الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفاء مع الصفات:
ذكر الزمخشري أن للفاء مع الصفات ثلاثة أحوال.
"أحدها أن تدل على ترتيب معانيها في الوجود كقوله:
يالهف زيابة للحارث الصـ
…
ـابح فالغانم فالآيب
أي: الذي صبح فغنم فآب.
ونحوه أن تقول: (مررت برجل خادع صاحبه فقاتله) أي خدعه فقتله، فالخداع قبل القتل.
والثاني أن تدل على ترتيبها من بعض الوجوه، نحو قولك: خذ الأكمل فالأفضل واعل الأحسن فالأجمل".
ونحو ذلك أن تقول: إبدأ بالأسهل فالأصعب، واحفظ السور القصار فالطوال.
" والثالث أن تدل على ترتيب موصوفاتها في ذلك، نحو (رحم الله المحلقين فالمقصرين (1). فالمحلقون أفضل من المقصرين فبدأ بهم بحسب ترتيبهم في الفضل، ونحو ذلك، أن يقال:(يتقدم الأقرأ فالأسن) فالأقرأ أفضل من الأسن.
وهي في كل ذلك تفيد الترتيب، سواء كان الترتيب في الحدوث أم غيره.
ثم:
حرف عطف يفيد الترتيب والتراخي، ومعنى التراخي المهلة، فإذا قلت (أقبل محمد ثم خالد) كان المعنى أنه أقبل محمد أولا وبعده بمهلة أقبل خالد.
جاء في (كتاب سيبويه): " ومن ذلك: مررت برجل ثم امرأة، فالمرور ههنا مروران وجعلت (ثم) الأول مبدوءا به، وأشركت بينهما في الجر (2).
(1) المغني 1/ 163
(2)
كتاب سيبويه 1/ 218
وجاء في (المقتضب): " وثم مثل الفاء إلا أنها أشد تراخيا (1).
وجاء في (جواهر الأدب) أن (ثم) حرف " يفيد الترتيب كالفاء مع المهلة والتراخي لأنها أكثر حروفاً منها"(2). قال تعالى: {أماته فأقبره ثم إذا شاء أنشره} [عبس: 21 - 22]، فعقب بالفاء بعد (أماته) لأن الإقبار في عقب الموت، وراخي بعد ذلك لأن النشور يتأخر (3).
وقال تعالى: {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار فإذا هم مظلمون} [يس: 37]، فجاء بالفاء لأن الليل يعقب النهار (4). وقال:{ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} [الروم: 20]، فجاء بـ (ثم) لأن البشر المنتشر متراخ عن كونه ترابا، وبينهما مهلة.
جاء في (تفسير الرازي) في قوله: {ومن آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون} وقوله: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ثم إذا دعاكم دعوة من الأرض إذا أنتم تخرجون} [الروم: 25]، " قال ههنا (إذا أنتم تخرجون) وقال في خلق الإنسان أولا (ثم إذا أنتم بشر تنتشرون) فنقول هناك يكون خلق وتقدير وتدريج وتراخ، حتى يصير التراب قابلا للحياة فينفخ فيه روحه فإذا هو بشر، وأما في الإعادة لا يكون تدرج وتراخ بل يكون نداء وخروج، فلم يقل ههنا (ثم)(5).
وخالف قوم في اقتضائها الترتيب والتراخي، واستدلوا على عدم الترتيب بقوله تعالى {خلقكم من نفس واحدة ثم جعل منها زوجها} [الزمر: 6]، فإن خلق الزوج ليس بعد خلقهم من نفس واحدة، وبقول الشاعر:
(1) المقتضب 1/ 10، وانظر للزجاجي 31، المفصل 2/ 197
(2)
جواهر الأدب 216
(3)
انظر التصريح 2/ 140
(4)
انظر روح المعاني 23/ 10
(5)
التفسير الكبير 25/ 116
إن من ساد ثم ساد أبوه
…
ثم قد ساد قبل ذلك جده
فسيادة الأب ليست بعد سيادة الابن.
