعطوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إلى ربهم، ثم تلا: {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}](1).
ومن كنوز السنة الصحيحة في مفهوم هذه الآية كذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم عن جرير بن عبد اللَّه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنكم سترون ربكم عيانًا. وفي رواية: كنا جلوسًا عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال: إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته، فإن استطعتم أن لا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا، ثم قرأ:
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (181)، والترمذي (2552)، وأخرجه أحمد (4/ 333).
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ} [ق: 39]] (1).
الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: [أنَّ أناسًا قالوا: يا رسول اللَّه! هل نرى ربنا يوم القيامة؟ قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: نعم. هل تضارون في رؤية الشمس بالظهيرة صَحْوًا ليس معها سحاب؟ وهل تضارون في رؤية القمر ليلة البدر صحْوًا ليس معها سحاب؟ قالوا: لا يا رسول اللَّه! قال: ما تضارون في رؤية اللَّه يوم القيامة إلا كما تضارون في رؤية أحدهما. .] الحديث (2).
الحديث الثالث: أخرج أحمد والشيخان من حديث أبي موسى الأشعري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم جلّ وعزَّ إلا رِداءُ الكبرياء على وجهه في جنة عدن](3).
وفي أفراد مسلم، عن جابر في حديثه:[إن اللَّه يتجلّى للمؤمنين يضحك](4).
يعني في عرصات القيامة. فالمؤمنون ينظرُون إلى ربهم عز وجل في العرصات، ثم في روضات الجنات.
وقوله تعالى: {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ} . قال مجاهد: (كاشرة). وقال قتادة: (أي كالحة). وقال ابن زيد: (عابسة). وقال السدي: (تُغَيَّر ألوانها).
وفي كلام العرب: بسَرَ الرجل وجهه، أي: كَلَحَ، ويقال: عَبَسَ وبَسَرَ.
والمقصود: تكون وجوه الفجار يوم القيامة مسودة كالحة متغيرة الألوان من هول ما توقن أنها قادمة عليه.
وقوله تعالى: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} . الفاقرة: الداهية والأمر العظيم. أي: توقن
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (554)، كتاب مواقيت الصلاة، وأخرجه كذلك (4851)، (7434)، وأخرجه مسلم (633)، وأبو داود (4729)، والترمذي (2551)، وابن ماجة (177)، ورواه أحمد (4/ 360)، وكذلك ابن حبان (7442).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (7437)، وأخرجه مسلم (182). وأخرجه أحمد (2/ 293 - 294)، وأخرجه ابن حبان (7429) من حديث أبي هريرة.
(3)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4878)، (4880)، ومسلم (180)، وأحمد (4/ 411).
(4)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (191) في أثناء حديث مطول. وانظر تفصيل البحث في كتابي: "أصل الدين والإيمان" - رؤية اللَّه يوم القيامة - بحث (10) ص (206).
وتعلم أنها هالكة خاسرة، وفي الداهية والشر العظيم مقحمة ماضية.
قال مجاهد: ({تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} قال: داهية). وقال قتادة: (أي شر).
وقال ابن زيد: (تظن أنه ستدخل النار، قال: تلك الفاقرة، وأصل الفاقرة: الوسم الذي يفقر به على الأنف). وقال الأصمعي: (أصلها الوسم على أنف البعير بحديدة أو نار حتى يخلص إلى العظم). فنعوذ باللَّه من حال ومستقبل الكفار والفجّار.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ} [عبس: 38 - 42].
2 -
وقال تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً} -إلى قوله-: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} [الغاشية: 2 - 10].
3 -
وقال تعالى: {يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ} [آل عمران: 106].
قال ابن عباس: (تبيض وجوه أهل السنة والجماعة، وتسود وجوه أهل البدعة والفُرْقة).
26 -
40. قوله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)}.
في هذه الآيات: إخبارُ اللَّه سبحانه عن حالة الاحتضار، وما يرافق ذلك من الأحوال والأهوال، والمرجع إلى اللَّه سبحانه والمعاد والمآل.
فقوله تعالى: {كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} . كلّا: رَدْعٌ وزَجْر. قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: ليس الأمر كما يظن هؤلاء المشركون من أنهم لا يعاقبون على شركهم ومعصيتهم ربهم، بل إذا بلغت نفس أحدهم التراقي عند مماته وحشرج بها).
