الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
68 - سورة القلم
وهي سورة مكية، ويقال لها سورة نون، وعدد آياتها (52).
موضوع السورة
القلم أول ما خلق اللَّه رب العالمين وكُتب فيه تقدير جميع ما في الدارين
-
منهاج السورة
-
1 -
القسم بالقلم لتأكيد اللَّه نبوة رسوله الكريم، وإثبات الخلق جميعه للَّه العظيم.
2 -
توعد اللَّه تعالى المنافقين والكافرين، واللَّه تعالى هو أعلم بالضالين وبالمهتدين.
3 -
الدعوة لإقامة منهج الولاء والبراء، والتحذير الشديد من اتباع سبيل الأعداء.
4 -
قصة أصحاب الجنة وانعكاس المكر السَّيِئ على أهله الماكرين، والشعور بالندم بعد نزول الانتقام من اللَّه رب العالمين، وبقاء الأمل باللَّه بعد التوبة فإن الفوز هو النجاة من عذاب الجحيم.
5 -
التفريق بين المسلمين والمجرمين، فالمؤمنون في سرور ونعيم، والكافرون هم وشركاؤهم في نار الجحيم.
6 -
ظهور الساق يوم الحشر ككلمة السر بين المؤمنين وربهم ليخروا له ساجدين، وحرمان اللَّه المنافقين أن يكونوا مع الساجدين.
7 -
استدراج اللَّه الكفار في الدنيا وكذلك المنافقين، حتى يحيط بهم كيده المتين.
8 -
أمر اللَّه تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر، وكشف محاولات الكفار إصابته بالعين والسحر.
9 -
اتهام الكفار الرسول بالجنون، وهذا الوحي ونبي الحق شرف للعالمين.
* * *
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
7. قوله تعالى: {ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)}.
في هذه الآيات: قَسَمٌ من اللَّه تعالى بالقلم يؤكد النبوة لنبيه الكريم، ويثبت له الخُلق العظيم، ويتوعد المنافقين والكافرين، واللَّه تعالى هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بالمهتدين.
فقوله: {ن} - كقوله في أوائل السور المتقدمة التي تبدأ بمثل هذه الحروف المقطعة، والراجح أن المراد الإعجاز، أي: هذا القرآن مكون من مثل هذه الأحرف، والخلق عاجزون عن معارضته بمثله.
وقوله: {وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ} . قسم من اللَّه تعالى بالقلم، والمراد جنس القلم الذي يُكتب به، كما قال جل ثناؤه:{اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)} [العلق: 3 - 5].
أخرج الإمام أحمد والترمذي بسند صحيح من حديث عبادة مرفوعًا: [إن أوَّلَ ما خلق اللَّه القلم، ثم قال له: اكتب، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة](1).
وفي رواية: [إن أول ما خلق اللَّه القلم، فقال له: اكتب، قال: يا رب وما أكتب؟ قال: اكتب القدر وما هو كائن إلى الأبد]. وفي لفظ آخر: (اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة).
وعن ابن عباس: ({وَمَا يَسْطُرُونَ}: يعني وما يكتبون). وقال أيضًا: (وما يَعْملون).
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (5/ 317)، والترمذي في التفسير (2/ 232)، وانظر تخريج أحاديث "مشكاة المصابيح"(94).
وقال السدي: ({وَمَا يَسْطُرُونَ}: يعني الملائكة وما تكتُب من عمل العباد). قال ابن كثير: ({وَالْقَلَمِ}. فهو قَسَمٌ منه تعالى، وتنبيهٌ لِخَلْقِه على ما أنعم به عليهم من تعليم الكتابة التي بها تُنالُ العُلوم).
وقوله: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} . قال النسفي: (أي بإنعامه عليك بالنبوة وغيرها). وقال القرطبي: (والنعمة هاهنا الرحمة). وقيل: النعمة هاهنا قسم والتقدير: ما أنت ونعمة ربك بمجنون، فالواو والباء من حروف القسم.
والمقصود: ما أنت -يا محمد- بما جئت به قومك من الوحي والهدى والحق بمجنون -كما نسبك الجهلة من قومك ظلمًا إلى الجنون-.
وقوله تعالى: {وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ} . أي: وإن لك يا محمد عند اللَّه الثواب العظيم الجزيل الذي لا ينقطع ولا يبيد، مقابل حملك هذه الأمانة، والصبر على أذى قومك في سبيلها. قال ابن جرير:({غَيْرَ مَمْنُونٍ}: غير منقوص ولا مقطوع). فهو من قولهم: مننت الحبل إذا قطعته. وحبل منين إذا كان غير متين. وعن مجاهد: ({غَيْرَ مَمْنُونٍ}: غير محسوب). وقال الحسن: (غير مكذر بالمنّ). وقال الضحاك: (أجرًا بغير عمل). وعن الماوردي: (غير مقدّر وهو التفضّل، لأن الجزاء مقدّر والتفضل غير مقدّر). وجميعها أقوال متقاربة متكاملة.
وقوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} . قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: وإنك يا محمد لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدَّبه اللَّه به، وهو الإسلام وشرائعه).
قلت: و"على" في لغة العرب حرف استعلاء، فكأن الخلق العظيم في مقام أنت علوته يا محمد، وسموت فوقه بتألق صفاتك وأخلاقك.
ومن كنوز السنة العطرة في وصف أخلاقه وشمائله صلى الله عليه وسلم أحاديث:
الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه من حديث عائشة: [-وقد سألها رجل-: يا أم المؤمنين! أنبئيني عن خُلُق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم. قالت: ألسْتَ تَقْرأُ القرآنَ؟ قلت: بلى. قالت: فإن خُلُقَ نبيّ اللَّه صلى الله عليه وسلم كان القرآن](1).
قال الحافظ ابن كثير في تفسير هذا الحديث: (ومعنى هذا أنه -عليه الصلاةُ
(1) حديث صحيح. أخرجه مسلم (746) - كتاب صلاة المسافرين، في أثناء حديث طويل.
