الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
جاء في (شرح الرضي على الكافية): "وإنما قيل لعلم الفاعل رفع، لأنك إذا ضممت الشفتين لإخراج هذه الحركة، ارتفعتا عن مكانهما، فالرفع من لوزام مثل هذا الضم وتوابعه .. وكذلك نصب الفم تابع لفتحه، كأن الفم كان شيئا ساقطًا فنصبته، أي أقمته بفتحك إياه، فسمى حركة البناء فتحا وحركة الإعراب نصبًا.
وأما جر الفك الأسفل إلى أسف وخفضه، فهو ككسر الشيء، إذ المكسور يسقط ويهوي إلى أسفل فسمى حركة الإعراب جرًا، أو خفضًا وحركة البناء كسرًا .. ثم الجزم بمعنى القطع، والوقف والسكون بمعنى واحد، والحرف الجازم كالشيء القاطع للحركة أو الحرف فسمى الإعرابي جزمًا، والبنائي وقفًا أو سكونا" (1).
فالجر إذن هو جر الفك الأسفل إلى أسفل وسميت حروف الجر كذلك، لأن الاسم يأتي بعدها مجرورًا، ويسميها الكوفيون حروف الخفض، وهي المعنى نفسه فإن هذا خفض الفك الأسفل.
وعلى أية حال فهو اصطلاح ولا مشاحة في الإصطلاح.
نيابة حروف الجر بعضها عن بعض
ذهب جمهور الكوفيين إلى أن حروف الجر ينوب بعضها عن بعض، فقد تأتي (من) بمعني (على)، كقوله تعالى:{ونصرناه من القوم الذين كذبوا} [الأنبياء: 77]، وقد تأتي بمعنى (عن) كقوله تعالى:{لقد كنت في غفلة من هذا} [ق: 22].
وقد تأتي (الباء) بمعنى (عن) كقوله تعالى: {سأل سائل بعذاب واقع} [المعارج: 1]، وقد تأتي بمعنى (من)، كقوله تعالى:{عينا يشرب بها عباد الله} [الإنسان: 6].
وقد تأتي (على) بمعنى (في)، كقوله تعالى:{ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها} [القصص: 15]، وقد تأتي بمعنى (عن) كقول الشاعر:
(1) الرضي 1/ 24
إذا رضيت علي بنو قشير
…
لعمر الله أعجبني رضاها
إلى غير ذلك مما سيأتي بيانه.
ومذهب جمهور البصريين أن حروف الجر لا ينوب بعضها عن بعض، إلا شذوذا أما قياسًا فلا. وما أوهم ذلك فهو مؤول، أما على التضمين، أو على المجاز، كما في قوله تعالى:{ولأصلبنكم في جذوع النخل} [طه: 71]، فإن الكوفيين ذهبوا إلى أن (في) بمعنى (على)، وذهب البصريون إلى أنه ليس بمعنى (على) ولكن شبه المصلوب لتمكنه من الجذع بالحال في الشيء فهو من باب المجاز.
وأما عن شذوذ إنابة كلمة عن أخرى (1).
قالو ولا تصح إنابة حرف عن حرف كما لا تنوب حروف النصب والجزم عن بعضها (2).
ثم لو كان ذلك قياسًا لصح أن تقول (سرت إلى زيد) وأنت تريد (معه) وأن تقول (زيد في الفرس) وأنت تريد عليه، وأن تقول (رويت الحديث بزيد) وأنت تريد عنه، ونحو ذلك مما يطول ويتفاحش (3).
والحق أن الأصل في حروف الجر أن لا ينوب بعضها عن بعض، بل الأصل أن لكل حرف معناه واستعماله، ولكن قد يقترب معنيان أو أكثر من معاني الحروف، فتتعاور الحروف على هذا المعنى.
وإيضاح ذلك أن حرف الجر في العربية قد يستعمل لأكثر من معنى، (من) مثلا تستعمل لابتداء الغاية، وللتبعيض، ولبيان الجنس، وللتعليل وغيرها.
(1) انظر المغني 1/ 111، التصريح 2/ 4 - 6، حاشية الخضري 1/ 228 - 229
(2)
المغني 1/ 111، حاشية الخضري 1/ 228
(3)
الخصائص 2/ 308، وانظر الفروق اللغوية 13 - 14، ابن يعيش 8/ 15
و (الباء) تستعمل للالصاق، والاستعانة والتعويض والتعليل وغيرها.
