الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ونحوه أن تقول: (ربه رجلا أنفذت) إذا كان الشخص الذي انقذته له مكانة كبيرة فانقاذ قائد الجيس في ساحة القتال مثلا أكبر من إنقاذ جندي، ففي الحالة الأولى تقول (ربه أنقذت)، وفي الثانية تقول:(رب رجل أنقذت).
أو تكون الحالة التي أنقذته فيها تستدعي مثلا هذا التفخيم، فإنك إذا كنت في برية مثلا ومعك من الماء والزاد ما يكفي ورأيت رجلا يقتله الظمأ فسقيته مما عندك من الماء، فإنك أنقذته ولا شك.
وإذا مررت بدار تحيط بها النار من جوانبها وسمعت أصوات استغاثة في داخلها والناس وقوف لا يعرفون ما يصنعون، ثم أنت اقتحمت النار وأخرجت من فيها، فهذا انقاذ أيضا ن ولكن هناك فرق بين الإنقاذين، فإن في الثانية مجازفة بحياتك ما ليس في الأولى فتقول في الحالة الأولى (رب رجل أنقذت) وتقول في الثانية:(ربه رجلا أنقذت) وهكذا.
حذفها:
يذكر النحاة أن (رب) تحذف بعد الواو، والفاء وبل، وحذفها بعد الواو أكثر كقوله: وليلٍ كموج البحر أرخى سدوله
…
علي بأنواع الهموم ليبتلي
وبعد الفاء أقل نحو:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
…
فألهيتها عن ذي تمائم محول
وبعد بل أقل نحو:
بل بلد ملء الفجاج قتمه
…
لا يشترى كتانه وجهرمه
وبغير ذلك نادر نحو:
رسم دار وقفت في طلله
…
كدت أقضي الحياة من جلله
وعند البصريين أن الواو للعطف، والجر بـ (رب) محذوفة لا بالواو، قال سيبويه: وحذفوه - يعني حرف الجر - تخفيفا وهم ينوونه كما حذف (رب) في قوله:
وجداء ما يرجى بها ذو قرابة
…
لعطف وما يخشى السماة ريببها
إنما يريدون رب جداء (1).
وجاء في (شرح الرضي على الكافية): " وأما الواو فللعطف أيضا عند سيبويه وليس بجارة، فإن لم تكن في أول القصيدة والرجز كقوله:
وليلة نحس يصطلي القوس ربها
…
وأقطعه اللاتي بها يتنبل
فكونها للعطف ظاهر، وإن كانت في أولهما كقوله:
وقاتم الأعمال خاوي المخترق
فإنه يقدر معطوفا عليه كأنه قال: " رب هول أقدمت عليه وقاتم الأعمال" وعند الكوفيين والمبرد أنها كات حرف عطف، ثم صارت قائمة مقام (رب) جارة بنفسها لصيرورتها بمعنى رب .. ولو كانت للعطف لجاز إظهار (رب) بعدها، كما جاز بعد الفاء وبل، فهذه الواو عندهم كانت حرف عطف قياسا على الفاء، وبل، ولكنها صارت بمعني رب فجرت كما تجر، ومع ذلك لا يجوز دخول حرف العطف عليها في وسط الكلام نحو ووليلة نحس، ولا فوليلة نحس اعتبارا لاصلها، بخلاف واو القسم فإنها لم تكن في الأصل واو العطف، فلذا جاز دخول واو العطف، والفاء وثم نحو والله، وفوالله وثم والله (2).
وجاء في (الأصول): " وقال بعض النحويين إن الواو التي تكون في النكرات ليست بخلاف من (رب) ولا (كم)، وإنما تكون مع حروف الاستفهام فتقول: وكم قد رأيت وكيف تكفرون، يدل على التعجب، ثم تسقط (كم) وتترك الواو ولا تدخل مع رب
(1) كتاب سيبويه 2/ 144، وانظر الأصول 1/ 513
(2)
شرح الرضي على الكافية 2/ 369 - 370
ولو كانت خلفا من (كم) لجاز ان يدخل عليها النسق، كما فعل بواو اليمين، وهي عندي واو العطف وهذا أيضا مما يدل على أن رب جواب وعطف على كلام (1).