والسلامُ- صارَ امتثالُ القرآن، أمرًا ونهيًا، سجيةَ له وخُلقًا تَطَبَّعَهُ، وترك طَبْعَهُ الجبلِّيَّ، فمهما أمَره القرآنُ فَعَله، ومَهما نهاه عنه تَرَكه، هذا مع ما جبله اللَّه عليه من الخُلُق العظيم، من الحياء والكرم، والشجاعة، والصَّفحِ، والحِلم وكلِّ خلق جميل). وقال القرطبي:(ولم يُذكر خُلُقٌ محمود إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظّ الأوفر).
الحديث الثاني: أخرج البخاري ومسلم عن أنس قال: [خَدَمْتُ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي "أف" قطُّ، ولا قال لشيء فعلتُه: لِمَ فَعَلْتَه؟ ولا لشيء لم أفعله: ألا فَعَلْتَهُ؟ ! وكان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم من أحْسَنِ الناس خلقًا، ولا مَسسْتُ خَزًّا ولا حَريرًا ولا شيئًا كان ألينَ من كفِّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، ولا شَممْتُ مسكًا ولا عِطرًا كان أطيب من عَرَق رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم](1).
قلت: وهذا الحديث العظيم يدل أن اللَّه تعالى قد جمع في شخص النبي صلى الله عليه وسلم حسن الخَلْقِ والخُلُق، فهو من أحسن الناس خَلْقًا وخُلقًا.
الحديث الثالث: أخرج البخاري ومسلم والترمذي عن البراء قال: [كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم أحسنَ الناس وجهًا وأحسن الناس خُلقًا، ليس بالطويل ولا بالقصير](2).
الحديث الرابع: أخرج أحمد على شرط الشيخين عن عائشة قالت: [ما ضَرَبَ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم بيده خادِمًا قطُّ، ولا امرأةً، ولا ضربَ بيده شيئًا قطُّ، إلا أن يجاهد في سبيل اللَّه. ولا خُيِّرَ بين شيئين قطّ إلا كان أحبُّهما إليه أيسرُهما حتى يكون إثمًا، فإذا كان إثمًا كان أبعد الناس من الإثم، ولا انتقم لنفسه من شيء يُؤتَى إليه إلا أن تُنْتَهك حُرمات اللَّه، فيكون هو ينتقم للَّه عز وجل](3).
الحديث الخامس: أخرج أحمد بسند حسن عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنما بُعثت لأُتَمِّمَ صالح الأخلاق](4).
الحديث السادس: أخرج الترمذي بسند صحيح من حديث أبي الدرداء، أن
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6038)، ومسلم (2309)، وأبو داود (4774)، ورواه أحمد (3/ 255)، وابن حبان (2894) من حديث أنس.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (3349)، ومسلم (2337) ح (93)، وأخرجه الترمذي في "الشمائل"(131) من حديث البراء.
(3)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 232)، وإسناده على شرط البخاري ومسلم، وله طرق.
(4)
حديث حسن. أخرجه أحمد في المسند (2/ 381)، وإسناده حسن.
النبي صلى الله عليه وسلم قال: [ما من شيء أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلُق حسن، وإن اللَّه تعالى لَيُبْغِضُ الفاحش البذيء](1).
الحديث السابع: أخرج الترمذي بإسناد حسن من حديث جابر، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[إنَّ مِن أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحسنكم أخلاقًا -قال- وإنّ أبغضكم إليّ وأبعدَكم مني مجلسًا يوم القيامة الثرثارون والمُتَشَدِّقون والمُتَفَيْهِقون. قالوا: يا رسول اللَّه، قد عَلِمنا الثرثارون والمتشدّقون، فما المتفيهقون؟ قال: المتكبرون](2).
والمتشدقون: المتوسعون في الكلام من غير احتياط واحتراز. وقيل: أراد بالمتشدق: المستهزئ بالناس يلوي شدقه بهم وعليهم.
وقوله تعالى: {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ} . قال الضحاك: (يقول: ترى ويرون). وقال ابن عباس: (ستعلم ويعلمون يوم القيامة). قال النسفي: (أي عن قريب ترى ويرون، وهذا وعد له ووعيد لهم).
وقوله تعالى: {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} . أي: بأيكم الجنون. أهو في فريق الإيمان أم في فريق الكفر. قال مجاهد: ({بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ}: بأيكم المجنون). وقال قتادة: (بأيكم أولى الشيطان). والمقصود: ستعلم يا محمد ويعلم مخالفوك ومكذبوك قريبًا من المفتون الذي افتُتِنَ عن الحق وضل عن سواء السبيل، فهو متبوع للشيطان وأولى أن يوصف بالجنون.
وفي التنزيل: {سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ} [القمر: 26].
وقوله تعالى: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} .
أي: إن ربك -يا محمد- هو أعلم بمن ضل عن طريق الحق الذي أمر به، وهو أعلم بمن اهتدى إليه وإلى منهاج النجاة والسعادة في الدارين.
8 -
16. قوله تعالى: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (2002)، وأبو داود (4799) - مختصرًا.
(2)
إسناده حسن. أخرجه الترمذي في السنن (2018)، والخطيب في "تاريخ بغداد"(4/ 63).
زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)}.
في هذه الآيات: دعوة من اللَّه تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم إلى إقامة منهج الولاء والبراء، والتحذير من اتباع سبيل الأعداء.
فلقد عرض المشركون على النبي صلى الله عليه وسلم أن يترك بعض ما هو عليه مقابل أن يتركوا بعض ما هم عليه، وأن يعبد آلهتهم عامًا ويعبدوا ربَّه عامًا، فقالوا له كما يروي ابن هشام:(لو قبلت آلهتنا نعبد إلهك). فأنزل اللَّه: {فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} .
وقوله: {تُدْهِنُ} من الدُّهن، فشبه سبحانه التليين في القول بتليين الدُّهن.
