الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
موضع من مواضع جهنم، وقيل: إنه مجاز، والمعنى: صار البناء في نار جهنم، فكأنه أنهار إليه وهوى فيه.
ثم أبان الله تعالى ما يجسّده إقامة المنافقين مسجد الضّرار من معان سيئة ثابتة راسخة على ممرّ التاريخ، فقال:{لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ.} . أي لا يزال بناؤهم هذا وهدمه سبب شكهم في الدّين، وتزايد نفاقهم؛ لأنه يجسّد آثار النّفاق والكفر، فقد أورثهم نفاقا في قلوبهم، كما أشرب عابدو العجل حبّه، وأصبح وسمه لا يزول عن قلوبهم، فلا يزال هذا شأنهم في جميع الأحوال إلا في حال تقطع قلوبهم أجزاء، بحيث لا يبقى لها قابلية الإدراك، أي بموتهم، وهو في غاية المبالغة، والاستثناء من أعم الأزمنة.
والمراد أن هذا البناء الذي فرحوا به مصدر استلهام الشّكوك في الدّين، ومظهر تجسيد الكفر والنّفاق الجاثم في نفوسهم، فحينما أمر النّبي صلى الله عليه وسلم بهدمه، ثقل ذلك عليهم، وازداد بغضهم له، وازداد ارتيابهم في نبوّته، وعظم خوفهم، وارتابوا في أمرهم: هل سيتركون أو يقتلون؟ فكان ذلك البنيان نفسه ريبة، لكونه سببا للرّيبة، وظهرت سببيّته للرّيبة بتخريبه وهدمه.
والله عليم بأعمال خلقه، حكيم في مجازاتهم عنها من خير أو شرّ، ومن حكمته تبيان حال المنافقين وإظهار ما خفي من أمرهم، لمعرفة الحقائق.
فقه الحياة أو الأحكام:
دلّت الآيات على ما يأتي:
1 -
من المنافقين جماعة أقاموا مسجد الضّرار بجوار مسجد قباء لمقاصد أربعة: محاولة الضّرار، والكفر بالنّبي صلى الله عليه وسلم وبما جاء به، وتفريق جماعة المؤمنين، واتّخاذه معقلا لمن عادى الله ورسوله.
والمقصود في الضّرار بالمسجد من أهله، وليس لذات المسجد ضرار.
2 -
كانت أيمانهم على حسن النّيّة، وسلامة القصد كاذبة.
3 -
قال المالكية: كلّ مسجد بني على ضرار أو رياء وسمعة فهو في حكم مسجد الضّرار لا تجوز الصّلاة فيه. ولا يجوز أن يبنى مسجد إلى جنب مسجد، ويجب هدمه والمنع من بنائه، لئلا ينصرف أهل المسجد الأول، فيبقى شاغرا، إلا إذا كانت البلدة كبيرة، وأهلها كثيرين، ولم يعد يكفيهم مسجد واحد، فيبنى حينئذ. ولا ينبغي أن يبنى في البلد الواحد جامعان وثلاثة، ويجب منع الثاني؛ ومن صلّى فيه الجمعة لم تجزه
(1)
.
4 -
قال العلماء: إن من كان إماما لظالم لا يصلّى وراءه، إلا أن يظهر عذره أو يتوب، فإن عمر بن الخطّاب في خلافته لم يأذن لمجمّع بن جارية أن يصلّي إماما في مسجد قباء؛ لأنه كان إمام مسجد الضّرار، ثم أذن له لمّا تبيّن أنه كان جاهلا بما أضمر عليه المنافقون.
5 -
إذا كان المسجد الذي يتّخذ للعبادة يهدم إذا كان فيه ضرر بغيره، فكلّ ما فيه ضرر يزال ويهدم، كمن بنى فرنا أو رحى أو حفر بئرا أو غير ذلك مما يدخل به الضّرر على الغير. والضابط: أن من أدخل على أخيه أو جاره ضررا منع، وهذا ما يسمّى حديثا عند القانونيين: نظرية التّعسّف في استعمال الحقّ.
