الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التعليل:
يؤدي التعليل باللام كقوله تعالى: {والأنعام خلقها لكم فيها دفء} [النحل: 5] وقوله: {ومن عمل صالحا فلأنفسهم يمهدون} [الروم: 44]، وقوله:{ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم} [هود: 18 - 19].
ويؤدي بالباء، نحو قوله تعالى:{ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} [البقرة: 10]، وقوله:{فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم} [النساء: 160]
ويؤدي بـ (من) كقوله تعالى: {ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم} [الأنعام: 151]، وقوله:{مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا} [نوح: 25].
ويؤدي بـ (في)، نحو قوله تعالى:{لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم} [النور: 14]، وقوله (ص)، دخلت امرأة النار في هرة حبستها .. )، وغير ذلك، فهل معنى التعليل في هذه الأحرف متماثل؟
الحق أنه غير متماثل، وإن كان المعنى العام واحدا، فالتعليل بالباء غيره باللام غيره بـ (من) و (في) فإن لكل حرف من حروف التعليل معنى خاصا، وإن كانت كلها تفيد التعليل، ولذا لا يصح إبدال حرف مكان آخر دوما، فلا يصح مثلا في قوله تعالى:{وإذ استسقي موسى لقومه} [البقرة: 60]، أن تقول:(وإذ استسقي موسى بقومه أو في قومه أو على قومه) لأداء المعنى نفسه، ولا يصح في قوله تعالى:{سخرها لكم} [الحج: 37]، أن تقول:(سخرها بكم أو فيكم أو منكم)، ولا يصح في قوله تعالى:{والأرض وضعها للأنام} [الرحمن: 10]، أن تقول:(والأرض وضعها على الأنام أو في الأنام أو بالأنام أو من الأنعام) لإرادة معنى التعليل، ولو كانت المعاني متماثلة لصح إبدال حرف بآخر.
إن التعليل بالباء إنما هو بمقابل شيء حصل، تقول:(عاقبته بذنبه) فالعقاب مقابل الذنب الذي اقترفه صاحبه، وهو كأنه عوض عنه أو ثمن له جرى عليه بسببه،
قال تعالى: {بل لعنهم الله بكفرهم} [البقرة: 88]، فاللعنة مقابل الكفر، وقال:{ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} [البقرة: 10] فالعذاب مقابل كذبهم، وقال:{سنلقى في قلوب الذين كفروا الرعب بما أشركوا بالله} [آل عمران: 155]، أي مقابل ذلك، وقال:{ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس} [يوم: 41]، فإن ظهور الفساد مقابل ما فعله الناس.
وليست اللام كذلك، فإن اللام تفيد سبب حدوث الفعل، وليست مقابلا لشيء حصل فأنت تقول:(جئت للاستفادة) فالاستفادة ليست مقابل شيء، وتقول:(أرسلته لاختباره) فالاختبار ليس مقابلا لشيء، وإنما ذكرت سبب المجيء والإرسال، وتقول:(أرسلته لتجربته) و (أرسلته بتجربته) فقد أفادت الأولى أنه أرسله ليجربه، والثانية أرسله لأنه مجرب أي مقابل تجربته التي حدثت قبل إرساله.
إن التعليل باللام يختلف عن التعليل بالباء، وذلك إن العلة المقترنة بالباء تكون حاصلة قبل حدوث الفعل في الغالب، وإن الفعل حصل مقابلا لها، أما العلة المقترنة باللام فقد تكون حاصلة قبل الفعل، وقد تكون مرادا تحصيلها، قال تعالى:{بل لعنهم الله بكفرهم} [البقرة: 88]، فاللعن مقابل الكفر، والكفر حاصل قبل اللعن، وتقول:(جئت للاطلاع) فالاطلاع غير حاصل في أثناء المجيء وإنما يطلب تحصيله، وتقول (جئت لمعالجة فلان) فالمعالجة هي السبب الداعي للمجئ وهي غير حاصلة في أثناء المجيء، بل يراد تحصيلها، وقد يكون السبب موجودًا وهو الدافع للفعل، كقولك (عاقبته لاسائته إلى فلان) و (رسب لاهماله) فالإساءة هي سبب العقوبة وهي موجودة قبل العقاب، وكذلك الاهمال.
ولذا لا يصح تعاقب الحرفين دوما. قال تعالى: {وأقم الصلاة لذكري} [طه: 14]، ولا تقول بذكري، وقال:{إنما نطعمكم لوجه الله} [الإنسان: 9]، ولا تقول بوجه الله، وقال {ينبت لكم به الزرع والزيتون} [النحل: 11]، ولا تقول:(ينبت بكم به الزرع).
إن التعليل بالباء يفيد المقابلة، والثمن، بخلاف اللام التي تفيد الاختصاص والاستحقاق.
