المَكتَبَةُ الشَّامِلَةُ السُّنِّيَّةُ

الرئيسية

أقسام المكتبة

المؤلفين

القرآن

البحث 📚

‌ منهاج السورة - التفسير المأمون على منهج التنزيل والصحيح المسنون - جـ ٨

[مأمون حموش]

فهرس الكتاب

- ‌60 - سورة الممتحنة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌61 - سورة الصف

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌62 - سورة الجمعة

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاح السورة

- ‌آداب خاصة بيوم الجمعة:

- ‌الأدب الأول: الغُسْل لصلاة الجمعة:

- ‌الأدب الثاني: التبكير لصلاة الجمعة:

- ‌الأدب الثالث: لبس أحسن الثياب والتسوك والتماس أجمل الطيب:

- ‌ما يستحب من الأذكار والأدعية يوم الجمعة:

- ‌أولًا: الإكثار من الصلاة والسلام على النبي صلى الله عليه وسلم

- ‌ثانيًا: قراءة سورة الكهف:

- ‌ثالثًا: الإكثار من الدعاء رجاء مصادفة ساعة الإجابة:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌63 - سورة المنافقون

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌64 - سورة التغابن

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌65 - سورة الطلاق

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌66 - سورة التحريم

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌أسباب نزول هذه الآيات:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌67 - سورة الملك

- ‌ذكر ما جاء في فضلها من أحاديث:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌68 - سورة القلم

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌69 - سورة الحاقة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌70 - سورة المعارج

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌71 - سورة نوح

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌72 - سورة الجن

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌73 - سورة المزمل

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌74 - سورة المدثر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌75 - سورة القيامة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌76 - سورة الإنسان

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌77 - سورة المرسلات

- ‌الأحاديث الواردة في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌78 - سورة النبأ

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌79 - سورة النازعات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌80 - سورة عبس

- ‌سبب نزول السورة:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌81 - سورة التكوير

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌82 - سورة الانفطار

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌ دروس ونتائج وأحكام

- ‌83 - سورة المطففين

- ‌ما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌84 - سورة الإنشقاق

- ‌الأحاديث الواردة في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌85 - سورة البروج

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌86 - سورة الطارق

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌87 - سورة الأعلى

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌88 - سورة الغاشية

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌89 - سورة الفجر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌90 - سورة البلد

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌91 - سورة الشمس

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌92 - سورة الليل

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌93 - سورة الضحى

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌94 - سورة الشرح

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌95 - سورة التين

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌96 - سورة العلق

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌97 - سورة القدر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌فضائل ليلة القدر وما ورد في تعيينها من أحاديث:

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌98 - سورة البينة

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌99 - سورة الزلزلة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌100 - سورة العاديات

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌101 - سورة القارعة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌102 - سورة التكاثر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌103 - سورة العصر

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌104 - سورة الهمزة

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌105 - سورة الفيل

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌106 - سورة قريش

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌107 - سورة الماعون

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌108 - سورة الكوثر

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌109 - سورة الكافرون

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌110 - سورة النصر

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌111 - سورة المسد

- ‌أسباب النزول:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌112 - سورة الإخلاص

- ‌فضائلها وما ورد في ذكرها:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌113 - سورة الفلق

- ‌فضائل المعوذتين وما ورد في ذكرهما:

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

- ‌114 - سورة الناس

- ‌موضوع السورة

- ‌ منهاج السورة

- ‌دروس ونتائج وأحكام

الفصل: ‌ منهاج السورة

‌85 - سورة البروج

وهي سورة مكية، وعدد آياتها (22).

وثبت في السنة الصحيحة أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم كان يجعل الركعتين الأخيرتين من صلاة الظهر أقصر من الأوليين، و [كان -أحيانًا- يقرأ بـ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} وبـ {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ونحوهما من السور](1).

وأخرج النسائي بسند صحيح عن جابر بن سمرة: [أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم، كان يقرأ في الظهر والعصر، بـ {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ}، {وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ} ونحوهما](2).