واستدلوا على عدم التراخي بقولهم (أعجبني ما صنعت اليوم ثم ما صنعت أمس أعجب " لأن (ثم) في ذلك لترتيب الإخبار، ولا تراخي بين الإخبارين (1).
وبقوله:
كهز الرديني تحت العجاج
…
جرى في الأنابيب ثم اضطرب
" إذا الهز متى جرى في أنابيب الرمح، يعقبه الإضطراب ولم يتراخ عنه (2).
وأجيب عن ذلك بإجابات:
منها: أنه في الآية الكريمة أراد أن يذكر بدء خلق الإنسانن فذكر أنه خلقهم من نفس واحدة، خلق منها زوجها، وليس القصد أنه جعل زوجها بعد خلقهم من النفس الواحدة.
ومنها أن الترتيب مخصوص بالمفردات، " مستدلين بعدم الترتيب في قوله تعالى:{فإلينا مرجعهم ثم الله شهيد على مايفعلون} [يونس: 46]، وقوله تعالى:{استغفروا ربكم ثم توبوا إليه} [هود: 52]، .. ورد بأن الترتيب للأخبار لا للمخبر عنه، كقولهم: زيد عالم كريم ثم هو شجاع (3).
ومنها أنها لمجرد الترتيب في الذكر
جاء في (شرخ الرضي على الكافية): " وقد تجيء (ثم) لمجرد الترتيب في الذكر والتدرج في درج الإرتقاء وذكر ما هو الأولى، ثم الأولى من دون اعتبار التراخي والبعد
(1) المغني 1/ 118
(2)
المغني 1/ 119
(3)
جواهر الأدب 216
بين تلك الدرج، ولا أن الثاني بعد الأول في الزمان، بل ربما يكون قبله كما في قوله:
إن من ساد ثم ساد أبوه
…
ثم قد ساد قبل ذلك جده
فالمقصود ترتيب درجات معالي الممدوح فابتدأ بسيادته، ثم بسيادة أبيه، ثم بسيادة جده، وإن كان سيادة الأب مقدمة في الزمان على سيادة نفسه .. وقد تكون (ثم) والفاء أيضا لمجرد التدرج في الارتقاء، وإن لم يكن الثاني مرتبا في الذكر على الأول، وذلك إذا تكرر الأول بلفظه، نحو بالله، ووالله، ثم والله، وقوله تعالى:{وما أدراك ما يوم الدين ثم ما أدراك ما يوم الدين} [الإنفطار: 17 - 18]، وقوله تعالى:{كلا سيوف تعلمون ثم كلا سوف تعلمون} [التكاثر: 3 - 4]، وقوله {وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى} [طه: 82]، أي ثم بقي على ذلك الهدى من التوبة والإيمان والعمل الصالح، كما قيل في {اهدنا الصراط المستقيم} [الفاتحة: 6]، أي أبقنا عليه، فاستعمل (ثم) أما نظرا إلى تمام البقاء أو استبعادا لمرتبة البقاء عليها من مرتبة ابتدائها، لأن البقاء عليها أفضل" (1).
وأما التراخي فقد أجيب عنه، أن (ثم) واقعة موقع الفاء في قوله:{جرى في الأنابيب ثم أضطرب} . (2).
والحق أنه ليس المقصود بالتراخي المهلة الزمانية فقط، بل عموم البعد والتباين سواء كان ذلك في الزمان أم في الصفات أم في غيرهما، وذلك أن هذه اللفظة تفيد البعد عمومًا، فهي بفتح الثاء (ثم) إشارة إلى المكان البعيد، ويضم الثاء للتراخي في الزمان والبعد في الصفات والأحوال، يدل على ذلك استعمالها الكثير في فصيح الكلام.
جاء في (شرح الرضي على الكافية): " وقد تجيء في الجمل خاصة لاستبعاد مضمون ما بعدها عن مضمون ما قبلها، وعدم مناسبته له، كما ذكرنا في قوله تعالى:
(1) شرح الرضي 2/ 407
(2)
المغني 1/ 118 - 119
{ثم أنشأناه خلقا آخر} [المؤمنون: 14]، وكقوله تعالى:{خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} [الأنعام: 1]، فالإشراك بخالق السماوات والأرض مستبعد غير مناسب، وهذا المعنى فرع التراخي ومجازه" (1).
