الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
64 - سورة التغابن
وهي سورة مدنية في قول الأكثرين. وقال الضحاك: مكية. وقال الكلبي: هي مكية ومدنية. وعدد آياتها (18). وهي آخر المُسَبِّحات.
موضوع السورة
فتنة الكفار والأزواج والأولاد والأموال وأهوال يوم التغابن الشديد الأحوال
-
منهاج السورة
-
1 -
اشتراك جميع الكائنات بالتسبيح للَّه الملك القوي الحميد.
2 -
الخلق كله للَّه مؤمنهم وكافرهم، وهو العليم بدقائق أعمالهم.
3 -
أحسن اللَّه تعالى كل شيء خلقه، وعلم أفعال العباد وسرائرهم وما يعلنون.
4 -
تذكيرُ اللَّه تعالى عباده خبرَ من كفر من الأمم ونزول انتقامه بهم الأليم، وهذا جزاء البغي والكبر ومعاندة الوحي والمرسلين.
5 -
استبعاد الكفار البعث والحساب، وتأكيد اللَّه تعالى الجزاء والعقاب.
6 -
دعوة اللَّه عباده الصدق في الإيمان، والاستعداد ليوم الشدة والزحام.
7 -
المؤمنون خالدون في جنات النعيم، والكفار مخلدون في نار الجحيم.
8 -
إثبات حدوث المصائب بأمر اللَّه العظيم، وإثبات أمر الهداية من اللَّه للمؤمنين.
9 -
الأمر بطاعة اللَّه ورسوله الكريم، وحسن التوكل على اللَّه العظيم.
10 -
تنبيه اللَّه عباده المؤمنين لفتنة الأزواج والأولاد والأموال، والحث على التقوى والسمع والطاعة والبذل وحسن الأقوال والأعمال.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
4. قوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)}.
في هذه الآيات: تسبيحُ جميع الكائنات للَّه الملك القوي الحميد، الذي خَلَقَ الخلق وَعَلِمَ الإيمان والكفر وهو العليم البصير، وصَوَّر العباد فأحسن التصوير وإليه المصير، وتفرد بعلم الغيب وهو عليم بذات الصدور.
فقوله تعالى: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} . إِخْبَارٌ من اللَّه تعالى أن جميع ما في السماوات وما في الأرض من شيء يسبّح له ويمجّده ويقدّسه، ويصلي له ويوحِّده، كقوله جل ذكره:{تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ} [الإسراء: 44].
وقوله: {لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ} . أي: هو المتصرف في جميع الكائنات، وسلطانه ماض وقضاؤه نافذ في جميع المخلوقات، وهو المحمود على جميع ما يخلقه ويُقَدِّره.
وقوله: {وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} . أي: ما شاء كان، وما لم يشأ لم يكن، وكل أمر أراده فلا مانع له ولا مدافع.
وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} . قال ابن عباس: (إن اللَّه خلق بني آدم مؤمنًا وكافرًا، ويعيدهم في يوم القيامة مؤمنًا وكافرًا). وقال الزجاج: (إن اللَّه
خلق الكافر، وكُفْرُهُ فِعْلٌ له وكسب، مع أن اللَّه خالق الكفر. وخلق المؤمن، وإيمانه فعلٌ له وكسب، مع أن اللَّه خالق الإيمان).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ} [الأنعام: 53].
2 -
وقال تعالى: {وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا} [الشمس: 7 - 10].
ومن صحيح السنة العطرة في آفاق هذه الآية أحاديث:
الحديث الأول: أخرج الطبراني بسند حسن عن عبد اللَّه بن مسعود مرفوعًا: [خلقَ اللَّه يحيى بن زكريا في بطن أمه مؤمنًا، وخلق فرعون في بطن أمه كافرًا](1).
الحديث الثاني: أخرج أحمد في المسند، وابن سعد في "الطبقات" بسند صحيح عن عبد الرحمن بن قتادة السلمي -وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعًا:[إن اللَّه عز وجل خلق آدم، ثم أخذ الخلق من ظهره، وقال: هؤلاء إلى الجنة ولا أبالي، وهؤلاء إلى النار ولا أبالي. فقال قائل: يا رسول اللَّه فعلى ماذا نعمل؟ قال: على مواقع القدر](2).