والذي يبدو من استعمالها أنها لا تطابق (رب)، وأن الجر ليس بـ (رب) المحذوفة ولا هي عاطفة، بل هي حرف خاص له استعماله ويدل على ذلك أمور منها:
1 -
انها لا يصح إبدالها بـ (رب) أو إظهار (رب) معها، فإنك تحس أن المعنى يختلف وذلك نحو قول الشاعر:
ألا رب يوم لك منهن صالح
…
ولا سيما يوم بدارة جلجل
فلا يحسن أن يقال فيه (ويوم لك منهن صالح) وكذلك نحو قوله (رب مبلغ أوعى من سامع) وقوله (رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) و (رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) و (رب أخ لك لم تلده أمك) و (رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش) فأنت ترى أنه لا يصح إبدالها بـ (رب) فلا تقول:
وكاسية في الدنيا عارية يوم القيامة، ولا وحامل فقه .. إلى آخره، ولو كانت بمعناها أو خلفا منها لصح إبدالها بها.
2 -
قد يراد بمجرور (رب) العموم، ولا يدل على شيء معين، وأما المجرور بعد الواو فلا بد فيه أن يكون مخصوصا، فقوله (رب كاسية في الدنيا عارية يوم القيامة) لا يدل على كاسية معينة، بل هو دال على العموم، وقوله:
(رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه) لا يراد به حامل فقه معين، وإنما يدل على العموم، ومثله: رب مبلغ أوعى من سامع، ورب أخ لك لم تلده أمك، بخلاف الواو فإنها تدل على أمر معين حصل، فقوله:
ودار نداي عطلوها وأدلجوا، الكلام فيه على دار معينة.
(1) الأصول 1/ 512 - 513
وقوله: (وصدر أراح الليل عازب همه) يعني فيه صدره.
وقوله: (وأطلس عسال وما كان صاحبا) يصف به ذئبا معينا.
وقوله: (وبيضة خدر لا يرام خباؤها) يريد به امرأة معينة.
فأنت تذكر مع الواو أمرًا معينا بخلاف (رب) التي قد يراد بها العموم
ولو صح في النثر أن تقول (ومبلغ أوعى من سامع)(1). كما قيل: (رب مبلغ أوعى من سامع) لكان المعنى أنك تقصد مبلغا معيا والكلام لم يتم بعد.
ولو صح القول وكاسية في الدنيا عارية يوم القيامة، لكان المعنى أنك تقصد به امرأة معينة بخلاف (رب)، وكذلك لو صح أن تقول (وأخ لك لم تلده أمك) لكنت تقصد به شخصا معينا، ثم تحس أن الكلام لم يتم بعد، فكأن المعنى بالواو: أخبرك عن دار، وأخبرك عن أطلس عسال، وأذكر لك كذا.
ولقد لمح هذا المعنى برجشتراسر فقال: " والواو قد تعمل الجر أيضا وهي واو (رب) نحو: : وكأس شربت أي رب كأس شربت. غير أن معناها ليس معنى رب في كثير من الحالات، نحو: وتاجر فاجر جاء الاله به، أي أعرف تاجرا فاجرا أو أذكره. وأصل هذه الواو غامض جدًا (2).
(1) إن هذه الواو لم ترد إلا في الشعر بخلاف (ربّ) فإنها وردت كثيرًا في الشعر والنثر - انظر الرضي 2/ 369
(2)
التطور النحوي 85 - 86
3 -
رب في الغالب تدل على التقليل، وقد يراد بها التكثير كما مر بنا، في حين أن الواو تدل على واحد، وحتى إذا كانت رب تفيد الواحد، يبقى المعنى مختلفا فقول الشاعر:
ألا رب مولود وليس له أب
…
وذي ولد لم يلده أبوان
لا يصح فيه إبدال الواو بها فنقول (ومولود ليس له أب) فنحن نحس أن الكلام غير تام ولا بد أن نذكر شيئا آخر يتعلق بهما.
