الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
69 - سورة الحاقة
وهي سورة مكية، وعدد آياتها (52).
موضوع السورة
الحاقة وأهوال القيامة والحساب
-
منهاج السورة
-
1 -
التنبيه ليوم القيامة بصيغة التفخيم، ولفت الانتباه إلى طغيان الأمم السابقة ونزول العذاب العظيم.
2 -
ذكر الأحداث الرهيبة لبدء القيامة والحساب، من النفخ في الصور وحركة الأرض والجبال وانشقاق السماء ليبدأ بعد ذلك العرض ثم الثواب والعقاب.
3 -
توزيع الكتب يوم القيامة، فالفرحة العظيمة لأصحاب اليمين، والخزي والندامة لأصحاب الشمال في نار الجحيم.
4 -
تأكيد الوحي والنبوة بإقسام اللَّه بعالمي الغيب والشهادة، والقرآن كتاب اللَّه الذي تفرد إليه سبحانه الطاعة والعبادة.
5 -
المبالغة بوصف العقاب لو افترى الرسول هذا الكتاب، وهذا القرآن فيه تذكرة للمتقين، ويحمل الحسرة والندامة للكافرين.
بسم الله الرحمن الرحيم
1 -
12. قوله تعالى: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)}.
في هذه الآيات: التنبيهُ ليوم القيامة بصيغة التفخيم، ولَفْتُ الانتباه إلى طغيان الأمم السابقة ونزول العذاب العظيم، واللَّه تعالى يجعل في ذلك الذكرى وهو العزيز الحكيم.
فقوله تعالى: {الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ} . قال ابن عباس: ({الْحَاقَّةُ}: من أسماء يوم القيامة، عظّمه اللَّه، وحذّره عباده). وقال عكرمة: (الحاقة: القيامة). وقال قتادة: ({الْحَاقَّةُ}: يعني الساعة، أحقت لكل عامل عمله). أو قال: (أحقت لكلّ قوم أعمالهم).
والمقصود: {الحَاقَّةُ} اسم من أسماء يوم القيامة كالصّاخة والطّامة والقارعة والواقعة. وسميت بذلك لأن الأمور تُحَقّ فيها، وفيها يتحقق الوعدُ والوعيد.
وقوله تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} . استفهام يفيد شدّ الانتباه وتعظيم شأن المُسْتَفهم عنه. قال قتادة: ({وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ}: تعظيمًا ليوم القيامة كما تسمعون). وقال سفيان بن عُيينة: (كل شيء قال فيه: {وَمَا أَدْرَاكَ} فإنه أُخبر به، وكل شيء قال فيه: "وما يُدريك" فإنه لم يُخبر به).
قال القرطبي: ({وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ} أي: أيّ شيء أعلمك ما ذلك اليوم. والنبي صلى الله عليه وسلم-
كان عالمًا بالقيامة ولكن بالصفة. فقيل تفخيمًا لشأنها: وما أدراك ما هي؟ كأنك لستَ تعلمها إذ لم تعاينها).
وقوله تعالى: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ} . القارعة: اسم من أسماء القيامة. قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: كذّبت ثمود قوم صالح، وعاد قوم هود بالساعة التي تقرع قلوب العباد فيها بهجومها عليهم).
وقوله تعالى: {فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ} . قال قتادة: (الطاغية الصيحة). وقال مجاهد: (الطاغية الذنوب). وقال ابن زيد: (إنها طغيان، وقرأ: {كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا} [الشمس: 11]). وقال السدي: ({فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ}: يعني عاقر الناقة).
قلت: والراجح أنها الصيحة التي زلزلتهم، وأسكنتهم وأهمدتهم. يدل على ذلك قوله تعالى بعد ذلك:{وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} . فدل أن المراد أسلوب الهلاك.
قال ابن عباس: (قوله: {وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ} يقول: بريح مهلكة باردة، عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة، دائمة لا تَفْتُر). وقال قتادة: (والصرصر الباردة، عتت عليهم حتى نقبت عن أفئدتهم). وقال الثوري: ({عَاتِيَةٍ} أي: شديدة الهبوب).