وله شاهد في المسند وزوائد المسند بإسناد صحيح عن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [خلق اللَّه آدم حين خلقه فضرب كتفه اليمنى، فأخرج ذرية بيضاء كأنهم الذر، وضرب كتفه اليسرى، فأخرج ذرية سوداء كأنهم الحمم، فقال للذي في يمينه: إلى الجنة ولا أبالي، وقال للذي في كتفه اليسرى: إلى النار ولا أبالي](3).
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم من حديث عبد اللَّه بن مسعود مرفوعًا: [إن أحدكم أو الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها غيرُ ذراعٍ أو باعٍ، فَيَسْبِقُ عليه الكتاب فيعملُ بِعَمَلِ أهلِ الجنة فيدخُلُها، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعملِ أهل
(1) حديث حسن. أخرجه الطبراني (10543)، وأبو نعيم في "أخبار أصبهان"(2/ 190)، واللالكائي في "السنة"(130/ 1 - 2). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1831).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 186)، وابن سعد (1/ 30)، وابن حبان (1806)، وغيرهم.
(3)
رواه أحمد وابنه في زوائد "المسند"(6/ 441)، وابن عساكر في "تاريخ دمشق"(ج 15/ 136/ 1)، وإسناده صحيح. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (49).
الجنة حتى ما يكونُ بينه وبينها غيرُ ذراع أو ذراعين، فَيَسْبقُ عليه الكتابُ فيعملُ بعمل أهل النار فيدخُلُها] (1).
الحديث الرابع: أخرج الشيخان وابن حبان من حديث سهل بن سعد مرفوعًا: [إنّ الرجل ليَعْملُ عملَ أهل الجنة فيما يبدو للناس وهو من أهل النار، وإنّ الرجل ليعمل عمل أهل النار فيما يبدو للناس وهو من أهل الجنة](2).
والمقصود: تعلق علم اللَّه الأزلي بكل معلوم، فيجري ما علم وما أراد وما حكم.
وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} . أي: واللَّه الذي خلقكم بصير بأعمالكم، فاحذروا غضبه وما يعقب مخالفة أمره ونهيه.
وقوله: {خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: خلق السماوات السبع والأرض بالعدل والإنصاف). وقال ابن كثير: ({بِالْحَقِّ}: بالعدل والحكمة).
وقوله: {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} . قال ابن عباس: (يعني آدم خلقه بيده).
قلت: بل الآية تعم جميع الخلائق، كما قال تعالى:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين: 4]. قال النسفي: ({وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} أي جعلكم أحسن الحيوان كله وأبهاه).
وقوله: {وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} . أي: المرجع، فيجازي كلًا بعمله، فأحسنوا سرائركم وأعمالكم كما أحسن اللَّه صوركم.
وقوله تعالى: {يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} . قال الزمخشري: (نبه بعلمه ما في السماوات والأرض، ثم بعلمه ما يسرّه العباد ويعلنونه، ثم بعلمه ذوات الصدور، أن شيئًا من الكليات والجزئيات غير خاف عليه، ولا عازب عنه، فحقه أن يتقى ويحذر، ولا يجترأُ على شيء مما يخالف رضاه. وتكرير العلم، في معنى تكرير الوعيد. وكل ما ذكره بعد قوله تعالى: {فَمِنْكُمْ
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6594) - كتاب القدر. ورواه مسلم (2643)، وأبو داود (4708)، والترمذي (2137)، وابن ماجة (76)، وأحمد (1/ 414).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (2898)، (6493)، ومسلم (112)، وابن حبان (6175)، والبيهقي في الدلائل (4/ 252)، وأحمد (5/ 331).
كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ} كما ترى، في معنى الوعيد على الكفر، وإنكار أن يعصى الخالق ولا تشكر نعمته).
5 -
6. قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)}.
في هذه الآيات: تذكيرُ اللَّه تعالى عباده خَبَرَ من كفر من قبل ونزل بهم العذاب الأليم، ذلك بسبب البغي والكبر ومعاندة الوحي والمرسلين.
فقوله: {أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} . قال القرطبي: (الخطاب لقريش. أي: ألم يأتكم خبر كفار الأمم الماضية. {فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ} أي عوقبوا. {وَلَهُمْ} في الآخرة {عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي موجِع).
وقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا} . أي: هذا العذاب الذي نزل بتلك الأمم بسبب كفرهم برسلهم وقد جاؤوهم بالآيات الباهرات والدلائل القاطعات على النبوة، فأنكروا أن يكون الرسول من البشر كِبرًا وعلوًا. قال النسفي:(أنكروا الرسالة للبشر ولم ينكروا العبادة للحجر).
وقوله: {فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا} . أي: كفروا بالرسل وأعرضوا عن الإيمان، وتولوا عن صحيح الدليل والبرهان.
وقوله: {وَاسْتَغْنَى اللَّهُ} . قال مقاتل: (أي بسلطانه عن طاعة عباده). وقيل: استغنى اللَّه بما أظهره لهم من البرهان وأوضحه لهم من البيان، عن زيادة تدعو إلى الرشد وتقود إلى الهداية.
وقوله: {وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ} . قال ابن جرير: (يقول: واللَّه غني عن جميع خلقه، محمود عند جميعهم بجميل أياديه عندهم، وكريم فعاله فيهم).
7 -
10. قوله تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ
خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)}.
في هذه الآيات: استبعادُ الكفار البعث والحساب، وتأكيدُ اللَّه تعالى الجزاء والعقاب، ودعوة اللَّه عباده إلى الصدق في الإيمان، والاستعداد ليوم الشدة والزحام، فالمؤمنون في جنات النعيم، والكفار مخلدون في الجحيم.
فقوله: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا} . أي ظنوا أنهم لا يبعثون بعد موتهم. قال القرطبي: (والزَّعم هو القول بالظن). وقال شُريح: (لكل شيء كُنْية، وكُنْيَةُ الكذب زعموا).
وقوله: {قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ} . أي: قل يا محمد لهؤلاء المنكرين للبعث بعد الموت: بلى وربّي لتخرجن من قبوركم أحياء، ثم لتخبرن بما أسلفتم من أعمال أيام دنياكم.
وقوله: {وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} . أي: وبعثكم ومجازاتكم هين على اللَّه تعالى. وهذه ثالث آية أمر اللَّه رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه عز وجل على وقوع المعاد تأكيدًا لذلك، وتشديدًا في لهجة الإثبات أمام زعم المشركين. وهذه الآيات:
1 -
قال تعالى: {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ} [يونس: 53].
2 -
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ} [سبأ: 3].
3 -
وقال تعالى: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ} [التغابن: 7].
وقوله: {فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ} . أمرهم بالإيمان باللَّه تعالى ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن عرفهم قيام الساعة وهدّدهم موقف العرض والحساب.
وقوله: {وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا} . يعني القرآن. فهو نور يهدي به اللَّه قلوب العباد، وهو نور يُهتدى به من ظلمة الضلال إلى سبيل النجاة والرشاد.
وقوله: {وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} . أي: فلا تخفى عليه سرائركم وعلانيتكم.
وقوله: {يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} . قال ابن كثير: (وهو يومُ القيامة، سُمِّيَ بذلك لأنه يُجْمَعُ فيه الأوّلون والآخرون في صعيد واحدٍ، يُسْمِعُهم الداعي وينفذهم البَصَر، كما قال تعالى: {ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ} [هود: 103]. وقال تعالى: {قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} [الواقعة: 49 - 50]).
وقوله: {ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ} . قال ابن عباس: (هو اسم من أسماء يوم القيامة، عظّمهُ وحذّره عباده). وقال قتادة: ({يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ} هو يوم القيامة، وهو يوم التغابن: يوم غبن أهل الجنة أهل النار). وقال مقاتل: (لا غَبْنَ أعظمُ من أن يدخل هؤلاء إلى الجنة ويُذهب بأولئك إلى النار).
قلت: والتغابن في لغة العرب يحمل معنى الذهول، فأهل الجنة يذهلون يوم القيامة من حال أهل النار الذي صاروا إليه، فإطلاق اسم {التَّغَابُنِ} على يوم القيامة هو من باب التهويل والتحذير من أهوال ذلك اليوم.
وقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} . أي: ومن يَصْدُق اللَّه الإيمان والعمل يمح عنه ذنوبه ويدخله بساتين الخلود تجري من تحت أشجارها وغرفها الأنهار وذلك هو الظفر العظيم.
وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} . أي: والذين جحدوا توحيد اللَّه وإفراده بالتعظيم، وكذبوا بكتابه ورسوله أولئك أهل النار يمكثون فيها ولا يخرجون منها، فبئس المستقر وساء المنقلب والمآل والقرار.