4 -
ليس الكلام مع الواو ردا على كلام، ولا تقديرا له بل هو إخبار ابتدائي بخلاف (رب) فإن الكثير منها أن تكون ردا على كلام كما ذكرنا، فقوله:
وأطلس عسال وما كان صاحبا
…
دعوت بناري موهنا فأتاني
اخبار ابتدائي وكذلك قوله:
وصدر اراح الليل عازب همه
5 -
ثم إن هذه الواو ليست عاطفة، كما ذهب إليه البصريون، ولا أصلها عاطفة، كما ذهب إليه الكوفيون لأنها قد يبتدأ الشعر بها كقوله:
وقاتم الأعماق خاوي المخترق
وقوله: وليل كأن الصبح في إخرياته
أما قولهم إنه يقدر معطوف عليه كأنه قال (رب هول أقدمت عليه وقاتم الاعماق) فهو تكلف، لأن الأمر يتعلق بذكر أمر معين وحده، وربما لم يقع قبله مثله، فمن المحتمل أنه لم يقع قبل الحادثة التي وصفها الشاعر بقوله:
ودار ندامي عطلوها وأدلجوا
ما يصح عطفه عليها فالعطف تكلف ظاهر، ثم إنه لا يصح العطف على كلام مقدر ليس عليه دليل، فلا يصح أن تقول ابتداء (ولا أعود) على تقدير (سأسافر ولا أعود).
وأما قول الرضي أنها إن لم تكن في أول القصيدة فكونها للعطف ظاهر، فليس الأمر فيه كذلك، بل قد يؤتى بها في أثناء القصيدة وليس هناك أثر للعطف كقوله:
وبيضة خدر لا يرام خباؤها
…
تمتعت من لهو بها غير معجل
فهذا ليس معطوفا على كلام سابق، وهو مما يؤيد ما ذهبنا إليه، ولو كانت لم تقع في أثناء القصيدة، إلا معطوفة على كلام فيه (رب) لكان لهم فيه حجة.
أما قولهم أنها لو لم تكن عاطفة لجاز دخول حرف العطف عليها كواو القسم، فنحن نقول ووالله، وفوالله، وثم والله فهذا مردود، فإن ثمة أكثر من واو لا تدخل عليها حروف العطف، مع أنها ليست عاطفة، منها واو الاستئناف، كقوله تعالى:{ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه وهو في الآخرة من الخاسرين} [آل عمران: 85]، وكقولك (بضاعتك رديئة وهي عليك مردودة) وواو الاعتراض كقوله:
إن الثمانين وبلغتها
…
قد أحوجت سمعي إلى ترجمان.
وواو المعية في نحو (سرت والجدار)، وواو الحال (نحو رأيتك وأنت مسرع) فهي إذن حرف خاص ذو دلالة معينة، يختلف عن حرف العطف، وعن (رب) وليس بمعنى واحد منهما كما ذكرنا.
6 -
قد يكون فيها معنى التعجب، والتفخيم، كما ذهب إليه قسم من النحويين كقوله:
وليل يقول الناس من ظلماته
…
سواء صحيحات العيون وعورها
وقوله:
وليلة نحس يصطلي القوس ربها
…
وأقطعه اللاتي بها يتنبل
إن هذه الواو تعطي الجملة معنى لا يؤدي بالحذف فلو حذفت الواو من قوله:
وصدر أراح الليل عازب همه
…
تداعي عليه الهم من كل جانب
وقلت: (صدر أراح عازب همه) لتغير المعنى، وصار الكلام مبهما عامًا غير مراد منه صدر معين، ويصبح الكلام لا فائدة فيه، وكذلك وقوله:(وأطلس عسال) وقوله: (وليلة نحس يصطلي القوس ربها) فلو قلت: (ليلة نحس يصطلي القوس ربها) لكان الكلا عاما، فالواو تؤدي معنى خاصا لا يؤدي بحذفها كما ذكرت.