قال ابن عباس: (ودّوا لو تكفر فيكفرون). وفي رواية: (لو ترخّص لهم فيرخّصون). وقال مجاهد: (لو تَركَن إلى آلهتهم، وتترك ما أنت عليه من الحق فيمالئونك). وقال قتادة: (ودُّوا يا محمد لو أدهنت عن هذا الأمر، فأدهنوا معك).
والآية تشبه قوله سبحانه في سورة الإسراء: {وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا} .
وكان الأخنس بن شريق الثقفي ممن ينال من رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ويطعن فيه، فوصفه اللَّه بتسع صفات ذميمة في القرآن، فقال جل ذكره:{وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ} .
قال ابن عباس: (والمهين: الكذاب). وقال مجاهد: (مهين: ضعيف). وقال قتادة: (وهو المكثار في الشر). وقال الحسن: (كل مكثار في الحلف مهين ضعيف).
وقوله: {هَمَّازٍ} . قال ابن عباس: (يعني الاغتياب). وقال قتادة: (يأكل لحوم المسلمين).
وقوله: {مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ} . قال ابن عباس: (يمشي بالكذب). وقال قتادة: (ينقل الأحاديث من بعض الناس إلى بعض).
وقوله: {مَنَّاعٍ لِلْخَيْر} . أي بخيل بالمال والإنفاق والعطاء. {مُعْتَدٍ} على الناس {أَثِيمٍ} ذي إثم بربه، فهو بخيل بالبذل وبالعمل، كثير الفواحش والآثام، متطاول على حقوق الناس.
ثم وصفه بقوله: {عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ} . ليجمع بهذا الوصف ساقط الصفات وذميم الأخلاق، فإن العتل هو الجافي الشديد في كفره، وكل شديد قوي تسميه العرب عتلًا.
قال ابن عباس: (العتل: العاتل الشديد المنافق). وقال الحسن: (فاحش الخلق لئيم الضريبة).
وعن وهب الذَّماري قال: (تبكي السماء والأرض من رجل أتم اللَّه خلقه، وأرحب جوفه، وأعطاه مِقْضَمًا من الدنيا، ثم يكون ظلومًا للناس، فذلك العتل الزنيم).
والزنيم في كلام العرب هو الملصق بالقوم وليس منهم. قال ابن عباس: (والزنيم الدعيّ). وقال عكرمة: (الزنيم الذي يعرف باللؤم كما تعرف الشاة بزنمتها). وقيل: كانت في أذن الأخنس زنمة يعرف بها.
وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه أن مثل هذه الصفات هي صفات مَنْ أبغضه اللَّه وَوَعَدَهُ عذابه ونيرانه.
فقد أخرج البخاري عن حارثة بن وهب الخزاعي قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [ألا أخبركم بأهل الجنة؟ كُلُّ ضعيف متضعف، لو أقسم على اللَّه لأبرّه. ألا أخبركم بأهل النار؟ كُلُّ عتل جَوّاظ مستكبر](1).
وروى البيهقي وابن حبان بسند جيد عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [إنَّ اللَّه يبغض كل جعظري جوّاظ، سخّاب في الأسواق، جيفة بالليل، حمار بالنهار، عالم بأمر الدنيا، جاهل بأمر الآخرة](2).
والجعظري هو الفظ الغليظ المتكبِّر، والجواظ هو الجموع المنوع الأكول.
وقوله تعالى: {أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ} . أي: أفي مقابلة إنعام اللَّه تعالى عليه بالمال والولد، أعلن الكفر وكذب بالوحي واتّهم التنزيل أنه مأخوذ من أساطير الأولين؟ !
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (6071) - كتاب الأدب. وانظر تفصيل الجث في كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين (1/ 254 - 257).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البيهقي وابن حبان. انظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (1874)، والمرجع السابق (1/ 256).
وفي التنزيل نحو ذلك: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ} قال تعالى: {سَأُصْلِيهِ سَقَرَ} [المدثر: 11 - 25].
وقوله تعالى: {سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} . أي: سنكويه على أنفه مهانة له، بعلامة يعرف بها إذلالًا له، ويبدو أن هذا الوعيد في الدنيا والآخرة.
فعن ابن عباس: ({سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ} فقاتل يوم بدر، فخطم بالسيف في القتال). وعن قتادة قال: (سنسم على أنفه. قال: شين لا يفارقه آخر ما عليه).
قال الزمخشري: (الوجه أكرم موضع في الجسد، والأنف أكرم موضع من الوجه، لتقدّمه له، ولذلك جعلوه مكان العز والحميّة، واشتقوا منه "الأنَفَة" وقالوا: الأنف في الأنف، وحمى أنفه، وفلان شامخ العرنين. وقالوا في الذليل: جدع أنفه، ورغم أنفه. فَعبّر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة، لأن السمة على الوجه شين وإذالة، فكيف بها على أكرم موضع منه؟ قال: وفي لفظ {الْخُرْطُومِ} استخفاف به واستهانة، لأن أصل الخرطوم للخنزير والفيل. وقيل: سنعلمُه يوم القيامة بعلامة مشوّهة يبين بها عن سائر الكفرة، كما عادى رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم عداوة بان بها عنهم) انتهى.
17 -
33. قوله تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)}.
في هذه الآيات: انعكاسُ المكر السَّيِئ على أهله الماكرين، والشعور بالندم بعد
نزول الانتقام من اللَّه رب العالمين، وبقاء الأمل باللَّه بعد التوبة من الظلم فإن العذاب الحقيقي هو عذاب الجحيم.