‌موضوع السورة

القسم بالسماء ذات البروج وأيام الجمعة وعرفة والقيامة أن العذاب واقع بالمجرمين، وأن المؤمنين أهل البر والعمل الصالح مُسْتَقَرّهُم في جنات النعيم.

-‌

‌ منهاج السورة

-

1 -

قسم اللَّه تعالى بالسماء ويوم القيامة ويوم الجمعة ويوم عرفة، أن أصحاب الأخدود الذين فتنوا المؤمنين سيلقون عذابه وسخطه.

(1) انظر صحيح مسلم - كتاب المساجد، ومسند الطيالسي. وتفصيل ذلك في "صفة صلاة النبي" - الألباني - ما كان يقرؤه صلى الله عليه وسلم في الصلوات - ص (94 - 95).

(2)

حسن صحيح. أخرجه النسائي في السنن "صحيح النسائي - 936" كتاب الافتتاح، باب القراءة في الركعتين الأوليين من صلاة العصر. وانظر صحيح سنن الترمذي (252).

ص: 394

2 -

البشرى للمؤمنين أهل الصالحات والقربات بجنات النعيم، والوعيد الشديد على الطغاة أمثال فرعون بنار الجحيم.

3 -

هذا القرآن مجيد عزيز ليس بالسحر ولا بالشعر كما يقولون، وهو مكتوب في اللوح المحفوظ لو كانوا يعلمون.

بسم الله الرحمن الرحيم

1 -

10. قوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)}.

في هذه الآيات: يقسم اللَّه تعالى بالسماء ذات النجوم العظام، وباليوم الموعود يوم القيامة الذي فيه يكون الثواب أو الانتقام، وبالشاهد يوم الجمعة أعظم الأيام، وبالمشهود يوم عرفة يوم حجّ أهل الإسلام، أنه قد لُعن الطغاة أصحاب الأخدود وأمثالهم، الذين قهروا المؤمنين وفتنوهم عن دينهم.

فقوله تعالى: {وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ} . أي: النجوم العظام. قال ابن عباس: (البروج: النجوم). وفي التنزيل نحو ذلك، قال تعالى:{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا} [الفرقان: 61].

وقوله تعالى: {وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ} . قسم آخر من اللَّه تبارك وتعالى باليوم الموعود -وهو القيامة-، وبالشاهد -وهو يوم الجمعة-، وبالمشهود -وهو يوم عرفة.

فقد أخرج الترمذي بسند حسن -عند تفسير هذه الآيات- عن أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [اليوم الموعود يومُ القيامة، واليوم المشهودُ يومُ عرفةَ، والشاهِدُ يومُ

ص: 395

الجمعة. قال: وما طلعت الشَّمسُ ولا غربت على يَوْمٍ أفضلَ مِنْهُ، فيه ساعةٌ لا يُوافِقُها عَبْدٌ مؤمِنٌ يدعو اللَّه بخير إلا استجابَ اللَّه لهُ، ولا يَستعيذُ مِنْ شيءٍ إلا أعاذَهُ اللَّه مِنْهُ] (1).

وله شاهد عند الطبراني بسند حسن لغيره عن أبي مالك الأشعري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [اليوم الموعود يوم القيامة، وإن الشاهد يوم الجمعة، وإن المشهود يوم عرفة، ويوم الجمعة ذخره اللَّه لنا، وصلاة الوسطى صلاة العصر](2).

قلت: فاليوم الموعود هو اليوم الذي وُعِدَ به الخلائق للحشر والحساب، والشاهد يوم الجمعة وفيه تقوم الساعة ويشهد محمد صلى الله عليه وسلم وأمته على الأم، واليوم المشهود يوم عرفة تشهده الملائكة، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله تعالى: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ} . هذا جواب القسم. أي لعن الطغاة أصحاب الأخدود.

قال ابن عباس: (كل شيء في القرآن {قُتِلَ} فهو لُعِنَ). والأخدود: الحفيرُ في الأرض. قال البخاري: (قال مجاهد: {الْأُخْدُودِ}: شقٌّ في الأرض).