وقوله: {سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا} . أي: سَلَّطها عليهم سبع ليال وثمانية أيام كوامل متتابعات مشائيم. قال ابن عباس: ({حُسُومًا}: تباعًا). وقال مجاهد: (متتابعة). وقال قتادة: (متتابعة ليس لها فترة).
وعن سفيان: ({أَيَّامٍ حُسُومًا} قال: متتابعة، و {أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ} [فصلت: 16] قال: مشائيم). وقال ابن زيد: ({حُسُومًا} حسمتهم لم تُبْقِ منهم أحدًا).
وقوله: {فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ} . قال ابن عباس: (خَرِبة).
أي: فترى -يا محمد- قوم عاد بعد الرياح العاتية التي سُلطت عليهم كأنهم أصول نخل قد خوت. وقال أبو الطفيل: ({خَاوِيَةٍ} أي بالية). وقيل: (خاوية: ساقطة).
قال القاسمي: (أي ساقطة مجتثة من أصولها كآية: {كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ} [القمر: 20]). قال القرطبي: (يحتمل أنهم شُبِّهوا بالنخل التي صرعت من أصلها، وهو إخبار عن عِظَم أجسامهم. ويحتمل أن يكون المراد به الأصول دون الجذوع، أي
إن الريح قد قطعتهم حتى صاروا كأصول النخل خاوية. أي الريح كانت تدخل أجوافهم فتصرعهم كالنخلة الخاوية الجوف).
وقال ابن كثير: (أي: جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخرّ مَيِّتًا على أمِّ رأسِه، فينشَدِخُ رأسُه وتبقى جُثَّته كأنها قائمةُ النخلةِ إذا خَرَّت بلا أغصان).
أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: [نُصِرْتُ بالصَّبا، وأُهْلِكَت عادٌ بالدَّبورِ](1).
وقوله تعالى: {فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ} . أي فهل ترى يا محمد لعاد قوم هود من بقاء أو بقية. لقد بادوا عن آخرهم، ولم يبق اللَّه لهم خلَفًا.
وقوله تعالى: {وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ} . أي بالفِعلة الخاطئة. قال الربيع: (أي: بالمعصية). وقال مجاهد: (بالخطايا). والمؤتفكات: قرى قوم لوط ائتفكت -أي انقلبت- بهم.
والمقصود: جاء فرعون ومن قبله من الأمم المكذبة كقوم نوح وعاد وثمود {وَالْمُؤْتَفِكَاتُ} وهي قرى قوم لوط {بِالْخَاطِئَةِ} أي بالفَعْلة الخاطئة، وهي التكذيب بما أنزل اللَّه والإصرار على الكفر والظلم.
وقوله: {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ} . قال ابن كثير: (وهذا جِنسٌ، أي: كُلٌّ كَذَّبَ رسولَ اللَّه إليهم. كما قال تعالى: {كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ} [ق: 14]. ومن كذّب برسولٍ فقد كَذَّبَ بالجميع، كما قال تعالى: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ}، {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ}، {كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105، 123، 141]. وإنما جاء إلى كل أمة رسولٌ واحد).
وقوله: {فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} . قال ابن عباس: (يعني أخذة شديدة). وقال السدي: (مهلكة).
قال القرطبي: ({فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} أي عالية زائدة على الأخذات وعلى عذاب الأمم. ومنه الرّبا إذا أخذ في الذهب والفضة أكثر مما أعطى. يقال: ربا الشيء يربو أي زاد وتضاعف. وقال مجاهد: شديدة. كأنه أراد زائدة في الشدة).
وقوله تعالى: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ} . طغا الماء: أي: ارتفع وعلا. قال
(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري (3205)، كتاب بدء الخلق. وكذلك (1035)، ورواه مسلم.