وقال ابن زيد: ({التَّرَاقِيَ}: نفسه). قال القرطبي: (وقيل: {كَلَّا} معناه حقًا، أي
حقًّا أن المساق للَّه {إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ} أي إذا ارتقت النفس إلى التراقي).
والتراقي: جمع تَرْقُوة، وهي العظام المكتنفة لِنُقْرَةِ النَّحر -بين ثُغرة النحر والعاتق-، وهو مقدّم الحلق من أعلى الصدر، موضع الحَشرجة. وقد يكنى عن الإشفاء على الموت ببلوغ النفس التراقي، والمقصود: تذكيرهم شدّة الحال عند نزول الموت.
وقوله تعالى: {وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} . -هو على وجه الاستبعاد واليأس- قال ابن عباس: (أي: هل من راق يرقي). وقال أبو قلابة: (هل من طبيب شاف). وقال ابن زيد: (وقال أهله: من ذا يرقيه ليشفيه مما قد نزل به؟ وطلبوا له الأطباء والمداوين، فلم يغنوا عنه من أمر اللَّه الذي قد نزل به شيئًا).
وقيل: بل المعنى: من رَقِيَ يَرْقى، إذا صَعِدَ. قال أبو الجوزاء، عن ابن عباس:({وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ} قال قيل: مَنْ يَرْقى بروحِه، ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ ).
وعلى هذا فإنه يكون من كلام الملائكة. وكلا المعنيين وارد منسجم مع السياق والإعجاز.
وقد أظهر عاصم وقوم النون في قوله تعالى: {مَنْ رَاقٍ} واللام في قوله: {بَلْ رَانَ} [المطففين: 14] لئلا يشبه مَرَّاق وهو بائع المَرْقة، وبَرَّان في تثنية البر. قال القرطبي:(والصحيح ترك الإظهار، وكسرة القاف في {مَنْ رَاقٍ} وفتحة النون في {بَلْ رَانَ} تكفي في زوالِ اللبس).
قلت: وكلام القرطبي مناسب في هذا المقام، لئلا يفهم قوم وجوب مثل هذا الوقف.
وقوله تعالى: {وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ} . أي: وأيقن الإنسان حين عاين الملائكة أنه مفارق الدنيا والأهل والمال والولد.
وقوله تعالى: {وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ} . فيه أقوال متقاربة ومتكاملة:
1 -
قال ابن عباس: (التفت عليه الدنيا والآخرة. يقول: آخرَ يوم من أيام الدنيا، وأولَ يوم من أيام الآخرة، فتلتقي الشدَّة بالشدَّة إلا مَن رحم اللَّه).
2 -
وقال عكرمة: ({وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ}: الأمر العظيم بالأمر العظيم).
وقال مجاهد: (بلاء ببلاء. يقول: تتابعت عليه الشدائد). قال الضحاك: (اجتمع
عليه أمران: الناس يجهزون جسده، والملائكة يجهزون روحه).
3 -
وقال الشعبي: (المعنى التفت ساقا الإنسان عند الموت من شدّة الكرب). وقال قتادة: (أما رأيته إذا أشرف على الموت يضرب إحدى رجليه على الأخرى).
4 -
وقال سعيد بن المسيب والحسن: (هما ساقا الإنسان إذا التفتا في الكفن). وقال زيد بن أسلم: (التفت ساق الكفن بساق الميت). وقال الحسن أيضًا: (ماتت رجلاه ويبست ساقاه فلم تحملاه، ولقد كان عليهما جوّالًا).
وقوله تعالى: {إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ} . أي المرجع والمآب. والمساقُ: المصدر من ساق يسوق، وذلك أن الملائكة ترفع الروح فتسوقها عبر السماوات إلى السماء التي فيها اللَّه تعالى. -هذا إن كان الميت من أهل الإيمان-. وأما الكافر أو الفاجر فتساق روحه إلى السماء الدنيا فقط ولا يفتح لها ثم يقول اللَّه تعالى في الحالتين:[أعيدوا عبدي إلى الأرض، فإني وعدتهم أني منها خلقتهم، وفيها أعيدهم، ومنها أخرجهم تارة أخرى] الحديث (1).
وفي التنزيل نحو ذلك: {وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ} [الأنعام: 61 - 62].