والآية خبرٌ من اللَّه تعالى عن قوم من الكفار عمدوا إلى من عندهم من المؤمنين فقهروهم ليرجعوا عن دينهم، فلما أبوا، عمدوا إلى تأجيج النار في أخاديد حفروها فقذفوهم فيها وهم ينظرون إليهم.

وهو قوله تعالى: {النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} .

النار: بدل اشتمال من الخدود.

والوقود: الحطب الذي توقد به. وقوله: {إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ} . أي: لُعِنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين على الكراسي عند الأخدود {وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} من عرض المؤمنين على النار ليرجعوا عن دينهم {شُهُودٌ} أي حضور، وهم كذلك يشهدون على أنفسهم بما فعلوا يوم القيامة، ثم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم. وعن قتادة:({وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ} يعني بذلك الكفار). والمراد بهذا التأويل: حضور، أي

(1) حديث حسن. أخرجه الترمذي (3339)، كتاب التفسير. انظر صحيح سنن الترمذي (2659).

(2)

حسن لغيره. أخرجه الطبراني (3458). وانظر سلسلة الأحاديث الصحيحة ج (4) ص (5) عقب الحديث (1502). وانظر صحيح الجامع الصغير (8056) - (8057).

ص: 396

كانوا يعرضون الكفر على المؤمنين، فمن أبى ألقوه في النار وهم شهود لذلك التعذيب. فبالتأويل الأول {عَلَى} بمعنى "مع" أي: وهم: مع ما يفعلون بالمؤمنين شهود. وبالتأويل الثاني: وهم على ما فعلوه بالمؤمنين في الدنيا شهود على أنفسهم يوم القيامة. وكلا التأويلين صحيح.

وقوله تعالى: {وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} .

أي: وما وجَدَ هؤلاء الكفار -الذين فتنوا المؤمنين- على المؤمنين والمؤمنات إلا أنهم أخلصوا الإيمان باللَّه {الْعَزِيزِ} أي الغالب الشديد في انتقامه من أعدائه {الْحَمِيدِ} . أي: المحمود بإحسانه إلى خلقه، والمحمود في كل حال.

وفي السنة الصحيحة حديثان في آفاق هذه الآيات:

الحديث الأول: روى مسلم في الصحيح، والنسائي في السنن والتفسير، وأحمد في المسند، عن صُهَيب، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: [كانَ مَلِكٌ فيمَنْ كان قَبْلكُمْ، وكانَ له ساحِرٌ، فَلَمَّا كَبُرَ قال للملك: إني قَدْ كَبُرْتُ فابْعَثْ إليَّ غُلامًا أُعَلِّمْهُ السِّحْر، فبَعَثَ إليه غُلامًا يُعَلِّمُهُ، فكان في طَريقِهِ، إذا سَلَكَ، راهِبٌ، فَقَعَدَ إليه وسَمِعَ كلامَهُ، فأعْجَبَهُ، فكانَ إذا أتى الساحِرَ مَرَّ بالراهب وقَعَدَ إليه، فإذا أتى الساحِرِ ضَرَبَهُ، فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: إذا خَشيتَ السَّاحِرَ فَقُلْ: حَبَسَنَي أَهْلي، وإذا خَشيتَ أهلكَ فَقُلْ: حَبَسَني السَّاحِرُ، فبينما هو كذلكَ إذْ أتى على دابَّةٍ عَظيمةٍ قَدْ حَبَسَتِ الناس، فقال: اليَوْمَ أَعْلَمُ السَّاحِرُ أفضلُ أمِ الراهِبُ أفضَلُ؟ فَأَخَذَ حَجَرًا فقال: اللهمَّ! إنْ كانَ أمرُ الراهب أحبَّ إليكَ مِنْ أَمْرِ السَّاحِرِ فاقْتُل هذه الدّابةَ، حتى يمضيَ الناسُ، فرَماها فقَتَلها، ومضى الناسُ، فأتى الراهِبَ فأخبَرَهُ، فقال له الراهِبُ: أي بُنَيَّ! أنْتَ، اليومَ، أفْضَلُ مني، قد بَلَغَ مِنْ أَمْرِكَ ما أَرى، وإنَّكَ سَتُبْتَلَى، فإن ابْتُليتَ فلا تَدُلّ عليَّ، وكان الغلامُ يُبْرِئُ الأكْمَهَ والأبْرَصَ ويُداوي الناسَ مِنْ سائِرِ الأدواء، فَسَمِعَ جليسٌ للمَلِكِ كانَ قد عَمِيَ، فأتاه بهدايا كثيرةٍ، فقال: ما هاهُنَا لكَ أَجْمَعُ، إنْ أَنْتَ شَفَيْتَني، فقال: إني لا أَشْفي أحَدًا، إنما يشفي اللَّهُ، فَإنْ أنْتَ آمَنْتَ باللَّه دَعَوْتُ اللَّهَ فشفاكَ، فآمَنَ باللَّهِ، فَشَفَاهُ اللَّهُ، فأتى المَلِكَ فَجَلَسَ إليه كما كان يَجْلِسُ، فقال له المَلِكُ: مَن رَدَّ عَلَيْكَ بَصَرَكَ؟ قال: رَبِّي، قال: أوَلَكَ رَبٌّ غَيْري؟ قال: رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ، فَأَخَذهُ فلمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حتى دَلَّ على الغُلامِ، فَجِيءَ بالغُلامِ، فقالَ له المَلِكُ: أيْ بُنَيَّ! قَدْ بَلَغَ مِنْ سِحْرِكَ ما تُبْرِئُ الأَكْمَهَ والأَبْرَصَ وتَفْعَلُ وتَفْعَلُ، فقال: إني لا أَشْفِي أحَدًا، إنَّمَا يَشْفِي اللَّهُ، فَأَخَذَهُ فَلَمْ يَزَلْ يُعَذِّبُهُ حتى دَلَّ على الراهِبِ، فَجِيءَ بالراهِبِ،