فقوله: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} الآية. قال ابن جرير: (أي بلونا مشركي قريش، يقول: امتحناهم فاختبرناهم، {كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} يقول: كما امتحنا أصحاب البستان {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} يقول: إذ حلفوا ليصرمُنّ ثمرها إذا أصبحوا). وقال ابن كثير: (هذا مثل ضربه اللَّه لكفار قريش فيما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة، وأعطاهم من النِّعم الجسيمة، وهو بِعْثَةُ محمد صلى الله عليه وسلم، فقابلوه بالتكذيب والردِّ والمحاربة، ولهذا قال تعالى: {إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ}، أي: اختبرناهم، {كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ}، وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكه، {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ}، أي: حلفوا فيما بينهم ليجذُّن ثمرَها ليلًا، لِئلا يعلَم بهم فقير ولا سائل، ليتوفَّرَ ثمرُها عليهم ولا يتصدقوا منه بشيء).
وقوله تعالى: {وَلَا يَسْتَثْنُونَ} . قيل: ولا يقولون إن شاء اللَّه. قلت: والأرجح أن يقال: ولا يستثنون أحدًا من الفقراء بل يحرمون الكل. فإنه لا معنى لمن بيَّت ذلك الاستثناء بقول: إن شاء اللَّه.
وقوله تعالى: {فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} . قال ابن عباس: (طاف عليها أمر من اللَّه وهم نائمون). والمقصود: نزل بها بلاء أو آفة سماوية.
وقوله تعالى: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} . قال ابن عباس: (الصريم: الليل). أي: فأصبحت كالليل الأسود. وقال الثوري والسّدي: (مثل الزَّرع إذا حُصِدَ، أي: هَشيمًا يَبَسًا). والصريم في لغة العرب: المجدود المقطوع، كما يطلق على الليل المظلم لأنه يقطع بظلمته عن التصرف. والمقصود: احترقت الأرض واسودت كالليل المظلم، أو صُرِمَ عنها الخير: أي قطع وهلك ثمرها وشجرها.
وقوله تعالى: {فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ} . أي: نادى بعضهم بعضًا عند الصباح ليذهبوا إلى الجِذاذِ. وقوله تعالى: {أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} . أي: باكروا بالخروج إلى زرعكم إن كنتم تريدون الحصاد. قال القاسمي: ({إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ} أي قاصدين قطع ثمارها). وقد قطعها البلاء من أصلها بالليل وهم لا يشعرون.
وقوله تعالى: {فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ} . قال قتادة: (يُسِرّون). أي خرجوا بكرة وهم
يكتمون ذهابهم ويتسارّون فيما بينهم: {أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ} . أي: لا تمكنوا اليوم فقيرًا من الدخول عليكم.
وقوله تعالى: {وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ} . قال مجاهد: (على جِدّ قادرين في أنفسهم). وقال عكرمة: ({عَلَى حَرْدٍ}: على غيظ). قلت: وفي لغة العرب: (حَرَدَ) أي: قصد. والحَرَدُ بالتحريك الغضب. والمقصود: أي غدوا على قصد وبقوة وشدة {قَادِرِينَ} أي في زعهمم على ما أصروا عليه من الصرام وحرمان المساكين.
وقوله تعالى: {فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ} . قال قتادة: (أي أضللنا الطريق). والمقصود: فلما وصلوا إليها وأشرفوا عليها -وقد تغيرت حالها بما نزل بها من البلاء واستحالت نضارتها وزهرتها ووفرة ثمارها إلى أرض سوداء مدلهمة- أنكروها وشكّوا فيها هل هي جنتهم أم لا، وظنوا أنهم قد أخطؤوا الطريق.
وقوله تعالى: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ} . قال قتادة: (بل جوزينا فحُرمنا). قال ابن كثير: (ثم رجعوا عما كانوا فيه، وتيقنوا أنها هي فقالوا: {بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ}، أي: بل هي هذه، ولكن نحن لا حَظَّ لنا ولا نصيب).
وقوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} . قال ابن عباس ومجاهد: ({أَوْسَطُهُمْ}: أي أعدَلُهم وخيرهم). والمقصود: قال أمثلهم وأعدلهم وأعقلهم حين رأوا الهلاك الذي نزل بأرضهم: هلّا كنتم شكرتم اللَّه على ما أعطاكم وتبتم إليه من فساد نيتكم. وعن مجاهد: ({أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ} قال: يقول: تستثنون، فكان التسبيح فيهم الاستثناء). قال النحاس: (أصل التسبيح التنزيهُ للَّه عز وجل، فجعل مجاهد التسبيح في موضع إن شاء اللَّه، لأن المعنى تنزيه اللَّه عز وجل أن يكون شيء إلا بمشيئته).
قلت: والراجح ما ذكرناه، فإن تسبيح اللَّه يشتمل على شكره وإخلاص النية والقصد له، ويدل على ذلك قولهم بعد ذلك:{قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} . قال ابن عباس: (أي نستغفر اللَّه من ذنبنا {إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} لأنفسنا في منعنا المساكين). قال القرطبي: ({قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا} اعترفوا بالمعصية ونزهوا اللَّه عن أن يكون ظالمًا فيما فعل).
وقوله تعالى: {فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ} . قال ابن جرير: (يقول جل ثناؤه:
فأقبل بعضهم على بعض يلوم بعضهم بعضًا على تفريطهم فيما فرّطوا فيه من الاستثناء، وعزمهم على ما كانوا عليه من ترك إطعام المساكين من جنتهم).
وقوله تعالى: {قَالُوا يَاوَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ} . أي قال أصحاب الجنة: يا ويلنا إنا كنا عاصين بمنع حق الفقراء، وتركنا الاستثناء.
وقوله تعالى: {عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} . قال القاسمي: ({عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا} أي بتوبتنا إليه، وندمنا على خطأ فعلنا، وعزمنا على عدم العود إلى مثله. {إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ} أي في العفو عما فرط منا، والتعويض عما فاتنا).
وقوله: {كَذَلِكَ الْعَذَابُ} . قال ابن زيد: (عذاب الدنيا، هلاك أموالهم: أي عقوبة الدنيا). والمقصود: كذلك يكون العذاب في الدنيا لمن خالف الرسل وكفر بالحق وبغى الفساد في الأرض.