وفي سنن ابن ماجة -في احتضار الكافر- من حديث أبي هريرة مرفوعًا:
[فيقال: لا مَرْحبًا بالنفس الخبيثة، كانت في الجسد الخبيث. ارجعي ذميمةً، فإنها لا تُفْتَحُ لكِ أبواب السَّماء، فيُرْسَلُ بها من السماء، ثم تصيرُ إلى القبر](2).
وأخرج الحاكم وابن ماجة وابن أبي عاصم بإسناد رجاله ثقات عن عبد اللَّه بن مسعود، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا كان أجَلُ أحدِكُم بِأَرْض، أَوْ ثَبَتْهُ إليها الحاجةُ. (وفي رواية: أثبتَ اللَّه له إليها حاجة) فإذا بلغ أقصى أثرِهِ، قبضَهُ اللَّه سبحانه. فتقول الأرض يوم القيامة: ربّ! هذا ما استودعتني](3).
(1) حديث صحيح. وهو جزء من حديث طويل. أخرجه أحمد (4/ 288)، وأبو داود (2/ 281)، والحاكم (1/ 37 - 40)، والنسائي (1/ 282) مختصرًا، من حديث البراء.
(2)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة في السنن (4262)، كتاب الزهد. باب ذكر الموت والاستعداد له. وإسناده صحيح. انظر صحيح سنن ابن ماجة (3437).
(3)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (2/ 566)، والحاكم (1/ 41 - 42)، وابن أبي عاصم في =
وقوله تعالى: {فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} . إخبار عن الكافر كان في الدنيا مكذبًا بالحق معرضًا عن الإيمان والعمل الصالح. قال قتادة: (لا صدق بكتاب اللَّه ولا صلى للَّه {وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى} كذب بكتاب اللَّه، وتولى عن طاعة اللَّه).
وقوله تعالى: {ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى} . قال ابن عباس: (يختال). وقال زيد بن أسلم: (يتبختر).
قال النسفي: (وأصله يتمطط أي يتمدد، لأن المتبختر يمد خطاه، فأبدلت الطاء ياء لاجتماع ثلاثة أحرف متماثلة).
والمقصود: ثم انصرف إلى أهله مختالًا يتبختر، فهو يتمطط -يتمدد- من التكسّل والتثاقل عن داعي الحق.
وفي جامع الترمذي ودلائل البيهقي بسند حسن عن ابن عمر مرفوعًا: [إذا مشت أمتي المُطَيْطاءَ وخدمتهم فارس والروم كان بأسهم بينهم](1).
والمُطيطاء: التبختر ومدّ اليدين في المشي. قال ابن الأثير: (وهي من المصغرات التي لم يُستعمل لها مكبر).
وقوله تعالى: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} . تهديد بعد تهديد، ووعيد بعد وعيد، لذلك الكافر المتبختر.
أخرج النسائي في "التفسير"، والطبراني في "المعجم" والحاكم في "المستدرك" بإسناد صحيح عن سعيد بن جبير قال:[قلت لابن عباس: {أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى} قال: قاله رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم لأبي جهل، ثم أنزله اللَّه عز وجل](2).
= "السنة"(346)، والطبراني في "الكبير" (3/ 76/ 1). وقال البوصيري في "الزوائد" (ق 263/ 2):"هذا إسناد صحيح، رجاله ثقات". وانظر "الصحيحة"(1222).
(1)
حديث حسن في الشواهد. أخرجه الترمذي في السنن -حديث رقم- (2261)، والبيهقي في "الدلائل"(6/ 525)، والبغوي (4200) من حديث ابن عمر. وأخرجه ابن المبارك في الزهد من رواية نعيم بن حماد برقم (187)، وكذلك ابن عدي (6/ 335).
(2)
حديث صحيح. أخرجه النسائي في "التفسير"(658)، والطبراني (12298)، والحاكم (2/ 510) وصححه. ووافقه الذهبي. وانظر:"الصحيح المسند من أساب النزول" - الوادعي - سورة القيامة. آية (34 - 35). وله شواهد.
و {أَوْلَى لَكَ} بمعنى ويل لك (1)، وهو دعاء عليه بأن يليه ما يكره ولاء متكررًا مضاعفًا، فَكُرِّر للتأكيد. كأنه قيل: ويل لك فويل لك، ثم ويل لك فويل لك.
وقيل: ويل لك يوم الموت، وويل لك في القبر، وويل لك حين البعث، وويل لك في النار. حكاه النسفي.