ابن عباس: (يعني كثر الماء ليالي غرّق اللَّه قوم نوح). والجارية: السفينة.
والمقصود: لما أصرّ قوم نوح على الكفر وتكذيب الوحي والنبوة أرسل اللَّه عليهم ماء السماء فكثر حتى تجاوز حده المعروف فكان الطوفان وغرق القوم الكافرين، ونجّى اللَّه بسفينة نوح المؤمنين.
وفي الآية زجر لهذه الأمة عن الاقتداء بهم في معصية الرسول. وفيه امتنانٌ من اللَّه عليهم أن جعلهم ذرية من نجا من الغرق بقوله: {حَمَلْنَاكُمْ} أي حملنا آباءكم وأنتم في أصلابهم، ومن ثمّ فالناس كلهم من سلالة نوح وذريته.
وقوله: {لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً} . قال النسفي: (أي الفعلة، وهي إنجاء المؤمنين وإغراق الكافرين {لَكُمْ تَذْكِرَةً} عبرة وعظة). وقال ابن كثير: ({لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً}، عاد الضمير على الجنس لدلالة المعنى عليه، أي وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيار الماء في البحار، كما قال: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ} [الزخرف: 12 - 13]. وقال تعالى: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} [يس: 41 - 42]).
وقيل: أبقى اللَّه السفينة حتى أدركها أوائل هذه الأمة. ذكره قتادة.
قلت: والراجح من السياق أن المراد قصة النجاة في سفينة الحق التي حملت نبيَّ اللَّه نوحًا صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا منه، فهي التي تحمل العبرة والذكرى للأجيال المؤمنة التي ستعقب هذا الحدث إلى يوم القيامة، ويدل على ذلك ختام الآية، وهو قوله تعالى:{وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} . أي: وتفهم هذه الآية العظيمة والمعجزة الإيمانية أذن عقلت عن اللَّه مراده فانتفعت بما سمعت من آيات كتابه.
وعن ابن عباس: ({وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} يقول: حافظة). أو قال: (يقول: سامعة، وذلك الإعلان). وقال قتادة: ({وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ} قال: أذن عقلت عن اللَّه، فانتفعت بما سمعت من كتاب اللَّه). وقال الضحاك: (سمعتها أذن ووعت).
13 -
18. قوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ
عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)}.
في هذه الآيات: ذِكْرُ الأحداث الرهيبة لبدء القيامة والحساب، من النفخ في الصور وحركة الأرض والجبال وانشقاق السماء ليبدأ بعد ذلك العرض ثم الثواب والعقاب.
فقوله تعالى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} . قال القاسمي: (أي: لخراب العالم).
قال أبو السعود: (هذا شروع في بيان نفس الحاقة، وكيفية وقوعها، إثر بيان عظم شأنها بإهلاك مكذبيها).
وعن ابن عباس: ({فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} قال: هي النفخة الأولى لقيام الساعة، فلم يبق أحد إلا مات). وقال الربيع: (هي النفحة الأخيرة).
قلت: والراجح أنها النفخة الأولى -نفخة الفزع- التي تعقبها نفخة الصعق ثم نفخة القيام للَّه رب العالمين. ودليل ذلك الآية بعدها: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} ، وهذا منسجم مع آية سورة النمل:{وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ} [النمل: 87 - 88].
قال ابن كثير: (وقد أكّدها هاهنا بأنها {وَاحِدَةٌ}، لأن أمر اللَّه لا يُخالف ولا يُمانَع، ولا يحتاجُ إلى تكرار وتأكيد).
وقوله تعالى: {وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} . قال النسفي: (رفعتا عن موضعهما {فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً} دقتا وكسرتا، أي ضرب بعضها ببعض حتى تندق وترجع كثيبًا مهيلًا وهباء منبثًا).
والمقصود: تبدلت الأرض غير الأرض، ونسفت الجبال فكانت هباء منبثًا، لابتداء أمور القيامة من الحشر والحساب. وفي قوله:{فَدُكَّتَا} دليل على إدماج الجبال كلها جملة واحدة لتدك مع الأرض.