وأما الفاء، وبل، فالأظهر أن بعدهما (رب) محذوفة، ولذا يصح إظهار (رب) بعدهما (1).، والمعنى لا يتغير وذلك كقوله:
فمثلك حبلى قد طرقت ومرضع
فإنه يصح القول (رب مثلك حبلى قد طرقت موضع)
وقد تكون الفاء هذه واقعة في جواب الشرط كقوله:
وإن أهلك فذي حنق لظاه
…
علي يكاد يلتهب التهابا
والمعنى: فرب ذي حنق.
وكذلك (بل) قال الرضي: " وأما الفاء وبل فلا خلاف عندهم أن الجر ليس بهما بل بـ (رب) المقدرة بعدهما، لأن (بل) حرف عطف بها على ما قبلها، والفاء جواب الشرط (2)." يعني في البيت السابق.
على
على للاستعلاء، حقيقيا كان أم مجازيا، ولفظها يدل على ذلك، فهي من العلو، جاء في المقتضب، " على تكون حرف خفض على حد قولك: على زيد درهم، وتكون فعلا نحو قولك:(علا زيدٌ الدابة) و (على زيد ثوب) و (علا زيدًا ثوب) والمعنى قريب (3).
(1) الرضي 2/ 369
(2)
شرح الرضي 2/ 369
(3)
المقتضب 4/ 426
فمن الاستعلاء الحقيقي قولك: (هو على الجبل) و (حمله على ظهره)، ومن الاستعلاء المجازي قولهم:(عليه دين) كأن الدين علاه وركبه، ولذا تقول العرب: ركبتني ديون " كأنه يحمل ثقل الدين على عنقه أو على ظهره، ومنه على قضاء الصلاة وعليه القصاص لأن الحقوق كأنه راكبة لمن تلزمه"(1).
وتقول: (هو عليهم أمير) لاستعلائة عليهم من جهة الأمر (2).، فإن أمره أعلى وأنقذ من امرهم.
جاء في (كتاب سيبويه): " أما علي فاستعلاء الشيء تقول: هذا على ظهر الجبل وهي على رأسه .. وتقول عليه مال، وهذا كالمثل كما يثبت الشيء على المكان كذلك يثبت هذا عليه فقد يتسع هذا في الكلام ويجيء كالمثل (3).
قال تعالى: {الرجال قوامون على النساء} [النساء: 34]، أي يتولون أمرهن، وفيه معنى الاستعلاء، فإن العرب تقول:(قام عليه) بمعنى تولى أمره، وتقول (قام به) بمعنى فعله. قال تعالى:{كونوا قوامين بالقسط} [النساء: 135]، وتقول (قام له) أي لأجله، قال تعالى:{يأيها الذين أمنوا كونوا قوامين بالقسط} [المائدة: 8]، وتقول (قام عنه) بمعنى إنصرف عنه، وتقول (قام إليه) بمعنى (قام ذاهبا إليه) ففي (على) معنى الاستعلاء.
وتقول العرب (أنت على ضلال) و (أنت في ضلال) فمعنى (في ضلال) أنه ساقط في الضلال سقوطه في اللجة، أو أن الضلال احتواه احتواء الظرف على ما في داخله، ومعنى (على ضلال) أنه اتخذ الضلال مركبا يقوده إلى كل سوء.
جاء في (تفسير الرازي) في قوله تعالى: {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة: 5]، " معنى الاستعلاء في قوله (على هدى) بيان لتمكنهم من الهدى واستقرارهم عليه حيث شبهت حالهم بحال من اعتلي الشيء وركبه. ونظيره (فلان على الحق أو على الحق
(1) شرح الرضي 2/ 379، وانظر المقتضب 1/ 46
(2)
شرح ابن يعيش 8/ 38
(3)
كتاب سيبويه 2/ 310
أو على الباطل) وقد صرحوا به في قوله: جعل الغواية مركبا، وامتطى الجهل " (1).