و(اللام) للملك والاستحقاق، ولانتهاء الغاية، والتعليل وغيرها، و (في) للظرفية والتعليل، وغير ذلك من المعاني.
وقد تقترب المعاني من بعضها، أو يتوسع في استعمال المعنى، فيستعمل بعضها في معنى بعض، أو قريب منه، فمثلا قد يتوسع في معنى الالصاق بالباء، فيستعمل للظرفية فتقول: أقمت بالبلد وفي البلد، ولكن يبقى لكل حرف معناه واستعماله المتفرد به، ولا يتماثلان تمامًا.
وقد يتسع المتكلم في كلامه العادي غير المتعمل، أو المقصود، فيوقع الحروف بعضها موقع بعض من دون قصد إلى معنى معين، أو اختلاف ما، فنحن نقول في الدارجة (رحت له) و (رحت عليه) وهو محض أداء معنى عام، لا يقصد المتكلم فرقا بين له، وعليه.
ونقول في الدارجة (رحت عَ الشط) أي على الشط أي النهر، و (رحت للشط) ولا فرق بينهما في ذهن المتكلم سوى أداء المعنى العام.
ونقول في الدارجة (جه علي وكلمني) ونقول (جاني) والمعنى جاء إلي، وجاءني، ولا يقصد المتكلم فرقا بين الاستعمالين.
فالمتكلم غير المتعمل يتكلم غالبا بأقرب شيء إلى لسانه، مما يؤدي المعنى.
فالحروف كما نرى في العامية قد ينوب بعضها عن بعض، في الاستعمال، فنستعمل (على) لانتهاء الغاية، وكذلك اللام و (إلى) بلا نظر إلى فرق في المعنى.
ولا يصح أن نقول أنه لو كانت (على) تنوب عن (إلى) أو تستعمل بمعنى (إلى) لصحت نيابتها عنها دومًا، فنقول (وضعت الكتاب إلى الرف) بمعنى: على الرف، فإن اللغة العامية وإن كانت توقع الحروف، بعضها موقع بعض، أو تستعمل للمعنى الواحد أكثر من حرف واحد، لا توقع الحرف موقع الحرف الآخر باطراد، فإنه يبقى
لعلى استعمالها ولـ (إلى) استعمالها، وللام استعمالها الخاص بها، وهكذا بقية الحروف كما قلنا في (وضعت الكتاب ع الرف) ولا يقولون إلى الرف، وللرف.
وهكذا شأن المتكلمين العرب الأوائل، فإن المتكلم غير المتعمل قد يوقع حرفا موقع حرف آخر في معنى ما، فيقول ذهبت له، وإليه، ومررت به، وعليه، كما نقول الآن في لغتنا الدارجة (مريت بيه) و (مريت عليه) بمعنى (مررت به) أو عليه، من دون نظر إلى معنى معين، أو إلى فرق معين بين التعبيرين.
ومن هنا نرى استعمال الحرف لأكثر من معنى، وأداء المعنى الواحد بأكثر من حرف. والشاعر أيضا قد يضطره شعره فيستعمل هذا الاستعمال من دونما حرج، أو نظر إلى فرق بين استعمال حرف دون دون آخر فإن هذا سائغ دائر في بيئته.
ثم إن النيابة قياسية عند المتكلم بها في معنى معين يتعاور عليه حرفان أو أكثر، لا في استعمال الحرف مكان آخر على وجه العموم.
ومن هنا يتبين لنا أنه لا مكان للرد الذي رد به قسم من النحاة، أنه لو كان يستعمل الحرف مكان حرف آخر لصح أن يقال (سرت إلى زيد) وأنت تريد معه، وأن تقول (زيد في الفرس) وأنت تريد عليه، جاء في (الأصول):" واعلم أن العرب تتسع فيها فتقيم بعضها مقام بعض إذا تقاربت المعاني، فمن ذلك (الباء) تقول: (فلان بمكة وفي مكة) وإنما جازا معًا لأنك إذا قلت: فلان بموضع كذا وكذا، فقد خبرت عن اتصاله والتصاقه بذلك الموضع، وإذا قلت في موضع كذا فقد خبرت بـ (في) عن احتوائه إياه وإحاطته به. فإذا تقارب الحرفان، فإن هذا التقارب يصلح للمعاقبة وإذا تباين معناها لم يجز. ألا ترى أن رجلا لو قال مررت في زيد، أو كتبت إلى القلم، لم يكن هذا يلتبس به، فهذا حقيقة تعاقب حروف الخفض، فمتى لم يتقارب المعنى لم يجز"(1).