وقيل: المعنى بُعْدًا لك. فبعدًا في أمر دنياك، وبعدًا لك فبعدًا في أمر أخراك -حكاه الرازي عن القاضي. ثم قال: قال القفال: (هذا يحتمل وجوهًا: أحدها- أنه وعيد مبتدأ من اللَّه للكافر.
والثاني: أنه شيء قاله النبي صلى الله عليه وسلم لعدوه -يعني أبا جهل- فاستنكره عدو اللَّه لعزته عند نفسه، فأنزل اللَّه تعالى مثل ذلك.
والثالث: أن يكون ذلك أمرًا من اللَّه لنبيّه بأن يقولها لعدو اللَّه، فيكون المعنى: ثم ذهب إلى أهله يتمطى، فقل له يا محمد: أولى لك فأولى، أي احذر، فقد قرب منك ما لا قبل لك به من المكروه).
وقيل: الأحسن أنه أفعل تفضيل خبر لمبتدأ يقدر كما يليق بمقامه. فالتقدير هنا: النار أولى لك. يعني: أنت أحق بها، وأهل لها - حكاه الزمخشري.
قلت: وكل ما سبق من وجوه الإعجاز البلاغي الذي يظهر وجوه الإعجاز القرآني، واللَّه تعالى أعلم.
وقوله تعالى: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى} . قال ابن عباس: (يقول: هملًا).
وقال مجاهد: (لا يؤمر، ولا يُنهى). وقال السدي: (يعني لا يبعث).
وقال ابن كثير: (والظاهر أن الآية تعمّ الحالين، أي: ليس يترك في هذه الدنيا مُهْمَلًا لا يُؤمر ولا يُنْهى، ولا يُترك في قبره سُدًى لا يُبعث، بل هو مأمورٌ منهيٌّ في الدنيا، محشورٌ إلى اللَّه في الدار الآخرة. والمقصود هنا إثبات المعاد، والردّ على من أنكره من أهل الزَّيغِ والجهل والعِناد).
(1) قال الشهاب: (هو محصل معناه المراد منه، فإنه مثله، فيرد للدعاء عليه، أو للتهديد والوعيد). وعن الأصمعي: (أنها تكون للتحسر على أمر فات). وقيل: (أولى: اسم وزنه "أفعل" من الويل. وقيل بل هو فعل ماض دعائيّ من (الولي) واللام مزيدة. أي أولاك اللَّه ما تكرهه. أو غير مزيدة، أي أدنى الهلاك لك).
وقوله تعالى: {أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى} . استدلال على الإعادة بالبدأة.
أي: ألم يكن الإنسان ماء مهينًا في قطرة تمنى في الرحم. والنطفة: الماء القليل، من نطفَ الماء: إذا قطرَ. و {يُمْنَى} أي يراق من الأصلاب فيصب في الأرحام.
وقوله تعالى: {ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى} . أي: ثم كان دمًا بعد النطفة فقَدّر الرحمن الخلق فسواه تسوية، وعدّله تعديلًا، بجعل الروح فيه، فجعله ناطقًا سميعًا بصيرًا.
وقوله تعالى: {فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: فجعل من هذا الإنسان بعد ما سواه خلقًا سويًا أولادًا له، ذكورًا وإناثًا).
وقوله تعالى: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} . أي: أليس الذي أنشأ هذا الخلق البديع، فبدأ خلق الإنسان من تراب ثم من نطفة ثم من علقة ثم من مضغة ثم صيره إنسانًا، له أولاد ذكور وإناث، {بِقَادِرٍ} أن يعيد الأجسام بالبعث كما كانت عليه في الدنيا؟ فإن الإعادة أهون من الابتداء.
أخرج أبو داود بسند صحيح عن موسى ابن أبي عائشة قال: [كان رجل يُصَلِّي فوق بيته وكان إذا قرأ: {أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} قال: سبحانك، فبلى، فسألوه عن ذلك فقال: سمعته من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم](1).
قال أبو داود: قال أحمد: (يعجبني في الفريضة، أن يدعو بما في القرآن).
تم تفسير سورة القيامة بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه غروب شمس يوم السبت 3/ ذي القعدة/ 1426 هـ الموافق 3/ كانون الأول/ 2005 م
* * *
(1) حديث صحيح. أخرجه أبو داود (884) ورجاله رجال البخاري ومسلم، وجهالة الصحابي لا تضر.