الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
تقول:
(أن
تعدل في حكمك خير لك من أن تجور) فأوقعت تعدل مبتدأ أخبرت عنه. وتقول: يسرني أن تفوز فجعلت فاعلا.
وتقول: سررت بأنك فائز، فأوقعت أنت فائز، مجرورا بالحرف. وهكذا، ولا يتأتي ذلك لولا الحرف المصدري، وقد تقول: إذا كانت هذه الغاية من الحرف المصدري، فلماذا تعددت الحروف المصدرية؟
والجواب إن هذه الأحرف ليست متطابقة من حيث الوظيفة بل أن لكل حرف معنى ووظيفة قد تختلف عن الآخر.
فـ أن: تدخل على الجمل الإسمية وتفيد التوكيد، نحو:{واعلموا أنكم ملاقوه} [البقرة: 223]، بخلاف أن الخفيفة الأصل فهي لا تفيد التوكيد، ولذا قالوا إذا وقعت أن المشددة بعد أفعال الرجحان أفادت العلم، نحو:{قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله} [البقرة: 249]، وإذا وقعت الخفيفة لم تفد ذلك تقول (أظن أن يأتي محمد).
والمخففة من هذه حرف مصدري أيضا يدخل على مالا تدخل عليه المشددة، كالأفعال الجامدة والإنشائية وغيرها، نحو {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم: 39]، {وألو استقاموا على الطريقة} [الجن: 16]، وهي تفيد التوكيد أيضا كما أسلفنا في بابه.
أن: وتدخل على الجملة الفعلية، وهي تدخل على المضارع فتصرفه إلى الاستقبال غالبا نحو:(أريد أن تأتيني) وتدخل على الماضي نحو {هل تنقمون منا إلا أن آمنا بالله} [المائدة: 59]، وتدخل على الأمر نحو:{وإذا أنزلت سورة أن أمنوا بالله وجاهدوا مع رسوله استئذنك أولوا الطول منهم} [التوبة: 86]، ونحو قولك:(ناديتهم بأن أقدموا).
وقد تفيد التعليل نحو {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} [عبس: 1، 2]، وقد ذكر برجشتراسر أنها تفيد التعليل. جاء في التطور النحوي: وأخرجوا أن عن كونها مصدرية محضة.
فإن قولي: (أريد أن تفعل ذلك) يتعدي قولي: أريد فعلك، ذلك في أن نصب الفعل يقرب أن من كي كأني قلت: أريد كي تفعل ذلك، أي غرض إرادتي فعلك ذلك كما جاء في القرآن الكريم:{إنما يريد الله ليعذبهم بها} [التوبة: 55]، فالجمل المصدرية النائبة عن مفعول فعل من أفعال الإرادة والطلب وما يشاكلها، تقترب من الجمل الغرضية في جوهر معناها (1).
غير أني أخالفه في المثال الذي ذكره (أريد أن تفعل ذلك) فهذا لا يفيد التعليل، ولا شك أنه يعني بالغرض التعليل، خصوصا وأنه نظرها بـ (كي) أما إذا كان يقصد بقوله (غرض) المعنى العام فإن كثيرا من المفعول به غرض، فإذا قلت أريد كتابا كان الكتاب غرضا، وإذا قلت (أود لقاءه) كان اللقاء غرضا بهذا المعنى.
وقد وردت أن للتعليل كثيرا في القرآن الكريم، وذلك نحو قوله:{ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا} [المائدة: 2]، أي لأن صدوكم.
وقوله: {تولوا وأعينهم تفيض من الدع حزنا ألا يجدوا ما ينفقوا} [التوبة: 92]، وقوله:{وتخر الجبال هدا أن دعوا للرحمن ولدا} [مريم: 90 - 91].
وقد تقول إن معنى التلعيل لم يأت من (أن) وإنما هو من الحرف المقدر اللام أو غيره.
وأقول: إذا كان بالإمكان تقدير حرف يفيد التعليل في قسم من الأمثلة فقد يمتنع في قسم آخر، فمن الأول قوله تعالى:{عبس وتولى أن جاءه الأعمى} [عبس: 1 - 2] أي لأن جاءه.
ومن الثاني: قوله تعالى: {أتقتلون رجلا أن يقول ربي الله} [غافر: 28]، فلا يصح إبدال كي أو اللام بها، فلا يصح للمعنى نفس أن تقول (أتقتلون رجلا كي يقول ربي الله) أو ليقول ربي الله، واللام عندهم على تقدير (أن)، فمعنى الآية: أتقتلونه لآنه يقول ربي الله، ومعناها باللام أو بـ (كي) أتقتلونه حتى يقولها.
فمعناها بـ (أن) أنه يقولها ومعناها بـ (كي) وباللام أنه لا يقولها
(1) التطور النحوي 126
ومثله: {يخرجون الرسول وإياكم أن تؤمنوا بالله ربكم} [الممتحنة: 1]، وهي كالآية السابقة. وقد تقول أنه يصح أن أقول:(أتقتلون رجلا لأن يقول ربي الله)، للمعنى نفسه أو قريب منه، فأقول أن ذكر (أن) يؤدي معنى لا يؤديه حذفها، وإبدال غيرها بها، فاللام عندهم على تقدير (أن) ومع ذلك إذا حذفت (أن) وجئت باللام تغير المعنى، في نحو هذا، فذكر (أن يفيد نوعا من التعليل لا يؤديه حذفها.
وهي تستعمل للتعليل مع الفعل الماضي بدلا من (كي) أو اللام، لأن هذين الحرفين لا يباشران الفعل الماضي، وذلك نحو {أفنضرب عنكم الذكر صفحًا أن كنتم قومًا مسرفين} [الزخرف: 5]، والنحاة يقدرون اللام في نحو هذا.
وجاء في (المقتضب) أنها تكون علة لوقوع الشيء (1).
والخلاصة أنها استعملت في التعليل كثيرًا، في الماضي، والمضارع من دون حرف يفيد العلة، ثم إن التلعيل بها قد يختلف عن التعليل بـ (كي) واللام.
وهذا من ناحية التعليل.
وأما من ناحية الزمن فإنها تصرفه لزمن الاستقبال غالبا، وذلك نحو: قوله تعالى {أم تريدون أن تسئلوا رسولكم كما سئل موسى من قبل} [البقرة: 108]، فالسؤال مستقبل، ونحو قوله:{وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقوه} [الأنعام: 25]، وهذا ليس للتنصيص على الاستقبال بل يشمل الحال أيضا، وكقوله تعالى:{تولوا وأعينهم تفيض من الدع حزنًا ألا يجدوا ما ينفقون} [التوبة: 92] وهم لا يجدون ما ينفقون في الحال، ونحوه، قوله:{فلعلك تارك بعض ما يوحي إليك وضائق به صدرك أن يقولوا لولا أنزل عليه كنز} [هود: 12]، فـ (أن يقولوا) ليس تنصيصا على الاستقبال، بل هو يفيد الحال، وما قبل الحال أيضا، لأن هذا القول صدر منهم قبل نزول الآية.
وكقوله تعالى: {وألقي في الأرض رواسي أن تميد بكم} [النحل: 15]، فقوله (أن تميد) غير متخصص بالاستقبال، بل هو يشمل الزمان المتطاول الممتد من قبل خلق الإنسان على الأرض إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقوله: {الذين أخرجوا من
(1) المقتضب 3/ 214