ص: 397

فقيل له: ارْجِعْ عَنْ دِينكَ، فأبى فدعا بالمِئْشارِ، فوضَعَ المِئْشَارَ في مَفْرِقِ رَأْسِهِ، فَشَقَّهُ به حتى وَقعَ شِقَّاهُ، ثم جِيءَ بِجليسِ الملكِ فَقِيلَ لهُ: ارْجِعْ عن دينكَ فأبى، فوضَعَ المِئْشَارَ في مَفْرِق رأسه، فَشَقَّهُ به حتى وقَعَ شِقَّاه، ثم جِيء بالغُلام فقيل له: ارْجِعْ عن دينكَ، فأبى، فَدَفَعَهُ إلى نَفَرٍ مِنْ أَصْحابِه فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا، فاصْعَدوا به الجَبَلَ، فإذا بَلَغْتُم ذِرْوَتَهُ، فإنْ رَجَعَ عَنْ دِينِهِ، وإلّا فاطْرَحُوهُ، فذهبوا به فَصَعِدُوا بهِ الجَبَلَ، فقال: اللهُمَّ! اكْفِنيهِمْ بما شِئْتَ، فَرَجَفَ بِهمُ الجَبَلُ فسقَطُوِا، وجاءَ يمشي إلى الملك، فقال له الملِكُ: ما فَعَلَ أصْحابُك؟ قال: كفانِيهِمُ اللَّهُ، فدَفَعَهُ إلى نَفَرٍ مِنْ أصْحَابِهِ فقال: اذْهَبُوا به فاحُمِلُوه في قُرْقُور (1)، فتوسَّطُوا به البَحْرَ، فَإنْ رَجَعَ عن دينه وإلا فاقْذِفُوه، فذهبوا به، فقال: اللهمَّ! اكْفِنيهِمْ بما شئت، فانْكَفَأَت بهم السفينةُ فَغَرِقُوا، وجاءَ يَمْشي إلى الملكِ، فقال له الملكُ: ما فَعَلَ أصْحابُكَ؟ فقال: كَفَانِيهِمُ اللَّهُ، فقال للمَلِكِ: إنَّكَ لَسْتَ بِقَاتِلي حتى تَفْعَلَ ما آمُرُكَ بِهِ، قال: وما هُوَ؟ قال: تَجْمَعُ الناسَ في صَعيدٍ واحِدٍ، وتَصْلُبُني على جِذْعٍ، ثُمَّ خُذْ سَهْمًا مِنْ كِنَانَتي، ثُمَّ ضَعِ السَّهْمَ في كَبِدِ القَوْسِ، ثُمَّ قُلْ: باسْمِ اللَّه، رَبِّ الغُلامِ، ثم ارْمِني، فإنَّكَ إذا فَعَلْتَ ذلك قَتَلْتَني، فَجمعَ الناسَ في صَعيدٍ واحِدٍ، وصَلَّبَهُ على جِذْعٍ، ثمَّ أَخَذَ سَهْمًا مِنْ كِنانَتِهِ، ثُمَّ وَضَعَ السَّهْمَ في كَبِدِ القَوْس ثُمَّ قال: باسْمِ اللَّه، ربِّ الغُلامِ، ثم رَمَاهُ فوضَعَ السَّهم في صُدْغِهِ، فوضَعَ يَدَهُ في صُدْغِهِ في مَوْضِع السَّهم فماتَ، فقال الناس: آمَنَّا بِرَبِّ الغُلامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الغُلامِ، آمَنَّا بِرَبِّ الغُلام، فَأُتِيَ المَلِكُ فَقيلَ له: أَرَأَيْتَ ما كُنْتَ تَحْذَرُ؟ قَدْ، واللَّهِ! نزَلَ بِكَ حَذَرُكَ، قَدْ آمَنَ الناسُ، فَأَمَرَ بالأُخْدودِ بأفْواهِ السِّكَك (2) فَخُدَّتْ وأَضْرَمَ النِّيرانَ، وقال: مَنْ لَمْ يَرْجِعْ عن دينِهِ فَأَحْمُوهُ فيها، أَوْ قِيلَ لَهُ: اقْتَحِمْ، فَفَعَلُوا حتى جاءت امرأةٌ ومَعَها صَبِيٌّ لها، فتقاعَسَتْ (3) أن تَقَعَ فيها، فقال لها الغُلامُ: يا أمَّهِ اصْبِرِي، فإنَّكِ على الحق] (4).