وقوله تعالى: {فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ} . أي: فحينئذ نزلت النازلة وهي القيامة.
وقوله: {وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} . أي: وانصدعت السماء وتفطرت فهي يومئذ ضعيفة متصدعة. كما قال تعالى: {وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا} [الفرقان: 25]. وعن ابن عباس: ({فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ} هو: يعني متمزّقة ضعيفة).
وقوله: {وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا} . أي: على ما استدقّ من السماء ينظرون إلى أهل الأرض. قال ابن عباس: (يقول: والملك على حافات السماء حين تشقق). وقال قتادة: (على نواحيها). وقال سعيد بن المسيب: (الأرجاء حافات السماء).
وقوله: {وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ} . أي: ويحمل عرش الرحمن يوم القيامة ثمانية من الملائكة العظام.
أخرج الطبراني بسند جيد عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [أُذِنَ لي أَنْ أُحَدِّثَ عن ملك من حملة العرش رجلاه في الأرض السفلى وعلى قرنه العرش، وبين شحمة أذنيه وعاتِقه خفقان الطير سبع مئة عام، يقول ذلك الملك: سبحانك حيث كنت](1).
وأخرج أبو داود بسند صحيح من حديث جابر بن عبد اللَّه: أنَّ رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة اللَّه تعالى حملة العرش، ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبع مئة سنة](2).
وقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ} .
أي: يومئذ تعرضون على ربكم للحساب والجزاء، لا تخفى منكم سريرة وحال كانت تخفى في الدنيا بستر اللَّه. قال النسفي:({يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ} للحساب والسؤال، شُبِّهَ ذلك بعرض السلطان العسكر لتعرّف أحواله).
وقد قال ابن أبي الدنيا: أخبرنا إسحاق بن إسماعيل، أخبرنا سفيانُ بن عُيينة، عن جعفر بن بُرْقان، عن ثابت بن الحجاج قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تُحَاسَبُوا، وزِنوا أنْفُسَكم قبل أن توزَنوا، فإنه أخفُّ عليكم في الحساب غدًا أن تُحاسبوا أنفسكم اليوم، وتزّينوا للعرض الأكبر: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}).
19 -
24. قوله تعالى: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23)
(1) حديث صحيح. أخرجه الطبراني بسند جيد من حديث أنس. انظر صحيح الجامع الصغير (866).
(2)
حديث صحيح. أخرجه أبو داود في السنن (4727). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة (151).
كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)}.
في هذه الآيات: وَصْفُ الفرحة العظيمة لمن استقبل كتابه بيمينه يوم الدين، فهو في عيشة ناعمة في الملذات في جنات النعيم.
فقوله: {فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ} . فيه بدء تفصيل العرض. وإعطاء الكتاب باليمين دليل على النجاة.
وقوله: {فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ} . قال القرطبي: (أي يقول ذلك ثقة بالإسلام وسرورًا بنجاته، لأن اليمين عند العرب من دلائل الفرح، والشِّمال من دلائل الغَمّ).
وعن ابن زيد: ({هَاؤُمُ} أي: تعالوا). وقال مقاتل: (هُلُمَّ). وقيل: أي خذوا، ومنه الخبر في الربا "إلا هاءَ وهاءَ" أي يقول كل واحد لصاحبه: خذ. قال القتيبي: (والأصل هاكم فأبدلت الهمزة من الكاف). وقال ابن السِّكيت والكسائي: (العرب تقول هاءَ يا رجل اقرأ، وللاثنين هاؤما يا رجلان، وهاؤم يا رجال، وللمرأة هاءِ وهاؤما وهاؤمْنَ).
وأما الهاء في قوله: {كِتَابِيَهْ} فهي للسكت، لا ضمير غيبة.
وقوله تعالى: {إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ} قال ابن عباس: (يقول: أيقنت).