وأما التعليل بـ (من) ففيه معنى الابتداء، فعندما تقول (قتله من إملاق) يكون المعنى أن القتل صدر من الإملاق، وحصل منه فهو مبدأ الفعل، ونحوه:(بكي من الألم) و (عض أصبعه من الندم) بمعنى حصل البكاء، من الألم وصدر منه، وحصل العض من الندم وصدر منه، فالندم أسبق من العض، ومنه حصل العض، والألم أسبق من البكاء ومنه صدر البكاء، فالعلة بـ (من) أسبق وجودًا من الحدث.
فـ (من) التعليلية تفيد الابتداء، والباء تفيد المقابلة، واللام تفيد الاستحقاق والاختصاص.
تبين مما سبق أن العلة المسبوقة بالباء و (من) موجودة قبل الحدث، أما العلة المسبوقة باللام فقد تكون واقعة قبل الحدث، وقد تكون مرادا تحصيلها.
وتبين لنا أن التعليل بالباء و (من) مختلفان، فالتعليل بالباء يفيد العوض والمقابلة، وأما التعليل بـ (من) فيفيد الابتداء، فقوله تعالى:{ولا تقتلوا أولادكم من إملاق} لا يصح فيه أن نقول بإملاق، وقولنا ((عض أصبعه من الندم) لا يصح أن نقول فيه بالندم. وقولنا (قعد من الجبن) لا يصح أن نقول فيه قعد بالجبن، لأنه ليس مقابلا للقعود، وإنما حصل منه القعود ونشأ منه.
قال تعالى: {وضربت عليهم الذلة والمسكنة وباءو بغضب من الله ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله} [البقرة: 61]، فما حصل هو مقابل كفرهم.
وقد تحسن معاقبة الباء و (من) في تعبير واحد، وكل على تقدير معنى، فمثلا قوله تعالى:{مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا} [نوح: 25]، المعنى فيه أن الماء دخل عليهم من حطيئاتهم، أي جاءهم من هذا المكان، كأن الخطيئات ثغرة دخل منها الماء، فهي للابتداء، ولو قلت:(بخطيئاتهم أغرقوا) لكان المعنى أن الغرق مقابل للخطيئات، كأنهم أدوا ثمن الخطيئات وهو الغرق، وقال تعالى:{فأخذتهم الصاعقة بظلمهم} [النساء: 153]، أي هذا مقابل ذاك، فالصاعقة ثمن الظلم، ولو قال (من ظلمهم) لكان المعنى أن الصاعقة جاءتهم من موطن الظلم، فالباء تفيد المقابلة والعوض، و (من) تفيد الابتداء.
جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وقد تجيء - لا يعني من - للتعليل نحو (لم آتك من سوء أدبك) أي من أجله، وكأنها ابتدائية لأن ترك الاتيان حصل من سوء الأدب". (1).
وأما التعليل بـ (على) ففيه معنى الاستعلاء، فإذا قلت:(كافأته على إحسانه) كان المعنى كأنك وضعت المكافأة على الإحسان، وإذا قلت (عاقبته على إساءته) كان المعنى كأنك جعلت العقوبة على الإساءة، أي وضعتها عليها، قال تعالى:{ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185]، أي يكون التكبير على الهداية كما تقول (كبر على النصر) جعل النصر شيئا يكبر عليه، كما يكون التكبير على الذبيحة ونحوها.
وأما (في) فتفيد الظرفية، فقوله تعالى:{لمسكم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم} [النور: 14]، معناه أنه جعل العذاب في الإفاضة فكأن هذه الإفاضة ظرف في داخله العذاب، ونحوه ان تقول (عذبته في فعلته) فكأن الفعلة فصلت فيها العذاب، وقد تضمنته واحتوته احتواء الظرف على ما في داخله، قال صلى الله عليه وسلم:(دخلت امرأة النار في هرة حبستها فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض)، والمعنى دخلت امرأة النار في هذه الفعلة على معنى أن هذه الفعلة ظرف احتوى المرأة وأدخلها النار.
وقد تتعاقب الحروف كلها في تعبير واحد، وكل منها على تقدير معنى فمثلا نحن نقول: أخذته الصاعقة لظلمه وبظلمه ومن ظلمه وعلى ظلمه وفي ظلمه، وكل له معنى، فأما أخذته الصاعقة لظلمه، فمعناه ان ظلمه سبب استحقاق العذاب، أي استحق العذاب لهذا.
وأما (بظلمه) فمعناه أنه مقابل ظلمه.
وأما (من ظلمه) فكأن الصاعقة أخذته من ذلك المكان، أي جاءته ودخلت عليه من الظلم.
وأما (على ظلمه) فكأن الصاعقة وقعت على ظلمه.
وأما (في ظلمه) فمعناه أن الظلم تضمن الصاعقة واحتواها، والله أعلم.
(1) شرح الرضي على الكافية 2/ 358