الحديث الثاني: أخرج الترمذي في السنن بإسناد على شرط البخاري ومسلم عن

(1) القرقور: السفينة الصغيرة.

(2)

أفواه السكك: أي أبواب الطرق.

(3)

أي توقفت ولزمت موضعها وكرهت الدخول في النار.

(4)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (3003) كتاب الزهد. وأخرجه النسائي في "التفسير"(681)، وفي "السنن"(614)، وأخرجه أحمد في المسند (6/ 17).

ص: 398

صهيب قال: [كان رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم، إذا صلى العصر همس، -والهمس في قول بعضهم: تحرك شفتيه كأنه يتكلم- فقيل له: إنك يا رسول اللَّه إذا صليت العصر همست. قال: "إنَّ نبيًّا من الأنبياء كان أُعْجِبَ بأمَّتِه فقال: مَنْ يقومُ لهؤلاء، فأوحى اللَّه إليه أن خَيِّرْهُم بينَ أنْ أنتقِمَ منهم وبين أنْ أسَلِّطَ عليهم عَدُوَّهُمْ؟ فاختاروا النِّقْمَةَ، فسَلَّطَ عليهم المَوْتَ، فماتَ مِنهم في يوم سبعون ألفًا".

قال: وكانَ إذا حَدَّثَ بهذا الحديث، حَدثَ بهذا الحديثِ الآخَرِ.