وقد سبق فقهاء المالكية وغيرهم إلى تقرير هذه النّظرية.
6 -
الكفر العملي: قال ابن العربي: لما كان اعتقادهم أنه لا حرمة لمسجد قباء ولا لمسجد النّبي صلى الله عليه وسلم، كفروا بهذا الاعتقاد.
7 -
دلّ قوله تعالى: {وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ} على أنّ المقصد الأسمى من
(1)
تفسير القرطبي: 254/ 8
وجود الجماعة تأليف القلوب واتّحادهم على الطّاعة، حتى يأنسوا بالمخالطة، وتصفو القلوب من الأحقاد.
واستنبط مالك من هذه الآية: أنه لا تصلّى جماعتان في مسجد واحد بإمامين، خلافا لسائر العلماء.
8 -
دلّ قوله تعالى: {وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى} أي ما أردنا ببنائه إلا الفعلة الحسنى، على أن الأفعال تختلف باختلاف المقصود والإرادة.
9 -
تحريم الصّلاة في مسجد الضّرار؛ لقوله تعالى: {لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً} يعني مسجد الضّرار.
10 -
أحقيّة مسجد التّقوى بالصّلاة فيه، والتّقوى: هي الخصال التي تتّقى بها العقوبة.
11 -
ترغيب الإسلام بالنّظافة المعنوية (السّلامة من الأحقاد وصفاء النّفس وصحّة الإيمان) والنظافة البدنيّة (بالوضوء والاغتسال وإزالة النّجاسة عن الثّوب والبدن والمكان) لأن الله تعالى في هذه الآية أثنى على من أحبّ الطّهارة وآثر النّظافة.
وللعلماء في إزالة النّجاسة ثلاثة أقوال:
الأول-أنه واجب فرض، ولا تجوز صلاة من صلّى بثوب نجس، عالما كان أو ساهيا، وهو قول الشّافعي وأحمد، وروي عن مالك.
الثاني-إن كانت النّجاسة قدر الدّرهم أعاد الصّلاة. وقدر الدّرهم قياس على حلقة الدّبر. وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف.
الثالث-إزالة النّجاسة من الثياب والأبدان سنّة وليس بفرض، وهو قول آخر لمالك وأصحابه.
قال القرطبي: والقول الأول أصح إن شاء الله، لأنّ
النّبي صلى الله عليه وسلم-فيما يرويه البخاري ومسلم-مرّ على قبرين، فقال:«إنهما ليعذّبان وما يعذّبان في كبير، أما أحدهما: فكان يمشي بالنّميمة، وأما الآخر فكان لا يستبرئ من بوله» ولا يعذّب الإنسان إلا على ترك واجب.
وروى أبو بكر بن أبي شيبة وأحمد وابن ماجه والحاكم عن أبي هريرة عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال: «أكثر عذاب القبر من البول» .
واحتجّ الآخرون بخلع النّبي صلى الله عليه وسلم نعليه في الصّلاة لما أعلمه جبريل عليه السلام أنّ فيهما قذرا وأذى
(1)
. ولما لم يعد ما صلّى دلّ على أنّ إزالة النّجاسة سنّة، وصلاته صحيحة، ويعيد ما دام في الوقت، طلبا للكمال.
12 -
دلّت آية: {أَفَمَنْ أَسَّسَ.} . على أن كلّ شيء ابتدئ بنيّة تقوى الله تعالى والقصد لوجهه الكريم، هو الذي يبقى، ويسعد به صاحبه، ويصعد إلى الله ويرفع إليه:{وَالْباقِياتُ الصّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَخَيْرٌ أَمَلاً} [الكهف 46/ 18].
13 -
كان مسجد الضّرار سببا لريبة المنافقين، فإنهم لما بنوه عظم فرحهم به، ولما أمر الرّسول صلى الله عليه وسلم بتخريبه، ثقل ذلك عليهم، وازداد بغضهم له، وزاد ارتيابهم في نبوّته. وظلّ ذلك الرّيب في قلوبهم حتى الموت.
(1)
أخرجه أبو داود وغيره عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.