الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
{كَذلِكَ حَقَّتْ} أي كما صرف هؤلاء عن الإيمان ثبتت كلمة ربك أي حكمه {عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا} كفروا، وهي {لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ} أو هي {أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} .
المناسبة:
بعد أن أبان الله تعالى جناية المشركين على أنفسهم باتخاذهم الأنداد والشركاء، ذكر أدلة فساد مذهبهم وهو عبادة الأوثان، وإذا فسد مذهبهم ثبت التوحيد، بدليل إقرارهم بأن الرازق ومالك الحواس، والمحيي والمميت هو الله تعالى، فهو سبحانه يحتج على المشركين باعترافهم بوحدانية الله وربوبيته على وحدانية الألوهية.
التفسير والبيان:
قل أيها النبي لمشركي مكة وأمثالهم: من ذا الذي ينزل من السماء المطر، فيكون سببا في إثبات الأرض بالزرع والزهر والشجر، فيخرج منها حبا وعنبا وقضبا (البرسيم) وزيتونا ونخلا وحدائق غلبا متشابكة وفاكهة كثيرة ونحو ذلك؟ كقوله تعالى:{أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ؟} [الملك 21/ 67] فهي مصدر رزقكم، بسبب بركات السماء والأرض، فيرزقكم منهما جميعا، دون اقتصار على جهة واحدة ليفيض عليكم نعمته ويوسع رحمته.
ومن الذي أوجد لكم السمع والأبصار، وغيرهما من الحواس، فيملك خلقها وتسويتها على نحو بديع وتحصينها من الآفات، ومن الذي وهبكم هذه القوة السامعة والقوة الباصرة، ولو شاء لذهب بها وسلبكم إياها؟ كقوله تعالى:
{قُلْ: هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصارَ وَالْأَفْئِدَةَ} [الملك 23/ 67] فهي وسائل العلم والمعرفة وإدراك ما في هذا العالم.
وخص السمع والبصر؛ لأنهما أهم الحواس، وأداة تحصيل العلوم.
ومن الذي بقدرته العظيمة أمر الحياة والموت؟ فيحيي ويميت، ويخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي، مثل إخراج النخلة من النواة والطائر أو الحيوان من البيضة أو النطفة، وعكس ذلك كإخراج الحب والنوى وبيض الحيوان ومنيّه من الشجر والحيوان، وفي هذا دلالة عامة على إيجاد أمارات الحياة والموت، وعلامة الحياة في النبات: النمو، وفي الحيوان: النمو والحركة الإرادية.
وفسر بعضهم الحياة والموت بالشيء المعنوي وهو إخراج المؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن، والأكثرون من المفسرين يفسرون الآية بالمعنى الأول، وهو إلى الحقيقة أقرب، كما قال الرازي.
وإذا كان المفسرون قد مثلوا للحي بالنطفة وللميت بالبيضة، فهم يلاحظون الوضع الظاهر المشاهد للناس عادة وهي حياة الحركة والنمو، وهذا لا ينفي ما يقوله الآن علماء الأحياء بأن في البذور والبيض والمني والنطفة حياة أي حياة الخلية، لكن هذه حياة خاصة لا حركة فيها ولا نمو.
ويمكن التمثيل في العلم الحديث لإخراج الميت من الحي بما يطرحه البدن من الخلايا الميتة في الدم والجلد فيخرج مع البخار والعرق، ومثال إخراج الحي من الميت الغذاء الذي يحرق بالنار، ثم يتناوله الإنسان فيتولد منه الدم.
وإذا قال هؤلاء العلماء الجدد: الحي لا يخرج إلا من حي، فإنهم يقررون أن الحياة الأولى هي من خلق الله بدون أي شك.
وعلى أي حال فإن المقصود من الآية إثبات القدرة الكاملة لله تعالى وأنه خالق الموت والحياة، أيا كان المثال؛ لأن إطلاق النص القرآني وعمومه يمكن تطبيقه على ما يقره العلم.
ومن الذي يدبر أمور العالم وبيده ملكوت كل شيء، وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقّب لحكمه، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون؟.
هذه الأسئلة الخمسة لا يملك المشركون إلا أن يقولوا: إن الفاعل هو الله، وأن يجيبوا بأن الموجد والمعدم هو الله تعالى، بلا تردد ولا شك، ومن غير مكابرة وعناد في ذلك، لفرط وضوح الأمر، ولأنه لا جواب في الواقع غيره.
وإذا اعترفوا بالحقيقة، فقل لهم أيها الرسول عندئذ: أفلا تتقون أنفسكم عقاب الله بإشراككم إياه وعبادتكم غيره، مما لا يشاركه في شيء من ذلك، ولا يملك ضرا ولا نفعا.
فذلكم الذي يتصف بما ذكر من القدرة الخلاقة والإرادة المبدعة هو الله خالقكم ومربّيكم على فضله ومدبر أموركم، وهو المستحق للعبادة، وهو ربكم الثابت ربوبيته بذاته، لأنه الذي أنشأكم وأحياكم ورزقكم ودبر أموركم، فلا إله غيره، ولا معبود سواه.
وإذا كان الله هو ربكم الحق الثابت بذاته، فليس بعد القول الحق والفعل الحق إلا الضلال والباطل، ولا واسطة بين الحق والباطل، فمن تخطى الحق الذي هو عبادة الله تعالى وقع في الضلال.
فأنى تصرفون عن الحق إلى الضلال، وكيف تتحولون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال؟ ذلك ما لا يقبله عقل ولا منطق.
{كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} أي كما حقت الربوبية لله والألوهية لله، حقت أي ثبتت كلمة الله وحكمه أو وعيده على الذين فسقوا أي تمردوا في كفرهم وأصروا على ضلالهم، وخرجوا عن دائرة الحق والصلاح وتوحيد الربوبية والألوهية، أنهم لا يؤمنون، أي حق عليهم انتفاء الإيمان وعلم الله منهم ذلك، أو حق عليهم كلمة الله أنهم من أهل الخذلان وأن إيمانهم غير كائن. ويجوز أن يراد بالكلمة الوعيد بالعذاب، ويكون قوله {أَنَّهُمْ