عن صهيب أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال: "كان مَلِكٌ مِنَ المُلوك، وكان لذَلِكَ المَلِكِ كاهِنٌ يَكْهَنُ لهُ، فقال الكاهِنُ: انظروا إليّ غُلامًا فَهِمًا أو قال: فَطِنًا لقنًا فأَعَلِّمَهُ عِلْمي هذا فإني أخاف أنْ أموتَ فينقطِعَ مِنكمُ هذا العِلْمُ ولا يكونَ فيكُم مَنْ يَعْلَمُهُ. قال: فنظروا لهُ على ما وَصَفَ فأمَرُوه أنْ يَحْضُرَ ذلك الكاهِنَ وأَنْ يَخْتَلِفَ إليه. فَجَعَلَ يختلف إليه وكان على طريقِ الغُلام راهبٌ في صَوْمَعَةٍ. . . فَذَكَرَ القصة السابقة بتمامها إلى أن قال: فوَضَعَ الغلام يَدَهُ على صُدْغِهِ حينَ رُمِيَ ثُمَّ ماتَ، فقال أناسٌ: لقد عَلِمَ هذا الغُلام عِلْمًا ما عَلِمَهُ أحدٌ فإنّا نُؤْمِنُ بِرَبِّ هذا الغُلامِ، قال: فقيل للملِكِ أَجَزِعْتَ أنْ خَالَفَكَ ثلاثَةٌ فهذا العالمُ كُلُّهمُ قد خالفوك، قال: فخَذَّ أخدُودًا ثُمَّ ألقى فيها الحَطَبَ والنار ثُمَّ جَمَعَ الناسَ فقال: مَنْ رَجَعَ عَنْ دينه ترَكناهُ ومَنْ لمْ يرجِعْ أَلْقَيْناهُ في هذه النار، فجعلَ يُلْقيهم في تِلكَ الأخدُودِ. قال: يقول اللَّه تبارك وتعالى فيه: {قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ} حتى بلغ {الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ} قال: فأما الغلامُ فإنَّهُ دُفِنَ، قال: فَيُذكَرُ أنه أُخْرِجَ في زَمَنِ عُمَرَ بنِ الخَطّاب وإصْبَعُهُ على صُدْغِهِ كما وَضَعَها حينَ قُتِلَ"] (1).

وقوله تعالى: {الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} .

أي: وما نقموا منهم إلا أن يؤمنوا باللَّه الذي له ملك السماوات والأرض، فكل من فيهما تحق عليه عبادته والخشوع له. قال النسفي:(لأن ما نقموا منهم هو الحق الذي لا ينقمه إلا مبطل، وأن الناقمين أهل لانتقام اللَّه منهم بعذاب عظيم {وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} وَعِيدٌ لهم، يعني أنه علم ما فعلوه وهو مجازيهم عليه). وقيل: وهو وَعِيدُ خير -كذلك- لمن عذبوه على دينه من أولئك المؤمنين.

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي في السنن (3340)، وإسناده على شرط البخاري ومسلم. وانظر صحيح سنن الترمذي (2660) - (2661)، كتاب التفسير، سورة البروج.

ص: 399

وقوله: {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ} . قال ابن عباس: (حَرَّقوا المؤمنين والمؤمنات). وقال مجاهد: (عَذّبوا).

وقوله: {ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا} . أي: ثم لم يتوبوا من كفرهم، ويقلعوا عن فعلهم بالمؤمنين والمؤمنات ما فعلوا، ويندموا على ما أسلفوا. قال الحسن البصري:(انظروا إلى هذا الكرم والجود، قتلوا أولياءَه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة).

وقوله: {فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ} . أي لهم عذابان منوعان: عذاب على كفرهم، وعذاب على فتنتهم المؤمنين وحرقهم، فإن الجزاء من جنس العمل، فيضاعف لهم العذاب.

وقيل هما واحد، أو من باب عطف الخاص على العام للمبالغة فيه.

قال القاسمي: (والأظهر أنهما واحد، وإنه من عطف التفسير والتوضيح).

قلت: والأول أرجح، فإن تضاعف العذاب على أئمة الكفر والإجرام ثابت في القرآن والسنة.

ففي التنزيل:

1 -

قال تعالى: {الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ} [هود: 19 - 20].

2 -

وقال تعالى: {لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ} [النحل: 25].

3 -

وقال تعالى: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ} [الأعراف: 38].

أخرج الإمام أحمد في المسند، والطبراني في "المعجم الكبير" بإسناد صحيح من حديث خالد بن الوليد قال: سمعت رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم يقول: [أشد الناس عذابًا عند اللَّه يوم القيامة أشدُّهم عذابًا للناس في الدنيا](1).

