الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
هذه الآيات في بيان إعجاز القرآن، وكونه كلام الله، وهذا من أصول الدين، وقد تكرر هذا المعنى في القرآن لإثبات أنه من عند الله تعالى، وليس من عند النبي صلى الله عليه وسلم، وإنما هو معجزة خالدة تشهد بصدق النبي صلى الله عليه وسلم، وهو معنى قول الله
في الحديث القدسي: «صدق عبدي في كل ما يبلغه عني» .
ومعنى الآية: ما شأن القرآن وما ينبغي أن يختلق من غير الله؛ لأنه بفصاحته وبلاغته، ووجازته وحلاوته، وإخباره عن المغيبات، وأصالة تشريعه، واشتماله على المعاني الغزيرة النافعة في الدنيا والآخرة، لا يكون إلا من عند الله تعالى، فهو كلامه الذي لا يشبه كلام المخلوقين، ولا يقدر أحد إلا الله أن يجاريه أو يعارضه.
وقد ثبت أن أبا جهل قال: إن محمد لم يكذب على بشرط، أفيكذب على الله؟ وإنه مطابق ومصدّق لما تقدمه من الكتب الإلهية المنزلة على الرسل، كإبراهيم وموسى وعيسى، وموافق لها في الدعوة إلى أصول الدين من التوحيد والإيمان بالله واليوم الآخر، وصالح الأعمال، وفضائل الأخلاق، وهو أيضا مهيمن عليها، ومبيّن كاشف لما وقع فيها من تحريف وتبديل، كما قال تعالى:
{وَأَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ، مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ، وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ} [المائدة 48/ 5].
{وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ} أي وبيان الأحكام والشرائع، والحلال والحرام، والعبر والمواعظ، والآداب والأخلاق الشخصية والاجتماعية، بيانا شافيا كافيا.
{لا رَيْبَ فِيهِ} أي لا شك فيه أبدا، ولا ينبغي لعاقل أن يرتاب فيه، لوضوحه، وبيانه الحق والهدى والصواب.
{مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ} أي منزل وموحى به من الله لا من غيره، بدليل سلامته عن الاضطراب والاختلاف، كما قال تعالى:{وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ، لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً} [النساء 82/ 4].
وبه يتبين أن الله سبحانه وصف القرآن بصفات خمس هي:
1 -
لا يصح أن يفتري من دون الله؛ لأن القرآن معجز لا يقدر عليه البشر.
2 -
وهو مصدّق مؤيد لما قبله في أصول الدين والفضائل، ومهيمن عليه، فهو معجز لاشتماله على الإخبار عن المغيبات الماضية والمستقبلة، وهو المراد بقوله:{تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ} .
ومن إخباره عن مغيبات المستقبل التي وقعت مطابقة للخبر: قوله تعالى:
{الم. غُلِبَتِ الرُّومُ.} . وقوله تعالى في فتح مكة: {لَقَدْ صَدَقَ اللهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ} [الفتح 27/ 48] وقوله في ظهور الدولة الإسلامية: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ} [النور 55/ 24] مما يدل على أن الإخبار إنما حصل بالوحي من الله تعالى.
3 -
وهو مفصّل ما يحتاج إليه الإنسان من الأحكام الشرعية والعلوم الكثيرة الدينية والدنيوية، ففيه علم العقائد والأديان: وهو معرفة الله تعالى (ذاتا وصفات) وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وفيه علم الأعمال وهو علم الفقه، وعلم الأخلاق مثل قوله:{خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} [الأعراف 199/ 7] وقوله: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسانِ وَإِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَيَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ} [النحل 90/ 16] وهو المراد بقوله: {وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ} [يوسف 111/ 12].
4 -
لا ريب ولا شك فيه، لبيانه العلوم الكثيرة، وعدم وجود التناقض فيه.
5 -
كونه من عند الله تعالى، نزل به الروح الأمين على قلب محمد صلى الله عليه وسلم ليكون من المنذرين.
ثم أنكر الله تعالى على المشركين الجاهلين القائلين بأن محمدا صلى الله عليه وسلم قد افتراه، وتحداهم أن يأتوا بمثله، فقال:{أَمْ يَقُولُونَ: اِفْتَراهُ.} . أي بل أيقولون:
اختلقه محمد؟! فمحمد بشر مثلكم، وقد زعمتم أنه جاء بهذا القرآن، فأتوا بسورة مثله، أي من جنس هذا القرآن، ولو بما يشابه أقصر سورة فيه في النظم والأسلوب، والقوة والإحكام، والبلاغة والدقة، واستعينوا على ذلك بمن قدرتم عليه من إنس وجان، ولن تستطيعوا فعل شيء؛ فإن جميع الخلق عاجزون عن معارضته أو الإتيان بمثله:{قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ، لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ، وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً} [الإسراء 88/ 17].
فإن كنتم صادقين في ادعائكم أن القرآن من عند محمد، فلتأتوا بنظير ما جاء به وحده، ولتستعينوا بمن شئتم.
ولقد كان التحدي للإتيان بمثل القرآن على مراحل: أولها-ما ذكر في هذه الآية: {قُلْ: لَئِنِ اجْتَمَعَتِ} وهي أعلى المراتب. وثانيها-التنازل معهم إلى عشر سور منه، فقال في أول سورة هود:{أَمْ يَقُولُونَ: اِفْتَراهُ، قُلْ: فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ، وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ، إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} [13]. وثالثها-التنازل إلى سورة، فقال هنا في هذه السورة المكية:{فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ} وكذا في سورة البقرة المدنية: {وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا، فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ} [23].
ثم أثبت القرآن موقف هؤلاء المشركين منه فقال: {بَلْ كَذَّبُوا.} . أي بل