وقال قتادة: (ظن ظنًا يقينًا، فنفعه اللَّه بظنه). والمعنى: إني علمت أني ملاق جزائي وتكريمي يوم القيامة فأعددت له عدته من الإيمان والعمل الصالح.
وقوله تعالى: ({فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ}. قال الفراء: ({رَاضِيَةٍ} أي مرضية).
وقيل: ذات رِضًا، أي يرضى بها صاحبها.
والمقصود: فهو في عيش هنيء يرضاه لا ينغصه مكروه.
وقوله تعالى: {فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} . قال ابن جرير: (يقول: في بستان عال رفيع).
وقال النسفي: ({فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ} رفيعة المكان أو رفيعة الدرجات أو رفيعة المباني والقصور، وهو خبر بعد خبر). والمعنى: في جنة عظيمة في النفوس، فوق الطموح والآمال في رفعتها ودرجاتها وقصورها ونعيمها وملاذها.
وقوله تعالى: {قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} . أي ثمارها قريبة متناولة، ينالها راغبها وهو على حاله من القيام أو القعود أو الاضطجاع. قال قتادة: (دنت فلا يردّ أيديهم عنها بعد
ولا شوك). وعن أبي إسحاق قال: سمعت البراء يقول في هذه الآية: ({قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ} قال: يتناول الرجل من فواكهها وهو نائم).
والقطوف: جمع قِطْف، وهو ما يُقطَفُ من الثمار. والقَطْف بالفتح المصدر، والقِطاف وقت القطف.
وقوله تعالى: {كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ} .
أي: ويقال لهم تكريمًا: كلوا واشربوا أكلًا وشربًا {هَنِيئًا} لا مكروه فيه ولا تكدير ولا تنغيص {بِمَا أَسْلَفْتُمْ} : أي بما قدمتم في أيام دنياكم من الأعمال الصالحة.
وفي التنزيل نحو هذه الآيات، قال تعالى:{فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا} [الانشقاق: 7 - 9].
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إن اللَّه يدني المؤمن فيضَع عليه كنَفَهُ (1) ويستره فيقول: أتعرِفُ ذنبَ كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ فيقول: نعم أي ربّ، حتى قرَّره بذنوبه، ورأى في نفسه أنه قد هلك، قال: سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم، فيُعطى كتاب حسناته. وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الخلائق: {هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} [هود: 18]] (2).
25 -
37. قوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)}.
في هذه الآيات: وَصْفُ مشهد الندم والخزي لمن أوتي كتابه بشماله يوم الدين، فهو اليوم في السلاسل والحميم وطعام الغسلين في نار الجحيم.
(1) أي: حفظه وستره.
(2)
حديث صحيح. أخرجه البخاري (2441)، ومسلم (2768)، وأحمد (2/ 74).
فقوله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} .
إخبار عن حال أهل الشقوة حين توزع عليهم كتبهم في أرض المحشر بشمائلهم، فيجدون فيها حصائد أعمالهم، فيندمون غاية الندم، فيقول قائلهم:{يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ} . قال النسفي: (لما يرى فيها من الفضائح).
وقوله تعالى: {وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ} . أي: يتمنى أن لم يكن أعطي الكتاب، ولم يدر ما الحساب.
وقوله تعالى: {يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ} . قال الضحاك: (أي موتة لا حياة بعدها).
وقال قتادة: (تمنى الموت، ولم يكن في الدنيا شيء أكره عنده من الموت).
وقوله تعالى: {مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} . أي لم يدفع عني مالي ولا جاهي العذاب، فأصبحت أسير عملي، فلا ناصر ولا مجير ولا معين.
وعن ابن عباس: ({هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} يقول: ضلّت عني كل بينة فلم تغن عني شيئًا). وقال عكرمة: ({هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ} قال: حجتي). وقال ابن زيد: (سلطان الدنيا).
