الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
ويحتمل أن يكون معنى قول رؤبة (لا تشتم الناس كما لا تحب ان تشتم) وعلى أية حال فوظيفة (ما) هذه توسع دائرة الاستعمال، سواء أكانت مع حروف الجر أم مع غيرها، وذلك كما في الأحرف المشبهة بالفعل، فإنها إذا دخلت عليها (وما) هذه وسعت استعمالها فصارت تدخل على الأفعال والأسماء، بعد أن اكنت مختصة بالدخلو على الأسماء، وكما في (بعد) وبين، فهما مختصتان بالإضافة إلى الأسماء، فإذا دخلت عليهما (ما) هذه صح دخولها عن الجمل الفعلية والإسمية، تقول (بعد ما كان ملكا أصبح سوقة) قال الشاعر:
أعلاقة أم الوليد بعدما
…
افنان رأسك كالثغام المخلس
وقيل (ما) مصدرية، ونحوه:
بينما نحن بالأراك معا
…
أذ أتى راكب على جمله
وتقول: (بينما كنت سائرا، إذ طلع علي رجل مهيب الطلعة).
وكما في طال، وكثر وقل، فهي مختصة بالاسماء، تقول: طال السفر وقل الزاد، فإن دخلت عليها ما هيأتها للدخول على الأفعال، تقول: طالما اجتمعنا وقلما اتفقنا. وقيل هي مصدرية (1).
ما غير الكافة:
تزاد ما غير كافة بعد طائفة من حروف الجر، وذلك بعد من، وعن، والباء ورب، والكاف فيبقي لها اختصاصها كما كان وذلك نحو قوله تعالى:{عما قليل ليصبحن نادمين} [المؤمنون: 40]، وقوله:{فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم} [المائدة: 13]، وقوله:{مما خطيئاتهم أغرقوا فأخلوا نارا} [نوح: 25]، وقول الشاعر:
ربما ضربة بسيف صقيل
…
بين بصري وطعنة نجلاء
(1) انظر شرح الرضي 2/ 382، المغني 1/ 311
وقوله:
ماوي ياربتما غارة
…
شعواء كاللدغة بالميسم
وقوله:
وننصر مولانا ونعلم أنه .. كما الناس مجروم عليه وجارم (1).
وهي في هذا الموطن مؤكدة، قال تعالى:{عما قليل ليصبحن نادمين} فأكد أنه بعد قليل سيندمون، ألا ترى كيف قرن نون التوكيد معها لزيادة التوكيد، كما قرنها معها في غير هذا الموطن، قال تعالى:{وإما تخافن من قوم خيانة} [الأنفال: 58]، فجمع بين (ما) ونون التوكيد لزيادة التوكيد، وكما يجمع بين اللام وإن، ونحو:{إن ربك لسريع العقاب وإنه لغفور رحيم} [الأعراف: 167]، وكما يجمع بين القسم وإن لزيادة التوكيد نحو (والله إنك لمؤتمن) قال سيبويه: وأما قوله: عز وجل: {فيما نقضهم ميثاقهم} فإنما جاء لأنه ليس ما معنى سوى ما كان قبل أن تجيء به إلا التوكيد، ثمن ثم جاء ذلك إذا لم ترد به أكثر من هذا (2).
وجاء في لسان العرب: وتجيء ما صلة يريد بها التوكيد كقول الله عز وجل: {فبما نقضهم ميثاقهم} المعنى: فبنقضهم ميثاقهم. وقال ابن الأنباري في قوله عز وجل {عمل قليل ليصبحن نادمين} قال يجوز أن يكون معناه: عن قليل وما توكيد، ويجوز أن يكون المعنى: عن شيء قليل وعن وقت قليل فيصبر (ما) اسما غير توكيد" (3).
وهي تفيد التوكيد أيضا إذا زيدت في غير هذا الموطن، وذلك نحو ما ذكرنا من زيادتها بعد أدوات الشرط نحو:{وإما تعرضن عنهم ابتغاء رحمة من ربك ترجوها} [الإسراء: 28].
(1) شرح ابن عقيل 1/ 234، جواهر الأدب 220، شرح الرضي على الكافية 2/ 368
(2)
كتاب سيبويه 1/ 92
(3)
لسان العرب 20/ 363، وانظر المغنى 1/ 316، شرح ابن يعيش 8/ 30
ولذلك يكثر وصل نون التوكيد بالفعل بعدها، ونحو:{أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى} [الإسراء: 110]، وكزيادتها بعد الأحرف المشبهة بالفعل، إذا لم تكن كافة نحو (ليتما محمد معنا)، جاء في (كتاب سيبويه): وتكون وتوكيد لغوا وذلك قوله (متى ما تأتني آتك) وقولك: (غضبت من غير ما جرم) وقال عز وجل: {فبما نقضهم ميثاقهم} فهو لغو في إنها لم تحدث إذا جاءت شيئا، لم يكن قبل أن تجيء العمل، وهي توكيد للكلام (1).
وذهب الزمخشري في (الكشاف) إلى أنها تفيد القصر زيادة على معنى التوكيد فقد جاء فيه في قوله تعالى: {فبما رحمة من الله لنت لهم} [آل عمران: 159].
ما: مزيدة للتوكيد والدلالة على أن لينه لهم ما كان إلا برحمة الله ونحوه: (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم)(2).
وجاء في قوله تعالى: {مما خطيئاتهم أغرقوا} [نوح: 25]: " لبيان ان لم يكن أغراقهم بالطوفان فادخالهم النار إلا من أجل خطيئاتهم وأكد هذا المعنى بزيادة (ما)(3).