وتستعمل العرب (على) للأفعال الشاقة المستثقلة، قال ابن جني:" وقد يستعمل (على) في الأفعال الشاقة المستقلة، تقول: قد سرنا عشرا وبقيت علينا ليلتان، وقد حفظت القرآن وبقيت علي منه سورتان .. وإنما اطردت (على) في هذه الأفعال حيث كانت على في الأصل للاستعلاء، والتفرع، فلما كانت هذه الأحوال كلفا ومشاق تخفض الإنسان وتضعه وتعلوه وتتفرعه، حتى يخنع لها ويخضع لها يتسداه، كان ذلك من مواضع (علي)، ألا تراهم يقولون: هذا لك وهذا عليك، فتستعمل الام تؤثره (على) فيما تكرهه"(2).
قالوا: وقد تأتي لمعانٍ أخرى، منها:
المصحابة كـ (مع) نحو قوله تعالى: {وآتي المال على حبه} [البقرة: 177]، أي مع حب المال، ونحو (فلان على جلالته يقول كذا) أي معها (3).
والظاهر أنها للاستعلاء وليست بمعنى (مع) تمامًا، فقوله (على حبه) قد يفيد أنه مستعل على حبه أو أنه يؤتى المال مع إنطواء قلبه على حبه، فحب المال في القلب، والقلب منطو عليه وهي حالة تختلف عن المصاحبة، فانطواء القلب على الشيء أنشد من مصاحبته له.
ونقول (هو ينفق على شحه)، و (هو ينفق مع شحه) والمعنى مختلف، فمعنى (على شحه) قد يفيد أنه مستعل على شحه، أو على معنى أنه ينفق مع إنطواء قلبه على الشح وهو غير المصاحبة.
وأما قولهم (هو على جلالته) فمعناه: أنه يلزمها لزوم الراكب لمركوبه من قولهم: ركبته الديون أي لزمته" (4).
(1) التفسير الكبير 2/ 33
(2)
لسان العرب 19/ 321
(3)
المغنى 1/ 143، شرح الرضي 2/ 379
(4)
شرح الرضي 2/ 379
والمجاوزة كعن كقوله:
إذا رضيت علي بنو قشير
…
لعمر الله أعجبني رضاها.
" أي عني. ويحتمل أن (رضي) ضمن معنى (عطف) .. وقال:
في ليلة لا نرى بها أحدا
…
يحكي علينا إلا كواكبها
أي عنا وقد يقال ضمن يحكي معنى ينم (1).
قالوا ومن استعمالها في المجاوزة أنها " تختص بتعدية بعد، وخفي، وتعذر، واستحال، وغضب ورضي وحرم ونحوها، قال في الاغراب لذلك اشتركت هي وعن في تعدية كثير من هذا الباب"(2).
والحق أنها تختلف في ذلك عن (عن) فقولك (بعد عنه) يختلف عن قولك (بعد عليه) فقولك (بعد خالد عنا) معناه أنه ابتعد بشخصه عنا، وأما (بعد عليه) ففيه معنى المشقة عليه. قال تعالى:{ولكن بعدت عليهم الشقة} [التوبة: 42]، فقد يكون الشيء بعيدًا عنك وليس بعيدا عليك، وتقول (بعدت على الطريق) بمعنى أنه من الصعوبة أن يصل إليه كما تقول: عسر عليه، وصعب عليه، فهو من الأفعال الشاقة التي أشار إليها ابن جني.
وتقول: ليس عليك ببعيد أن تفعل كذا، وليس على الله ببعيد أن يغير الأمور، ولا تقول في نحو هذا بعيد عنه.
وكذلك خفي عليه وخفي عنه، فخفي عنه يستعمل في الأمور المادية، قال الشاعر:
وتلفتت عيني فمذ خفيت
…
عني الطلول تلفت القلب
(1) 1/ 143
(2)
جواهر الأدب 222
وتقول: خفيت عنا المدينة.