وجاء في (البرهان): " قال ابن بري: قد تجي (ثم) كثيرا لتفاوت ما بين رتبتين في قصد المتكلم فيه تفاوت ما بين مرتبتي الفعل مع السكوت عن تفاوت رتبتي الفاعل كقوله تعالى: {الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} فـ (ثم) هنا لتفاوت رتبة الخلق والجعل، من رتبة العدل مع السكوت عن وصف العادلين.
ومثله قوله تعالى: {فلا اقتحم العقبة} [البلد: 11]، إلى قوله:{ثم كان من الذين امنوا} [البلد: 17](2). دخلت لبيان تفاوت رتبة الفك والإطعام من رتبة الإيمان ..
وذكر غيره في قوله: {ثم الذين كفروا بربهم يعدلون} أن ثم دخلت لبعد ما بين الكفر وبين خلق السماوات والأرض.
وعلى ذلك جرى الزمخشري في مواضع كثيرة من الكشاف .. قوله: {إن الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا} [فصلت: 30]، قال: كلمة التراخي دلت على تباين المنزلتين دلالتها على تباين الوقتين في جاء زيد ثم عمرو، أعني أن منزلة الاستقامة على الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه لأنها أعلى منها وأفضل ..
والحاصل أنها:
للتراخي في زمان وهو المعبر عنه بالمهلة.
(1) شرح الرضي 2/ 406
(2)
يعني الآيات: {فلا اقتحم العقبة وما أدراك ما العقبة فك رقبة أو إطعام في يوم ذي مسغبة يتيما ذا مقربة أو مسكينا ذا متربة ثم كان من الذين أمنوا وتواصوا بالصبر وتواصوا بالمرحمة} [البلد: 11 - 17]
وتكون للتباين في الصفات وغيرها من غير قصد مهلة زمانية، بل ليعلم موقع ما يعطف بها وحاله، وأنه لو انفرد لكان كافيا فيما قصد فيه، ولم يقصد في هذا ترتيب زماني، بل تعظيم الحال فيما عطف عليه وتوقعه وتحريك النفوس لاعتباره (1).
وجاء في (الكشاف) في قوله: {كتاب أحكمت أياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير} [هود: 12]، فإن قلت: ما معنى ثم؟
قلت: ليس معناها التراخي في الوقت، ولكن في الحال، كما تقول هي محكمة أحسن الأحكام ثم مفصلة أحسن التفصيل، وفلان كريم الأصل ثم كريم الفصل (2).
وجاء فيه في قوله تعالى: {ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها} [السجدة: 22]، " ثم في قوله (ثم أعرض عنها) للإستبعاد والمعنى لأن الأعراض عن مثل آيات الله في وضوحها وأنارتها وإرشادها إلى سواء السبيل والفوز بالسعادة العظمي بعد التذكير بها مستبعد في العقل والعدل، كما تقول لصاحبك:(وجدت مثل تلك الفرصة ثم لم تنتهزها) استبعادا لتركه الانتهاز ومنه (ثم) في بيت الحماسة:
لا يكشف الغماء إلا ابن حرة
…
يرى غمرات الموت ثم يزورها
أستبعد أن يزور غمرات الموت بعد ان رآها واستيقنها وأطلع على شدتها (3). قال تعالى: {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب} [النساء: 17]، فلو كان المقصود بـ (ثم) التراخي في الزمان لتناقض ذلك مع قوله تعالى:{ثم يتوبون من قريب} ولكنها دخلت لبعد ما بين الحالين: عمل السوء والتوبة من قريب.
وقال صلى الله عليه وسلم: " أشد الناس بلاء الأنبياء ثم الأمثل فالأمثل"
(1) البرهان 4/ 266
(2)
الكشاف 2/ 90
(3)
الكشاف 2/ 526