(1) الأصول لابن السراج 1/ 505 - 506
وجاء في (الخصائص) في (باب استعمال الحروف بعضها مكان بعض): " وذلك أنهم يقولون إن (إلى) تكون بمعنى (مع) ويحتجون لذلك بقول الله سبحانه: {من أنصاري إلى الله} [الصف: 14]، أي: مع الله، ويقولون إن (في) تكون بمعنى (على) يحتجون بقوله عز اسمه:{ولأصلبنكم في جذوع النخل} [طه: 71]، أي عليها .. وغير ذلك مما يوردونه.
ولسنا ندفع أن يكون ذلك كما قالوا، لكنا نقول: إنه يكون بمعناه في موضع دون موضع على حسب الأحوال الداعية إليه والمسوغة له، فأما في كل موضع، وعلى كل حال فلا. ألا ترى أنك إن أخذت بظاهر هذا القول غفلا، هكذا لا مقيدًا لزمك عليه أن تقول (سرت إلى زيد) وأنت تريد معه، وأن تقول:(زيد في الفرس) وأنت تريد عليه، و (زيد في عمرو) وأنت تريد عليه في العداوة، وأن تقول:(رويت الحديث بزيد) وأنت تريد عنه ونحو ذلك مما يطول ويتفاحش" (1).
فالأمر كما ذكره ابن جني وكما أوضحناه، ليس المقصود به النيابة المطلقة.
وهذا كله في الكلام الفصيح.
غير أن هذا بعض اختلاف في الكلام الذي يتعمله صاحبه، ويتفنن فيه، فإنه في الكلام الفني قد يختار المتكلم حرفا على حرف، أو لفظًا على لفظ، لأداء معنى معين، أو لدلالة معينة، وربما لم يستعمل الحرفين في معنى واحد، كما يستعمل المتحدثون في أمورهم اليومية، أو قد يكون المعنى الذي يستعمله في حرفٍ، مختلفا عن مشابهه الذي يستعل في حرف آخر، فالظرفية التي يستعملها بالباء تختلف عن الظرفية التي يستعملها بـ (في) والتعليل الذي يستعمله باللام، يختلف عن التعليل الذي يستعمله بالياء، وهكذا.
(1) الخصائص 2/ 307 - 308
أو قد يخص الحرف باستعمال معين أو بدلالة معينة، مما استعملته اللغة وهذا واضح في الاستعمال القرآني، فقد يخص اللفظ باستعمال معين، فإنه مثلا خص لفظ (العيون) بالعيون الجارية (والأعين) خصها بمعنى الباصرة، أو بمعنى الرعاية، قال تعالى:{تجري بأعيننا} [القمر: 14] وخص لفظ (الصوم)، بمعنى الصمت، و (الصيام) بالعبادة المعروفة وغير ذلك من الاختصاصات.
وهذا الاستعمال الفني هو الذي يدفع اللغة إلى إمام فيجعلها أكثر دقة، وتخصصا، وغناء ونماء لا الاستعمال العامي الساذج غير المخصص ولا الدقيق.
ونعود إلى نيابة الحروف، فنقول ما سبق أن قلناه: أن الأصل ألا نتوب حروف الجر بعضها عن بعض، بل إبقاؤها على أصل معناها ما أمكن، فإن لم يكن ذلك ففي الاتساع وعدم التكلف مندوحة، جاء في (شرح الرضي على الكافية):" واعلم أنه إذا أمكن في كل حرف يتوهم خروجه عن أصله، وكونه بمعنى كلمة أخرى أو زيادته أن يبقى على أصل معناه الموضوع هو له، ويضمن فعله المعدي به معنى من المعاني، يستقيم به الكلام فهو الأولى بل الواجب"(1).
(1) شرح الرضي 2/ 382