وقوله: {وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} . أي: ولعذاب الآخرة أعظم من عذاب الدنيا لو كان هؤلاء المشركون يفقهون. قال النسفي: ({لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} لما فعلوا ما يفضي إلى هذا العذاب). وقال ابن جرير: (يقول: لارتدعوا، وتابوا وأنابوا، ولكنهم بذلك جهال لا يعلمون).
34 -
41. قوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)}.
في هذه الآيات: ذكر مآل المتقين في روضات الجنات، التي لا يعتريها ما يعتري بساتين الدنيا من الشوائب وآلافات، والتفريق بين المسلمين والمجرمين، فالمؤمنون في سرور ونعيم، والكافرون هم وشركاؤهم في نار الجحيم.
فقوله تعالى: {إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ} . قال القرطبي: (أي إن للمتقين في الآخرة جنات ليس فيها إلا التنعم الخالص، لا يشوبه ما ينغّصه كما يشوب جنات الدنيا).
وقوله تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} . استفهام إنكار. أي: أفنساوي بين أهل الكرامة والطاعة وأهل الشقوة والمعصية في الجزاء، كلا لا يكون ذلك وربّ الأرض والسماء.
وقوله تعالى: {مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} . توبيخ على طريقة الالتفاف. قال النسفي: ({مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ} هذا الحكم الأعوج، وهو التسوية بين المطيع والعاصي، كأن أمر الجزاء مفوض إليكم حتى تحكموا بما شئتم).
وقوله تعالى: {أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ} . أي: أم بأيديكم كتاب منزل من السماء تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه بنقل الخلف عن السلف، متضمن حكمًا مؤكدًا كما تَدَّعُونه -المطيع فيه كالعاصي- فأنتم تختارون منه كما تشتهون؟ !
وقوله: {أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} . زيادة في التوبيخ. أي: أم لكم {أَيْمَانٌ} أي عهود ومواثيق {عَلَيْنَا بَالِغَةٌ} مؤكدة، فأنتم استوثقتم بهذه العهود على اللَّه تعالى في أن يدخلكم الجنة! ! قال الشهاب:(بالغة: متناهية في التوكيد). وأصله بالغة أقصى ما يمكن، فحذف منه اختصارًا. وقوله:{إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ} أي: إنه سيكون لكم ما تريدون وتأملون وتشتهون! ! كلا، ليس الأمر بهذه السذاجة كما تظنون وتحلمون.
وقوله تعالى: {سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ} . قال ابن عباس: (يقول: أيهم بذلك كفيل). والزعيم: الكفيل والضّمين. والمقصود: سل يا محمد هؤلاء المتقوّلين من المشركين أيهم كفيل بما تقدّم: من أن لهم من الخير ما للمسلمين، أو أنّ لهم من العهود والمواثيق ما يحصل لهم به سعادة الدارين؟ !
وقوله تعالى: {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} . أي: أم لهم شركاء من الأصنام والأنداد والطواغيت فهم لهم شهداء {فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ} فليشهدوا لهم على ما زعموا {إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ} في دعواهم. قال القرطبي: (وقيل: أي فليأتوا بشركائهم إن أمكنهم، فهو أمر معناه التعجيز).
42 -
47. قوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ
مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)}.
في هذه الآيات: ظهورُ الساق علامة لسجود المؤمنين في المحشر لرب العالمين، وحرمان اللَّه تعالى المنافقين أن يكونوا مع الساجدين، واستدراج اللَّه لهم قبل ذلك في دار الدنيا حتى يحيط بهم كيده المتين.
فقوله تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ} .
أي: إنّ ذلك التكريم للمتقين في جنات النعيم، والانتقام من المجرمين بصلي الجحيم، هو يوم القيامة يوم تظهر كلمة السر بين المؤمنين وربهم، وهي "صفة الساق" للَّه العظيم، فيخرون له ساجدين، ويكشف اللَّه حينئذ المنافقين.
وفي ذلك أحاديث:
الحديث الأول: أخرج البخاري ومسلم وأكثر أهل السنن وأحمد وابن حبان عن عطاء بن يَسار، عن أبي سعيد الخُدري قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: [يَكْشِفُ رَبُّنَا عن ساقِه، فَيَسْجُدُ له كُلُّ مؤمن ومؤمنة، ويبقى من كان يسجُد في الدنيا رياءً وسُمعةً، فيذهب ليسجُدَ فيعودُ ظهرُه طبقًا واحدًا](1).
الحديث الثاني: أخرج عبد اللَّه بن أحمد في "السنة" بسند صحيح عن ابن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [يجمع اللَّه الأولين والآخرين لميقات يوم معلوم أربعين سنة، شاخصة أبصارهم إلى السماء ينتظرون فصل القضاء، وينزل اللَّه في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي، ثم ينادي مناد: أيها الناس ألم ترضوا من ربكم الذي خلقكم ورزقكم وأمركم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئًا أن يولي كل ناس ما كان يتولى ويعبد في الدنيا؟ أليس ذلك عدلًا من ربكم؟ قالوا: بلى فينطلقون، فيتمثل لهم أشباه ما كانوا يعبدون، فمنهم من ينطلق إلى الشمس، ومنهم من ينطلق إلى القمر، وإلى الأوثان، ويتمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، ولمن كان يعبد عزيرًا شيطان عزير، ويبقى محمد وأمته، فيتمثل الرب عز وجل لهم فيأتيهم فيقول: ما لكم لا تنطلقون كما انطلق الناس؟ فيقولون: بيننا وبينه علامة فإذا رأيناه عرفناه، فيقول: ما هي؟ فيقولون:
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (4919)، (7439)، وهو جزء من حديث طويل. ورواه مسلم (183)، والترمذي (2598)، والنسائي (8/ 112)، وابن ماجة (179)، وأخرجه أحمد في المسند (3/ 16)، وابن حبان في صحيحه (7377).
{يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} . فعند ذلك يكشف عن ساقه فيخرون، ويبقى قومٌ ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون، ثم يقول: ارفعوا رؤوسكم، فيعطيهم نورهم على قدر أعمالهم، والرب عز وجل أمامهم] (1).
الحديث الثالث: أخرج الدارمي في سننه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [إذا جمع اللَّه العباد بصعيد واحد، نادى مناد: يلحق كل قوم بما كانوا يعبدون. ويبقى الناس على حالهم، فيأتيهم فيقول: ما بال الناس ذهبوا وأنتم هاهنا؟ فيقولون: ننتظر إلهنا. فيقول: هل تعرفونه؟ فيقولون: إذا تعرف إلينا عرفناه، فيكشف لهم عن ساقه فيقعون سجدًا وذلك قول اللَّه تعالى: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ}. ويبقى كل منافق فلا يستطيع أن يسجد، ثم يقودهم إلى الجنة](2).
قلت: فكان الإيمان بالأَسماء والصفات سببًا للنجاة يوم القيامة، لما اشتملت هذه الصفات على كلمة السر التي بين اللَّه وبين المؤمنين وهي "الساق" التي هي صفة من صفاته، وهي ساق تليق بجلاله وجماله وكماله، فليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وقد فَصَّلْتُ هذه الأبحاث في كتابي:"أصل الدين والإيمان، عند الصحابة والتابعين لهم بإحسان"، فلله الحمد والشكر وواسع الامتنان.
وأما ما ذهب إليه كثير من المفسرين إلى أن المقصود: {يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} أي عن شدة وكرب، فاستعير الساق والكشف عنها في موضع الشدة. أو قيل عن ساق العرش، أو غير ذلك من التكلف، فيقال: أَبَعْدَ هذا البيان من الوحي العظيم، يتلو تفسيره النبي الكريم، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، يكون هناك بيان لعالم أو حكيم! !
كلا، فإذا صَحّ الخبر عن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم مفسرًا ما أشكل فهمه من القرآن، فليس لأحد بعد ذلك مقال. وهذا هو المنهج الذي كان عليه علماء الصحابة والتابعون لهم من الراسخين في العلم.
(1) حديث صحيح. أخرجه بتمامه عبد اللَّه بن أحمد في "السنة" ص (177) - وهو حديث صحيح كما أفاد الذهبي وأقرّه الألباني. انظر: "مختصر العلو"(69 (ص (110).
(2)
حديث صحيح. أخرجه الدارمي في السنن (2/ 326)، وأورده الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة (584) وقال:(وهذا إسناد جيد رجاله ثقات رجال الصحيح).
وقوله: {خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} . {خَاشِعَةً} أي ذليلة، وهي في محل نصب حال من الضمير في يدعون، والتقدير: يدعون في حال خشوع أبصارهم {تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ} أي يعلوهم الصغار ويغشاهم.
وقوله: {وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} . أي: وقد كانوا يدعون في الدنيا إلى السجود للَّه وهم أصحاء سالمون مستطيعون. وعن إبراهيم التيمي: ({وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ} قال: إلى الصلاة المكتوبة). وقال سعيد بن جبير: (يسْمع المنادي إلى الصلاة المكتوبة فلا يجيبه). قال ابن عباس: (هم الكفار كانوا يدعون {إِلَى السُّجُودِ} في الدنيا وهم آمنون، فاليوم يدعوهم وهم خائفون. ثم أخبر اللَّه سبحانه أنه حَالَ بين أهل الشرك وبين طاعته في الدنيا والآخرة، فأما في الدنيا فإنه قال: {مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 20]، وأما في الآخرة فإنه قال: {فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ}).
وقوله: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ} . قال السدي: (يعني القرآن). وقيل: يوم القيامة. والمعنى: أي دعني -يا محمد- وكِلْ أمر هؤلاء المكذبين بالقرآن إليّ. وفيه تهديد ووعيد، وتسليةٌ للنبي صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ} . قال ابن عباس: (سنمكر بهم). أي سنملي لهم ونكيدهم من حيث لا يشعرون. وقال سفيان الثوري: (نُسْبِغُ عليهم النعم وننْسيهم الشكر). وقال الحسن: (كم مستَدْرَجٍ بالإحسان إليه، وكم مفتون بالثناء عليه، وكم مغرور بالسّتر عليه). وقال أبو رَوْق: (أي كلّما أحدثوا خطيئة جدّدنا لهم نعمة وأنسيناهم الاستغفار).
والاستدراج: ترك المعاجلة، وأصله النقل من حال إلى حال كالتدرّج.
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)} [المؤمنون: 55 - 56].
2 -
وقال تعالى: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ} [الأنعام: 44].
أخرج الإمام أحمد بسند صحيح عن عقبة بن عامر مرفوعًا: [إذا رأيت اللَّه يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج. ثم تلا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا
بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ}] (1).
وقوله: {وَأُمْلِي لَهُمْ} . أي أمهلهم وأؤخرهم وأُنْظِرهم وأطيل لهم المدة. والمُلاوة: المُدة من الدهر. والمقصود: إحقاق المكر والكيد بهم.
وفي الصحيحين وسنن الترمذي وابن ماجة عن أبي موسى رضي اللَّه تعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللَّه ليُملي للظالم حتى إذا أخذَهُ لم يُفْلِتْهُ. قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}](2).
وقوله: {إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} . قال النسفي: (قوي شديد، فسمّى إحسانه وتمكينه كيدًا كما سمّاه استدراجًا لكونه في صورة الكيد حيث كان سببًا للهلاك. والأصل أن معنى الكيد والمكر والاستدراج هو الأخذ من جهة الأمن، ولا يجوز أن يسمى اللَّه كائدًا وماكرًا ومستدرجًا).
وقوله تعالى: {أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ} . استفهام بمعنى النفي. أي: أم تسألهم -يا محمد- غرامة على تبليغ الرسالة، فهم من غرامة ذلك {مُثْقَلُونَ}. أي: فهو يثقل عليهم لما فيه من بذل المال والكلفة.