وذهب هذا المذهب جماعة، منهم ابن القيم، فقد جاء في (بدائع الفوائد): " قول (فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم) أي ما لعناهم إلا بنقضهم ميثاقهم، ونحو:(فبما رحمة من الله لنت لهم) أي: ما لنت لهم إلا برحمة من الله. ولا تسمع قول من يقول من النحاة أن ما زائدة في هذا الموضع فإنه صادر عن عدم تأمل.
فإذا عرفت أن زيادتها مع إن واتصالها بها اقتضى هذا النفي والإيجاب، فانقل هذا المعنى إلى اتصالها بحرف الجر مع قوله تعالى:{فبما رحمة من لله لنت لهم} و (فبما نقضهم ميثاقهم) وتأمل كيف تجد الفرق بين هذا التركيب، وبين أن يقال (فبرحمة من الله).
(1) كتاب سيبويه 2/ 305
(2)
الكشاف 1/ 357، وانظر 1/ 435
(3)
الكشاف 3/ 237
و (فبنقضهم ميثاقهم) وأنك تفهم من تركيب الآية: ما لنت لهم إلا برحمة من الله، وما لعناهم إلا بنقضهم ميثقاهم" (1).
والحق أنها لا تفيد القصر هنا، بل هي مؤكدة، أما معنى القصر الذي ذكر فهو متأت من التقديم، لا من زيادة (ما)، قال تعالى:{فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم قلوبنا غلف بل طبع الله عليها بكفرهم فلا يؤمنون إلا قليلا} [النساء: 155]، فقدم نقض الميثاق والكفر بآيات الله، وقتل الأنبياء لإفادة الحصر، والتقديم يفيد القصر، ـ كما مر في كثير من المواطن.
أما (ما) فهي للتوكيد وناسب زيادتها ههنا أن الكلام قبل هذه الآية على الميثاق. قال تعالى: {ورفعنا فوقهم الطور بميثاقهم وقلنا لهم ادخلوا الباب سجدا وقلنا لهم لا تعدوا في السبت وأخذنا منهم ميثاقا غليظا فبما نقضهم ميثاقهم وكفرهم بآيات الله} [النساء: 154 - 155]، فلما تقدم الكلام على الميثاق، وأخذ الميثاق الغليظ منهم، ناسب ذلك زيادة (ما) لتوكيد النقض كما ناسب تقديمه على بقية الأسباب للاهتمام به في هذا الموطن.
ونحوها قوله تعالى: {فبما نقضهم ميثاقهم لعنانهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه} [المائدة: 13]، فالقصر متأت من التقديم لا من (ما)، أما (ما) فهي للتوكيد، وناسب زيادتها أن السياق هو في الكلام على الميثاق كآية النساء، قال تعالى:{ولقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل وبعثنا منهم اثنى عشر نقيبا وقال الله إني معكم لئن أقمتم الصلاة وأتيتم الزكاة وأمنتم برسلي وعزرتموهم وأقرضتم الله قرضا حسنا لأكفرن عنكم سيئاتكم ولأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار، فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم وجعلنا قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ونسوا حظا مما ذكروا به ولا تزال تتطلع على خائنة منهم إلا قليل منهم فاعف عنهم واصفح إن الله يحب المحسنين ومن الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به} [المائدة: 12 - 14].
(1) بدائع الفوائد 2/ 150 - 151
فالكلام، كما ترى، على الميثاق، فناسب ذلك زيادة (ما) لتوكيد نقض الميثاق، وكذا الكلام في آية نوح، وهو قوله تعالى:{مما خطيئاتهم أغرقوا فأدخلوا نارا} [نوح: 25]، فإن القصر فيها متأت من التقديم.
أما ما قاله ابن القيم فيمن قال من النحاة إنها زيادة فغلو عليهم، فهم لا يقولون بأنها زائدة لا فائدة منها، وإنما يقولون هي زائدة مؤكدة، فهي واردة لتأدية معنى، لا لغير معنى.
وأما ما ذكره من أنها نظيرة (أن) فإن زيادتها مع إن اقتضي معنى النفي والإيجاب - يعني القصر - فانقل هذا المعنى إلى اتصالها بحرف الجر، فهذا مردود بأن التي تفيد القص هي الكافة فقط، أما غير الكافة فلا تفيده.
ويؤيد ما ذهبنا إليه في أن ما غير الكافة المزيدة بعد حروف الجر، لا تفيد القصر بل التوكيد.
1 -
إن ما إذا زيدت غير كافة في الأحرف المشبة بالفعل، كانت مؤكدة نحو (إنما محمدا قائم) وإذا زيدت كافة فهي للقصر، وللتهيئة للدخول على ما لم تكن تدخل عليه. جاء في شرح ابن يعيش: وقيل إنما زيدا منطلق، فيجوز في أن الإعمال والإلغاء فمن ألغي ورفع، وقال (إنما زيد منطلق) كانت ما كافة .. ومن أعمالها وقال:(إنما زيدا منطلق) كانت ملغاة والمراد بها التأكيد (1).
2 -
إن ما غير الكافة الداخلة على الشرط أو غيره لا تفيد معنى القصر، وذلك نحو (وإما تخافن من قوم خيانة) ونحو (غضبت من غير ماحرم) بل تفيد التوكيد
3 -
ليس هناك نصوص تقطع بأن غير الكافة تفيد القصر مع حروف الجر، بل الأولى أن تكون الكافة المزيدة بعد أحرف الجر هي التي تفيد القصر، إذا احتمل المعنى ذلك نظيره أن، وذلك نحو قوله تعالى:{ربما يود الذين كفروا لو كانوا مسلمين} [الحجر: 2]، فهو يحتمل أن المعنى: لا يود الذين كفروا كثيرا إلا هذا الأمر.
(1) شرح ابن يعيش 8/ 133