(1) حديث صحيح. أخرجه أحمد في المسند (4/ 90)، والحميدي (562)، والطبراني في "المعجم الكبير"(1/ 190/ 2)، وإسناده صحيح. انظر سلسلة الأحاديث الصحيحة - حديث رقم (1442)، وصحيح الجامع الصغير (1009).

ص: 400

وفي رواية: [أشدُّ الناس عذابًا للناس في الدنيا، أشدُّ الناس عذابًا عند اللَّه يوم القيامة].

11 -

22. قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)}.

في هذه الآيات: البشرى للمؤمنين أهل الصالحات والقربات بجنات النعيم، والتهديد والوعيد على الطغاة أمثال فرعون وثمود بصلي الجحيم، وهذا القرآن مجيد عزيز ليس بالسحر أو الشعر كما يقولون، مكتوب في اللوح المحفوظ لو كانوا يعلمون.

فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} .

تسلية للمؤمنين الصابرين، على جرائم الطغاة الماكرين، فإن لهم البشرى والإقامة في جنات النعيم، في حين يقيم الكافرون في عذاب الحريق ولهيب الجحيم.

وقوله: {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} . قال القرطبي: (أي العظيم، الذي لا فوز يشبهه).

وقوله تعالى: {إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ} . أي: إن أخذه تعالى للجبابرة والطغاة والظلمة أليم شديد، كما قال جلت عظمته:{وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ} [هود: 102].

وفي صحيح البخاري عن أبي موسى رضي اللَّه تعالى عنه قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: [إنَّ اللَّه ليُملي للظالم حتى إذا أخذه لم يُفْلِته. قال: ثم قرأ: {وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ}](1).

وقال المبرد: ({إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ} جواب القسم). والتقدير عنده: والسماء ذات

(1) حديث صحيح. أخرجه البخاري في كتاب التفسير (4686)، سورة هود، آية (102).

ص: 401

البروج إن بطش ربك، وما بينهما مُعْترض مؤكِّد للقسم، واللَّه تعالى أعلم.

وقوله تعالى: {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ} . قال الضحاك: (يعني الخلق). وقال ابن زيد: (يبدئ الخلق حين خلقه، ويعيده يوم القيامة). فهو دلالة على كمال قدرته وقوته جلت عظمته، وفيه تهديد ووعيد للطغاة المجرمين، على ما يفعلون بالمؤمنين ويحاربون الدين.

وقوله تعالى: {وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ} . قال البخاري: (وقال ابن عباس: {الْوَدُودُ}: الحبيب). والمعنى: إنه تعالى بالغ المغفرة لذنوب عباده المؤمنين لا يفضحهم بها، بالغ المحبة للمطيعين من أوليائه. وقال ابن زيد:({الْوَدُودُ}: الرحيم).

قلت: والودود: فعولٌ بمعنى مفعول، من الوُدِّ، فاللَّه تعالى مودود، أي: محبوب في قلوب أوليائه، أو هو فعولٌ بمعنى: فاعل، أي: أن اللَّه تعالى يَودُّ عباده الصالحين، بمعنى: يرضى عنهم.

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ} [هود: 90].

2 -

وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا} [مريم: 96].

وفي جامع الترمذي بسند صحيح عن أبي هريرة، أن رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أَحَبَّ اللَّه عَبْدًا نادى جِبْرَئيل: إني قَدْ أحْبَبْتُ فُلانًا فأحِبَّهُ. قال: فينادي في السماء، ثم تُنْزَلُ لَهُ المَحَبَّةُ في أهل الأرض، فذلك قولُ اللَّه: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}] الحديث (1).

وقوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} . قال ابن عباس: (يقول: الكريم).

والمقصود: أي صاحب العرش الكريم، أو صاحب العرش المُعَظَّم العالي على جميع الخلائق.

فالمجيد فيه قراءَتان: الرفع على أنه صفة للرب سبحانه. وهذه قراءة أهل مكة والمدينة والبصرة. والجرِّ على أنه صفة للعرش. وهذه قراءة أهل الكوفة.