وقوله تعالى: {أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ} . قال ابن عباس: (الغيب هنا اللوح المحفوظ). قال ابن جرير: (يقول: أعندهم اللوح المحفوظ الذي فيه نبأ ما هو كائن، فهم يكتبون منه ما فيه، ويجادلونك به، ويزعمون أنهم على كفرهم بربهم أفضل منزلة عند اللَّه من أهل الإيمان به). وقيل: {يَكْتُبُونَ} : أي يحكمون لأنفسهم بما يريدون ويرغبون.
48 -
52. قوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ
(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد (4/ 145) وإسناده قوي. وقال الحافظ العراقي في "تخريج الإحياء"(4/ 115): (رواه أحمد والطبراني والبيهقي في "الشعب" بسند حسن).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (4686) - كتاب التفسير. وأخرجه مسلم (2583)، والترمذي (3110)، وابن ماجة (4018)، وابن حبان (5175)، والبيهقي (6/ 94).
الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)}.
في هذه الآيات: أَمْرُ اللَّه تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بالصبر، وكشف محاولات الكفار إصابته صلى الله عليه وسلم بالعين والسحر، واتهامه كذلك بالجنون، وهذا الوحي ونبي الحق إنما هما شرف للعالمين.
فقوله: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} . تَخْفِيفٌ عن النبي صلى الله عليه وسلم وتسليةٌ له. أي: اصبر يا محمد على أذى قومك لك وتكذيبهم، فإن اللَّه سيحكمُ لك عليهم، وامض في دعوتك، وستكون العاقبة لك وللمؤمنين في الدارين.
وقوله: {وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} . أي الذي حبسه في بطنه، وهو يونس بن متى عليه الصلاة والسلام. قال ابن جرير:({وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} فيعاقبك ربك على تركك تبليغ ذلك، كما عاقبه فحبسه في بطنه).
قال قتادة: ({وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ} يقول: لا تعجل كما عجل، ولا تغضب كما غضب).
وقوله: {إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} . قال ابن عباس: (يقول: مغموم). وقال عطاء: (مكروب). أي قد أثقله الكرب والغَمُّ وكظمه. قال النسفي: ({وَهُوَ مَكْظُومٌ} مملوء غيظًا، من كظم السقاء إذا ملأه).
وقوله: {لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ} . أي: لولا أن تداركه اللَّه برحمته واستجاب دعاءه. {لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ} : أي لنبذ من بطن الحوت بالفضاء من الأرض. {وَهُوَ مَذْمُومٌ} أي: معاتب بزلته. قال ابن عباس: ({وَهُوَ مَذْمُومٌ} يقول: وهو مليم). وقال المعتمر عن أبيه عن أبي بكر: (وهو مذنب).
وفي التنزيل نحو ذلك:
1 -
قال تعالى: {فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144)} [الصافات: 143 - 144].
2 -
وقال تعالى: {وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)} [الأنبياء: 87 - 88].
وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن إبراهيم بن محمد بن سعد، عن أبيه سعد قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [دعوةُ ذي النون إذْ دعا وهو في بطن الحوت: {لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ} [الأنبياء: 87]. فإنه لم يَدْعُ بها رجُلٌ مُسْلِمٌ في شيء قطُّ إلا استجابَ اللَّه له] (1).
وقوله تعالى: {فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ} . أي اصطفاه ربه واختاره وقبل دعاءه وعذره وجعله من المستكملين لصفات الصلاح. قال ابن عباس: (ردّ اللَّه إليه الوَحي، وشفَّعه في نفسه وفي قومه، وقبِل توبته، وجعله من الصالحين بأن أرسله إلى مئة ألف أو يزيدون).
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خيرٌ من يونس بن مَتّى](2).
وقوله تعالى: {وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} .
قال ابن عباس: (يقول: ينفذونك بأبصارهم من شدة النظر. قال: يقال للسهم: زهق السهم أو زلق). وفي رواية: (يقول: ليزهقونك بأبصارهم). وقال قتادة: (لينفذونك بأبصارهم، معاداة لكتاب اللَّه ولذكر اللَّه). وقال الضحاك: (يقول: ينفذونك بأبصارهم من العداوة والبغضاء). وقال الكلبي: (ليصرعونك).
وقرأها عامة قراء المدينة {لَيُزْلِقُونَكَ} بفتح الياء، وأما عامة قراء الكوفة والبصرة فقرؤوها {ليُزلقونك} بضم الياء، وكلاهما مشهور عند أهل العلم بالقراءات، فإن العرب تقول لمن يحلق الرأس: أزلقه وزلقه.
وقال ابن جرير: (إنه عُني بذلك: وإن يكاد الذين كفروا مما عانوك بأبصارهم ليرمون بك يا محمد، ويصرعونك، كما تقول العرب: كاد فلان يصرعني بشدة نظره إليّ. قالوا: وإنما كانت قريش عانوا رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم ليصيبوه بالعين، فنظروا إليه ليعينوه، وقالوا: ما رأينا رجلًا مثله، أو إنه لمجنون، فقال اللَّه لنبيه عند ذلك: (وإن يكاد الذين كفروا ليرمونك بأبصارهم).
قلت: والعجيب أن هؤلاء الجاهليين كانوا يؤمنون بإصابة العين وتأثيرها،
(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3505). وانظر صحيح سنن الترمذي -حديث رقم- (2785).
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (3416)، (4631)، ومسلم (2379)، وأبو داود (4669)، وابن حبان (6238). ورواه أحمد (1/ 390) من حديث عبد اللَّه مرفوعًا.
ويعلمون صحة ذلك وصلته بالحسد، في حين ترى كثيرًا من الناس اليوم لا يكادون يفقهون معنى الحسد أو السحر أو العين ولا يؤمنون بشيء من هذا، بل ينسبونه إلى الخرافة وإلى أساطير الأولين، وكثير منهم واقع تحت نار السحر والعين والحسد من حيث لا يدري.
قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: (وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق بأمر اللَّه عز وجل.
قلت: وفي القرآن آيات تدل على تأثير العين، منها هذه الآية في سورة القلم، وآيتان في سورة يوسف:
1 -
قال الضحاك: (خاف عليهم العين). وقال قتادة: (خشي نبي اللَّه صلى الله عليه وسلم العينَ على بنيه كانوا ذوي صورة وجمال). وفي رواية: (كانوا قد أوتوا صورة وجمالا فخشي عليهم أَنْفُسَ الناس). وقال السدي: (خاف يعقوب صلى الله عليه وسلم على بنيه العين فقالوا: {لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ} فيقال: هؤلاء لرجل واحد! ولكن ادخلوا من أبواب متفرقة).
وكذلك قال ابن إسحاق: (لما أجمعوا الخروج، خشي عليهم أعين الناس، لهيأتهم، وأنهم لرجل واحد).
2 -
قال مجاهد: ({إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا}: خيفة العين على بنيه). وقال ابن جرير: (إلا أنهم قضوا وطَرًا ليعقوب بدخولهم، لا من طريق واحد، خوفًا من العين عليهم، فأطمانت نفسه أن يكونوا أُتوا من قبل ذلك، أو نالهم من أجله مكروه).
وأما السنة العطرة فقد أسهمت بقسط وافر في الدلالة على أثر العين وسبيل الوقاية والعلاج منها. ومن ذلك أحاديث:
الحديث الأول: يروي البخاري في صحيحه عن أم سلمة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم-
رأى في بيتها جارية في وجهها سفعة فقال: [استرقوا لها فإن بها النظرة](1).
الحديث الثاني: يروي مسلم في الصحيح عن ابن عباس قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [العين حق، ولو كان شيء سابقَ القدر سبقته العين، وإذا استُغْسلتم فاغسلوا](2).
أي: متى عُرِفَ الحاسد، يؤمرُ بالوضوء أو الغسل، ثم يُجْمَعُ ذلك الماء الذي تطهَّرَ به فَيُغْسَلُ به المحسود فيشفى بإذن اللَّه، وهذا من الطب النبوي الذي يجهله كثير من الناس.
الحديث الثالث: أخرج ابن ماجة بسند صحيح: [أنّ أسماء بنت عميس قالت: يا رسول اللَّه! إن ولد جعفر تسرع إليهم العين، فأسترقي لهم؟ فقال: نعم، فإنه لو كان شيء سابقَ القدر لسبقته العين](3).
الحديث الرابع: أخرج أحمد بسند حسن عن عائشة قالت: [دخلَ النبي صلى الله عليه وسلم فسمع صوت صبي يبكي فقال: ما لصبيكم هذا يبكي؟ فهلا استرقيتم له من العين؟ ](4).
الحديث الخامس: أخرج ابن ماجة بسند صحيح عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [استعيذوا باللَّه من العين، فإن العين حق](5).
الحديث السادس: أخرج أحمد بسند صحيح عن أبي ذر مرفوعًا: [إن العين لتولع الرجل بإذن اللَّه حتى يصعد حالقًا ثم يتردّى منه](6).
وفي رواية: [إن العين لتوقع الرجل].
وله شاهد عنده وعند الطبراني بسند حسن من حديث ابن عباس بلفظ: [العين حق، تستنزل الحالق]. أي للعين من الأثر بإذن اللَّه أن تسقط الرجل من الجبل الشاهق المرتفع.
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في الصحيح (5739)، كتاب الطب، باب رُقْية العين.
(2)
حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (2188)، كتاب السلام، باب الطب والمرض والرقي.
(3)
حديث صحيح. انظر صحيح ابن ماجة (2829)، كتاب الطب، باب من استرقى من العين.
(4)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (6/ 72). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1048).
(5)
حديث صحيح. أخرجه ابن ماجة (2/ 356)، والحاكم (4/ 215)، والديلمي (1/ 1/ 48).
(6)
حديث صحيح. أخرجه أحمد (5/ 146). وانظر السسلسلة الصحيحة (889). والشاهد رواه أحمد (1/ 274)، والحاكم (4/ 215)، والطبراني كما في "المجمع"(5/ 107).
الحديث السابع: أخرج أبو نُعيم في "الحلية" بسند حسن عن جابر مرفوعًا: [العينُ تُدْخِلُ الرجلَ القبرَ، والجمل القِدْر](1).
الحديث الثامن: يروي الطيالسي والبزار بسند حسن عن جابر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [أكثر من يموت من أمتي بعد قضاء اللَّه وقدره بالعين](2).
وفي رواية: [أكثر من يموت من أمتي بعد كتاب اللَّه وقضائه وقدره بالأنفس. يعني بالعين].
وقوله تعالى: {وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ} . قال القاسمي: (أي عِظة وحكمة وتذكير وتنبيه لهم، على ما في عقولهم وفطرهم من التوحيد. فكيف يُجَنَّنُ من جاء بمثله؟ ).
والمقصود: ما هذا القرآن الذي يعادونه، ويعادون النبي صلى الله عليه وسلم الذي نزل عليه، فيرمونه بأبصارهم ويقولون {إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ} -لعدم تمالك أنفسهم من الحسد منه والتنفير عنه-، إلا عِظَةٌ من اللَّه لهم لعلهم يرجعون وينزجرون، ويدركون أن هذا النبيّ شرف للعالمين، شرفوا باتباعه والإيمان به صلى الله عليه وسلم.
تم تفسير سورة القلم بعون اللَّه توفيقه، وواسع منّه وكرمه عصر الخميس 15 شوال 1426 هـ الموافق 17/ تشرين الثاني/ 2005 م
* * *
(1) حديث حسن. أخرجه أبو نعيم في "الحلية"(7/ 90)، وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (1249).
(2)
حديث حسن. رواه البزار والطيالسي والبخاري في "التاريخ" من حديث جابر. انظر صحيح الجامع الصغير -حديث رقم- (1217).