وأما (خفي عليه) فيستعمل في الأمور المعنوية، تقول (لا يخفي عليك هذا الأمر) بمعنى أنت مطلع عليه، قال تعالى:{إن الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء} [آل عمران: 5]، أي لا يند عنه.
وقال: {إن الذين يلحدون في آياتنا لا يخفون علينا} [فصلت: 40]، وأما تعذر عليه واستحال عليه فلما فيهما من معنى الكلفة والمشقة، أي: يشق عليه ويصعب.
وأما غضب عليه فليس فيه مجاوزة، بل معناه أنه أنزل غضبه عليه وأحل غضبه عليه، والعرب تقول: صب جام غضبه عليه. و (رضي عليه) بمعنى عطف عليه، أو بمعنى أحل عليه رضوانه، كما جاء في الأثر فاليوم أحل عليهم رضواني وأما رضي عنه فمعناه تجاوز عنه بالرضا.
وأما حرمه، عليه فلما فيه من معنى العهد والالتزام، كما تقول: علي عهد الله وعلي يمين الله، وفي الحديث القدسي (يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا (1).) ثم إن فيه استعلاء، فإن الذي بيده التحريم مستعل لأنه بيده ذلك الأمر.
وللتعليل كـ (اللام) نحو {ولتكبروا الله على ما هداكم} [البقرة: 185]، أي: لهدايته إياكم (2). وسنبحث التعليل في موطن لاحق.
وللظرفية كقوله تعالى: {ودخل المدينة على حين غفلة من أهلها} [القصص: 15]، وقولهم: كان ذلك على عهد فلان، أي في عهده (3)، وسنبحث ذلك في موطن لاحق.
ولموافقة (من)، وجعلوا منه قوله تعالى:{إذا اكتالوا على الناس يستوفون} .
(1) صحيح مسلم باب تحريم الظلم 8/ 17
(2)
المغنى 1/ 143
(3)
المغني 1/ 144، لسان العرب 19/ 322 - 323
[المطففين: 2](1). وقيل بل هو متضمن معنى التسلط على الناس والتحكم، أي تسلطوا عليهم بالاكتيال (2).
والظاهر أنه هو الصواب، لأن هناك فرقا بين قولك: اكتال منه، واكتال عليه، فاكتال منه لا يفيد أنه ظلمه حقه، وهضمه ماله، بخلاف اكتال عليه، فإن فيه معنى التسلط والاستعلاء وهذا في المطففين قال تعالى:{ويل للمطففين الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} [المطففين: 1 - 3]، فهم إذا أخذوا منهم، اخذوا أكثر من حقهم، وإذا أعطوهم أعطوهم أقل من حقهم، ففيه إذن معنى التحكم، والجور، والظلم، وهو أبلغ من (من) ها، وليست بمعنى (من) ولا تفيد (من) هذا المعنى.
ثم انظر إلى التعبير اللطيف الآخر بعده، وهو قوله:(وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون) ولم يقل كالوا لهم أو وزنوا لهم، وكلاهما جائز، ولكن في حذف اللام معنى لا يؤديه ذكره قالوا، وذلك أن اللام تفيد الاستحقاق، وهم لم يعطوهم حقهم فحذف اللام الدالة على الاستحقاق إشارة إلى أنهم منعوهم حقوقهم.
وتأتي للاستدراك والاضراب كقولك: فلان لا يدخل الجنة لسوء صنيعه على أنه لا ييأس من رحمة الله .. وقوله:
بكل تداوينا فلم يشف ما بنا
…
على أن قرب الدار خير من البعد
ثم قال:
علي أن قرب الدار ليس بنافع
…
إذا كان من تهواه ليس بذي ود (3).
وتأتي اسما بمعنى فوق إذا دخلت عليها (من) كقولك سقط من على السطح
(1) المغني 1/ 145
(2)
انظر شرح الدماميني على المغنى 1/ 289
(3)
المغنى 1/ 145