وقوله تعالى: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31)} . أي: فعند ذلك يأمر اللَّه تعالى ملائكته من خُزّان جهنم بسحبه من أرض المحشر ووضع الأغلال في عنقه ثم بإلقائه في نار جهنم ليصلى فيها، ولتغمره بسعيرها.
وقوله تعالى: {ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} .
قال القاسمي: ({ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ} أي حلقة منتظمة بأخرى، وهي بثالثة، وهَلُمَّ جرا. {ذَرْعُهَا} أي: مقدارها {سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ} فأدخلوه فيها. أي: لفّوه بها، بحيث يكون فيما بين حلقها مرهقًا، لا يقدر على حركة).
وقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ} . تعليل استحقاقه ذلك الخزي والعذاب. فلقد كان لا يوقن باللَّه العظيم المستحق للعظمة وحده، بل كان يشرك معه الأنداد والطواغيت، فيصرف لهم من العبادة والتعظيم ما لا ينبغي إلا للَّه الواحد القهار.
وقوله تعالى: {وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} . قال القرطبي: (بَيَّنَ أنه عُذّب على ترك الإطعام وعلى الأمر بالبخل، كما عُذّب بسبب الكفر. والحَضُّ: التحريض والحَثّ).
والمقصود: إنه قد جمع إلى الكفر، الشح والبخل، والدعوة إلى ذلك.
وقوله تعالى: {فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ} . أي: فليس له اليوم قريب تأخذه الحمية له كما كان له في الدنيا مما يأنس به عند النائبات والشدائد.
وقوله تعالى: {وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ} . قال ابن عباس: (صديد أهل النار). أو قال: (ما يخرج من لحومهم). وقال قتادة: (شر الطعام وأخبثه وأبشعه). قلت: والغِسْلين فِعْلين من الغَسل، والمقصود: من غسالة أبدان أهل النار وصديدهم. وقوله تعالى: {لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ} . أي: الآثمون، أصحاب الإصرار على الخطايا والآثام.
قال ابن جرير: (يقول: لا يأكل الطعام الذي من غسلين إلا الخاطئون، وهم المذنبون الذين ذنوبهم كفر باللَّه).
38 -
43. قوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)}.
في هذه الآيات: تأكيدُ الوحي والنبوة بإقسام اللَّه تعالى بعالمي الغيب والشهادة، فهو الكتاب الحق كلام اللَّه تعالى الذي تفرد إليه العبادة.
فقوله تعالى: {فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} . أي: ما الأمر كما تكذبون معشر المشركين. بل أقسم بجميع الأشياء مما ترون ومما لا ترون أن هذا القرآن قول الرسول الكريم، أوحاه إليه رب العالمين. قال ابن زيد:({فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ} قال: أقسم بالأشياء، حتى أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون).
وقوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} . قال النسفي: ({إِنَّهُ} أي إن القرآن {لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} أي محمد صلى الله عليه وسلم أو جبريل عليه السلام، أي يقوله ويتكلم به على وجه الرسالة من عند اللَّه).
وقوله تعالى: {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} . أي: وما هذا القرآن بقول شاعر، فمحمدٌ صلى الله عليه وسلم لا يحسن قيل الشعر. قال قتادة:(طهّره اللَّه من ذلك وعصمه). إنكم قليلًا ما تصدقون أنتم -معشر المشركين من قريش- بما ظهر صدقه وبيانه، ووضح برهانه، ظلمًا وعنادًا وعتوًا.
وقوله تعالى: {وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} . قال قتادة: (طهّره من الكهانة،
وعصمه منها). قال القاسمي: ({وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ} أي كما تدعون أخرى بأنه من سجع الكهان {قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ} أي تتعظون وتعتبرون).
فنفى عنهم الإيمان أولًا ثم الذكرى ثانيًا: لأن اتهام القرآن بالشعر بالغة من الكذب، فهم أهل الفصاحة والعلم بصناعة العرب والشعراء. ثم إن الكهان يأخذون جُعْلًا، ويتكلفون السجع والكذب، وإدخال الأخبار ببعضها، فأين الذكرى لهم في ذلك!