قلت: وهما قراءتان مشهورتان في الأمصار، وإن كنت أفضِّل القراءة بالرفع

(1) حديث صحيح. أخرجه الترمذي (3161)، كتاب التفسير. سورة مريم، آية (96).

ص: 402

لانسجامها أكثر مع السياق، فاللَّه هو الغفور الودود المجيد الفعال لما يريد، فالآيات في موضع الثناء والمدح للَّه تعالى.

والمجيد: هو الواسع الكرم، وقيل: هو الشريف. قال تعالى: {إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ} [هود: 73].

وفي سنن النسائي بإسناد صحيح عن أبي ليلى قال: [قال لي كعب بن عُجرة: ألا أُهدي لك هدية؟ قلنا: يا رسول اللَّه، قد عرفنا كيف السلام عليك، فكيف نصلي عليك؟ قال: قولوا: اللهم صلّ على محمد، وآل محمد، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد. اللهم بارك على محمد وآل محمد، كما باركت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد](1).

وقوله تعالى: {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} . أي: لا يمتنع عليه شيء يريده، فمهما أراد فعله، لا معقب لحكمه، ولا يُسأل عما يفعل، لكمال جبروته وعلمه وحكمته.

قال الزمخشري: ({فَعَّالٌ} خبر ابتداء محذوف. وإنما قيل: "فعّال" لأن ما يريد ويفعل في غاية الكثرة).

وقال الفراء: (هو رفع على التكرير والاستئناف، لأنه نكرة محضة).

وعن أبي السّفر -سعيد بن يحمد الهمداني- قال: (دخل ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على أبي بكر رضي الله عنه يعودونه فقالوا: ألا نأتيك بطبيب؟ قال: قد رآني! قالوا: فما قال لك؟ قال: قال: إني فَعَّالٌ لما أريد).

وفي التنزيل نحو ذلك:

1 -

قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} [المائدة: 1].

2 -

وقال تعالى: {وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} [البقرة: 253].

وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:[إذا أرادَ اللَّه خلقَ شيء لم يمنعه شيء](2).

وقوله تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} . استفهام بمعنى التقرير. أي:

(1) حديث صحيح. انظر صحيح سنن النسائي (1221 - 1222 - 1223) ص (267 - 277)، وأصل الحديث في الصحيحين، وله روايات كثيرة مشهورة.

(2)

حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (1438) ح (133)، كتاب النكاح، في أثناء حديث.

ص: 403

قد أتاك يا محمد خبر الجموع الكافرة المكذبة لأنبيائهم، التي تجمع لهم الأجناد لقتالهم، وكيف أحل اللَّه بأسه ونقمته بهم. وفيه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم عما يلقاه من تكذيب قومه وأذاهم.

وقوله تعالى: {بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ} . أي: بل هؤلاء المشركون من العرب في تكذيب شديد لك -يا محمد-، ولما جئت به من الوحي، ولم يعتبروا بما حلّ بالأمم المكذبة قبلهم من الهلاك والمصائب والدمار.

وقوله تعالى: {وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ} . أي: واللَّه تعالى قادر عليهم، قَاهرٌ لهم، لا يفوتونه ولا يعجزونه، قد أحاط بأعمالهم وآجالهم ومصائرهم.

وقوله تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ} . قال قتادة: (يقول: قرآن كريم).

أي: بل هو قرآن عظيم متناه في الشرف والكرم والبركة، وليس كما يقولون إنه شعر وسحر وكهانة.

قوله تعالى: {فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ} . قال مجاهد: (في أم الكتاب). قال قتادة: (عند اللَّه).

قال ابن كثير: (أي: هو في الملأ الأعلى محفوظ من الزيادة والنقص والتحريف والتبديل).

وقال القرطبي: (أي مكتوب في لوح. وهو محفوظ عند اللَّه تعالى من وصول الشياطين إليه. وقيل: هو أمّ الكتاب، ومنه انتُسِخَ القرآن والكتب).

تم تفسير سورة البروج بعون اللَّه وتوفيقه، وواسع منّه وكرمه عصر الاثنين 19 - ذي القعدة - 1426 هـ الموافق 19/ كانون الأول/ 2005 م

ص: 404