11 -
13. قوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا
عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)}.
في هذه الآيات: إثباتُ حدوث المصائب بأمر اللَّه، وإثباتُ أمر الهداية للمؤمنين والتوفيق بإذن اللَّه، والأمر بطاعة اللَّه ورسوله والتوكل على اللَّه.
فقوله تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} . قال ابن عباس: (بأمر اللَّه، يعني عن قَدَره ومشيئته). وقال القرطبي: ({إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بإرادته وقضائه).
وقوله: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} . قال ابن عباس: (يعني: يهد قلبه لليقين، فيعلم أنَّ ما أصابه لم يكن ليخطئه، وما أخطأه لم يكن ليصيبه). وعن الأعمش، عن أبي ظبيان قال: كنا عند علقمة، فَقُرِئ عنده هذه الآية:{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} فَسُئل عن ذلك فقال: (هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها من عند اللَّه، فيسلم ذلك ويرضى) - رواه ابن جرير.
وقال سعيد بن جبير: ({وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ}، يعني: يسترجع، يقول: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} [البقرة: 156]).
والمقصود: من نزلت به مصيبة فصبر واسترجع طمأن اللَّه قلبه وعوضه خيرًا منها. كما قال تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ} [البقرة: 155 - 157].
ومن كنوز السنة العطرة في آفاق هذه الآية أحاديث:
الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه، وأحمد في مسنده عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [ما من مسلم تصيبه مصيبة فيقول ما أمره اللَّه: {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيرًا منها إلا أخلف اللَّه له خيرًا منها. قالت: فلما مات أبو سلمة قلت: أي المسلمين خير من أبي سلمة، أول بيت هاجر إلى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم؟ ثم إني قلتها، فأخلف اللَّه لي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم](1).
الحديث الثاني: أخرج الدارمي وأحمد بسند صحيح عن صهيب قال: [بينا
(1) حديث صحيح. رواه مسلم (3/ 37)، وأحمد (6/ 309)، والبيهقي (4/ 65).
رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قاعد مع أصحابه إذ ضحك، فقال: ألا تسألوني مم أضحك؟ قالوا: يا رسول اللَّه! ومم تضحك؟ قال: عجبت لأمر المؤمن، إن أمره كله خير، إن أصابه ما يحب حمد اللَّه وكان له خير، وإن أصابه ما يكره فصبر كان له خير، وليس كل أحد أمره كله خير إلا المؤمن] (1).
الحديث الثالث: أخرج الطيالسي والبيهقي بسند صحيح عن سعد مرفوعًا: [عجبت للمسلم إذا أصابته مصيبة احتسب وصبر، وإذا أصابه خير حمدَ اللَّه وشكر، إنّ المسلم يؤجر في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى فيه](2).
وقوله: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ} . أي: واللَّه قد احاط بكل شيء علمًا، بما كان ويكون وما هو كائن من قبل أن يكون، وما لن يكون ولكن لو قدّر وكان كيف يكون.
وقوله: {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} . أَمْرٌ بتعظيم الوحيين: القرآن والسنة المطهرة، فإن في طاعة اللَّه ورسوله النجاة والسعادة في الدارين.
وقوله: {فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ} . أي: فإن أعرضتم وأدبرتم عن طاعة اللَّه وطاعة رسوله مستكبرين فإن واجب الرسول البلاغ، واللَّه سبحانه وليّ الانتقام ممن عصاه، وخالف أمره وركب هواه. قال الزهريُّ:(من اللَّه الرسالة، وعلى الرسول البلاغ، وعلينا التسليم).
وقوله: {اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} . أَوَّلُه خبر عن التوحيد يفيد الطلب، والتقدير: أفردوا اللَّه تعالى بالعبادة والتعظيم، وأحسنوا التوكل عليه فإنه هو ولي المؤمنين.
14 -
18. قوله تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ
(1) أخرجه الدارمي (2/ 318)، وأحمد (6/ 16) وسنده صحيح على شرط الإمام مسلم. وبنحوه روى مسلم في الصحيح (8/ 227)، وله شواهد كثيرة.
(2)
حديث صحيح. أخرجه الطيالسي (211)، والبيهقي بسند صحيح. وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (147)، وصحيح الجامع الصغير (3881).
وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)}.
في هذه الآيات: تنبيهُ اللَّه تعالى عباده المؤمنين إلى فتنة الأزواج والأولاد والأموال وما قد يشغل عن ذكره والجهاد في سبيله، والحث على التقوى والسمع والطاعة والإنفاق في سبيل اللَّه لنصرة دينه.
فقوله: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} . تنبيه المؤمنين إلى مواطن من العداوة تصد عن طاعة اللَّه وتلهي عن ذكر اللَّه. فإن من الأزواج أزواجًا يعادين بعولتهن ويُثَبِّطْنَهم عن العمل الصالح، وربما حَمَلْنَهم على بعض الأعمال المنكرات، وكذلك فإنّ نحو هذه العداوة قد يتسبب بها الأولاد.
أخرج الترمذي بسند حسن عن ابن عباس، وسأله رجل عن هذه الآية:{يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} . قال: [هؤلاء رجال أسلموا من أهل مكة، وأرادوا أن يأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم، أن يأتوا رسول اللَّه، فلما أتوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم رأوا الناس قد فقهوا في الدين هموا أن يعاقبوهم، فأنزل اللَّه: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ} الآية](1). وفي رواية ابن أبي حاتم: (فأنزل اللَّه تعالى هذه الآية: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}).
وعن مجاهد: ({إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ} قال: يحمل الرجلَ على قطيعة الرحم أو معصية ربه فلا يستطيع الرجلُ مع حُبِّه إلا أن يطيعه). وقال ابن زيد: {فَاحْذَرُوهُمْ} : يعني على دينكم).
وفي التنزيل نحو ذلك:
قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} [المنافقون: 9].
(1) حسن صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (3317) - كتاب التفسير - سورة التغابن. وانظر صحيح الترمذي (2642). ورواه الطبري (34198). ورواه الحاكم وابن أبي حاتم.
ومن كنوز السنة الصحيحة في ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن يَعْلى العامري أنه قال: جاء الحسن والحسين يسعيان إلى النبي صلى الله عليه وسلم فضمّهما إليه وقال: [إن الولدَ مَبْخَلَةٌ مَجْبَنَةٌ](1).
الحديث الثاني: أخرج الحاكم بسند صحيح من حديث الأسود بن خلف مرفوعًا: [إنَّ الولدَ مبخلة مجبنة مجهلةٌ محزنة](2).
الحديث الثالث: أخرج أبو يعلى والبزار بسند صحيح في الشواهد عن أبي سعيد مرفوعًا: [الولدُ ثمرة القلب، وإنه مَجْبنةٌ، مَبْخلَةٌ، مَحْزَنَةٌ](3).
وقوله: {وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .
قال النسفي: ({وَإِنْ تَعْفُوا} عنهم إذا اطلعتم منهم على عداوة ولم تقابلوهم بمثلها {وَتَصْفَحُوا} تعرضوا عن التوبيخ {وَتَغْفِرُوا} تستروا ذنوبهم {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} يغفر لكم ذنوبكم ويكفر عنكم سيئاتكم).
وقوله تعالى: {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} .
قال قتادة: ({فِتْنَةٌ} يقول: بلاء، {وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ} وهي الجنة).
وفي التنزيل: {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ} [آل عمران: 14].
وفي سنن أبي داود وابن ماجة بسند صحيح عن عبد اللَّه بن بريدة، أن أباه حدثه قال:[رأيت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يخطب، فأقبل حسن وحسين عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل النبي صلى الله عليه وسلم فأخذهما فوضعهما في حِجْرِه، فقال: صدق اللَّه ورسوله، {إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ}. رأيت هَذَيْن فلم أصبر، ثم أخذ في خطبته](4).
(1) حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (3666) - كتاب الأدب. انظر صحيح ابن ماجة (2957).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الحاكم من حديث الأسود بن خلف. والطبراني من حديث خولة بن حكيم. انظر تخريج المشكاة (4691 - 4692)، وصحيح الجامع (1986).
(3)
صحيح لغيره. أخرجه البزار (1892)، وأبو يعلى (1032)، وانظر صحيح الجامع (7037).
(4)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود (1109)، وابن ماجة (3600)، والترمذي (3774)، في وأحمد (5/ 354)، والحاكم (4/ 354)، وابن حبان (6039).