وقوله تعالى: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} . أي: وإنما هذا القرآن تنزيل من {رَبِّ الْعَالَمِينَ} : الذي ربّاهم بصنوف نعمه، وما خلقهم عبثًا ولا تركهم للضياع، بل أكرمهم بالوحي والنبوة، ليوصلهم إلى سبل السعادة ومناهج الفلاح.
44 -
52. قوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)}.
في هذه الآيات: المبالغةُ بوصف العقاب لو افترى الرسول هذا الكتاب، وإنما هو كلام اللَّه العظيم، فيه تذكرة للمتقين، ويحمل الحسرة والندامة للكافرين.
فقوله تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} . قال ابن كثير: (يقول تعالى: {وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا} أي: محمد صلى الله عليه وسلم أو كان كما يزعُمون مفتريًا علينا، فزاد في الرِّسالة أو نقصَ منها، أو قال شيئًا من عنده فنسبه إلينا، وليس كذلك، لعاجَلناه بالعقوبة. ولهذا قال تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ}، قيل: معناه: لانتقمنا منه باليمين، لأنَّها أشدُّ في البَطْش. وقيل: لأخذنا بيمينه).
قلت: فهناك تأويلان متكاملان لقوله تعالى: {لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ} :
التأويل الأول: أي لأخذنا منه بالقوة منا والقدرة. ذكره ابن جرير واختاره.
التأويل الثاني: أي لأخذنا منه باليد اليمنى من يديه. فهو كقول السلطان إذا أراد الاستخفاف ببعض من بين يديه لبعض أعوانه: خذ بيده، فأقمه، وافعل به كذا وكذا، والمقصود الإهانة. قال الزمخشري: (المعنى لو ادّعى علينا شيئًا لم نقله لقتلناه صبرًا،
كما يفعل الملوك بمن يتكذب عليهم، معاجلة بالسخط والانتقام. فصوّر قتل الصبر بصورته ليكون أهول. وهو أن يؤخذ بيده، وتضرب رقبته. وخصّ اليمين عن اليسار، لأن القاتل إذا أراد أن يوقع الضرب في قفاه أخذ بيساره، وإذا أراد أن يوقعه في جيده، وأن يكفحه بالسيف، وهو أشد على المصبور، لنظره إلى السيف، أخذ بيمينه).
وقوله تعالى: {ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ} . قال ابن عباس: (وهو نياطُ القلبِ، وهو العِرْق الذي القلب مُعَلَّقٌ فيه). وقال مجاهد: (الوتين: حبل القلب الذي في الظهر). وقال الضحاك: (وتين القلب: وهو عرق يكون في القلب، فإذا قطع مات الإنسان).
وقوله تعالى: {فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} . أي: فما منكم أيها الناس من أحد يحجزنا عن محمد ومعاقبته لو تقول علينا بعض الأقاويل.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} . قال قتادة: (القرآن). أي: وإنّ هذا القرآن عظة يتعظ به أهل الإيمان والتقوى، لئلا يندرجوا مع أهل الكفر والشقوة.
وقوله تعالى: {وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ} . قال الربيع: (بالقرآن). أي: وإنا لنعلم أنه مع هذا البيان والإعجاز لهذا القرآن فإن منكم من يكذب به، إيثارًا للدنيا والهوى.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ} . أي: وإنه لتحسر وندم سيلحق بالكافرين بهذا القرآن يوم القيامة.
وقوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ} . قال ابن جرير: (يقول: وإنه للحق اليقين الذي لا شك فيه أنه من عند اللَّه، لم يتقوّله محمد صلى الله عليه وسلم).
وقوله تعالى: {فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ} . قال ابن عباس: (أي فصَلّ لربك). وقيل: أي نزه اللَّه عن السوء والنقائص.
تم تفسير سورة الحاقة بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه عصر السبت 17 شوال 1426 هـ الموافق 19/ تشرين الثاني/ 2005 م
* * *