وأخرج الإمام أحمد بسند حسن في الشواهد عن الشَّعبي قال: [حَدّثنا الأشعث بن قيس قال: قَدِمْتُ على رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم في وَفْدِ كِنْدَةَ، فقال لي: هل لكَ من ولَد؟ قلتُ: غلامٌ وُلِدَ لي في مخرجي إليك من ابنة حَمَد، ولَودِدْتُ أن بمكانه شِبَعَ القوم. قال: لا تقولَنّ ذلك، فإن فيهم قُرّة عين، وأجرًا إذا قُبضوا، ثم قال: ولئن قلت ذاك إنهم لَمَجْبَنَةٌ مَحْزَنَةٌ، إنهم لمجبنة مَحْزنة](1).
وقوله: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ} . أصل عظيم من أصول هذه الشريعة المطهرة، وجواب من جوامع الكلم لكثير من المسائل الفقهية المستعصية. والمقصود: استوفوا جهدكم معشر المؤمنين في تقوى ربكم وابذلوا طاقتكم.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة مرفوعًا: [فإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه](2).
وقوله: {وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا} . قال ابن كثير: (أي: كونوا مُنقادين لما يأمُركم اللَّه به ورسولُه، لا تحيدوا عنه يمنةً ولا يسْرَةً، ولا تُقَدِّموا بين يدي اللَّه ورسوله، ولا تَتَخَلَّفوا عما أُمِرتم، ولا تركَبوا ما عنه زُجِرتم).
وقوله: {وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ} . قال ابن جرير: (يقول: وأنفقوا مالًا من أموالكم لأنفسكم تستنقذوها من عذاب اللَّه. والخير في هذا الموضع المال). والمراد: بذلُ المال على الفقراء من الأرحام والقرابات، والمساكين من المسلمين ذوي الحاجات.
وقوله: {وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} . أي: ومن يدافع السقوط فينصره اللَّه على هوى نفسه وبخلها وشحها وحرصها وطمعها يصبح من المفلحين الناجين المدركين آمالهم عند ربهم.
وفي التنزيل:
{وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى} [الليل: 8 - 11].
وفي صحيح مسلم عن جابر أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [اتقوا الظلم، فإن الظلم
(1) حسن بشواهده. أخرجه أحمد (5/ 211)، والحاكم (4/ 239)، والطبراني (646).
(2)
حديث صحيح. انظر صحيح مسلم (1337)، وسنن النسائي (5/ 110)، في أثناء حديث طويل.
ظلماتٌ يوم القيامة، واتقوا الشح فإن الشح أهلك من كان قبلكم، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم] (1).
وقوله: {إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} الآية.
قال النسفي: ({إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا} بنية وإخلاص، وذكر القرض تلطف في الاستدعاء {يُضَاعِفْهُ لَكُمْ} يكتب لكم بالواحدة عشرًا أو سبع مئة إلى ما شاء من الزيادة {وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ} يقبل القليل ويعطي الجزيل {حَلِيمٌ} يقيل الجليل من ذنب البخيل، أو يضعف الصدقة لدافعها ولا يعجل العقوبة لمانعها).
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [ينزلُ اللَّه تعالى في السماء الدنيا لِشَطْرِ الليل، أو ثلث الليل الآخر، فيقول: مَنْ يدعوني فأستجيب له! أو يسألني فأعْطِيَه! ثم يقول: مَنْ يُقْرِضْ غيرَ عديمٍ ولا ظلوم](2).
وقوله: {عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ} . أي يعلم ما خفي من سرائر القلوب، وما انتشر من ظواهر الأمور والخطوب.
وقوله: {الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} . أي الذي قهر بعزته وكبريائه كل شيء، والذي أتقن كل شيء فأحكم خلقه، فهو الحكيم في أقواله وأفعاله وقدره وشرعه وتدبيره.
تم تفسير سورة التغابن بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه عصر السبت 3 شوال 1426 هـ الموافق 5/ تشرين الثاني/ 2005 م
* * *
(1) حديث صحيح. رواه مسلم في الصحيح (2578) - كتاب البر والصلة، من حديث جابر.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم (758) ح (171) - كتاب صلاة المسافرين. وأخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" ص (131)، والبيهقي في "الأسماء والصفات"(496). وأعدم الرجل -في لغة العرب- إذا افتقر، فهو معدوم وعديم وعدوم.