الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التضمين
ذكرنا أنه قد ينوب حرفُ عن حرفٍ لأداء معنى معين، ولكن الأصل عدم النيابة بل إبقاء الحرف على أصل معناه.
ولسنا نذهب مذهب من يجعل نيابة الحروف عن بعضها هي الأصل، وأن الحرف الواحد يقع بمعنى عدة حروف بصورة مطردة.
فـ (من) مثلا تأتي عندهم بمعنى على، وبمعنى عن وبمعنى في، وبمعنى الباء، وبمعنى عند.
و(الباء) تأتي بمعنى من، وبمعنى عن، وبمعنى علي، وبمعنى إلى، وبمعنى مع، و (إلى) تأتي بمعنى اللام، وفي ومن، وعند، وغير ذلك
والصواب أن كثيرًا منه او أكثره خارج على التضمين.
ومعنى (التضمين) إشراب لفظ معنى لفظ فيعطونه حكمه، وفائدته أن تؤدي كلمة مؤدى كلمتين كقولهم (سمع الله لمن حمده) أي استجاب فعدى (يسمع) باللام وإنما أصله أن يتعدي بنفسه مثل {يوم يسمعون الصيحة بالحق} [ق: 42]، وكقول الفرزدق:
كيف تراني قالبًا مجني
…
قد قتل الله زيادًا عني
أي صرفه عني بالقتل (1).
وجاء في (حاشية السيد الجرجاني على الكشاف): " التضمين أن تقصد بلفظ فعل معناه الحقيقي ويلاحظ معه معنى فعل آخر يناسبه، ويدل عليه بذكر شيء من متعلقاته، كقوله (أحمد إليك فلانا) لاحظت فيه مع الحمد معنى الانهاء، ودللت عليهب ذكر صلته، أعني (إلى) أي أنهي حمده إليك.
(1) انظر المغني 2/ 686 - 686
وفائدة التضمين إعطاء مجموع المعنيين فالفعلان مقصودان معًا قصدًا وتبعًا" (1).
وجاء في الكشاف في قوله تعالى: {ولا تعد عيناك عنهم} [الكهف: 28]، " يقال عداه إذا جاوزه ومنه قولهم عدا طوره .. وإنما عدي بـ (عن) لتضمن (عدا) معنى (نبا) و (علا) في قولك نبت عنه عينه، وعلت عنه عينه، إذا اقتحمته ولم تعلق به.
فإن قلت: أي غرض في هذا التضمين؟ وهلا قيل: ولا تعدهم عيناك، أو لا تعل عيناك عنهم
قلت: الغرض فيه إعطاء مجموع معنيين، وذلك أقوى من إعطاء معنى فذ، ألا ترى كيف رجع المعنى إلى قولك ولا تقتحمهم عيناك مجاوزين إلى غيرهم، ونحوه قوله تعالى:{ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء: 2]، أي ولا تضموها إليها آكلين لها (2).
وجاء في (الخصائص): اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر، وكان أحدهما يتعدى بحرف، والآخر بآخر، فإن العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين، موقع صاحبه إيذانا بأن هذا الفعل في معنى ذلك الآخر، فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه وذلك كقول الله عز اسمه:" أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} [البقرة: 187]، وأنت لا تقول رفثت إلى المرأة، وإنما تقول رفثت بها، لكنه لما كان الرفث هنا في معنى الافضاء وكنت تعدي أفضيت بـ (إلى) كقولك (أفضيت إلى المرأة) جئت بـ (إلى) مع الرفث، إيذانا وإشعارا إنه بمعناه"(3).
وجاء في (أمالي ابن الشجري) في قوله تعالى: {من بعد أن أظفركم عليهم} [الفتح: 24]، أن الجاري على ألسنتهم ظفرت به وأظفرني الله به، ولكن جاء أظفركم عليهم محمولا على أظهركم عليهم (4).
(1) حاشية الجرجاني 1/ 97
(2)
الكشاف 2/ 257
(3)
الخصائص 2/ 308
(4)
أمالي ابن الشجري 1/ 148
فللتضمين غرض بلاغي لطيف، وهو الجمع بين معنيين بأخصر أسلوب، وذلك بذكر فعل وذكر حرف جر يستعمل مع فعل آخر، فنكسب بذلك معنيين: معنى الفعل الأول ومعنى الفعل الثاني، وذلك نحو قوله تعالى:{ونصرناه من القوم الذين كذبوا} [الأنبياء: 77]، فقد ذهب قوم إلى أن (من) ههنا بمعنى (على)، وهذا فيه نظر، فإن هناك فرقا في المعنى بين قولك (نصره منه) و (نصره عليه) فالصر عليه يعني التمكن منه والاستعلاء عليه والغلبة، قال تعالى:{ويخزهم وينصركم عليهم} [التوبة 14]، وقال:{فانصرنا على القوم الكافرين} [البقرة: 286]، أي مكنا منهم، وليس هذا معنى نصره منه.
أما (نصرناه منهم) فإنه بمعنى نجيناه منهم، أو منعناه منهم، قال تعالى:{ويقوم من ينصرني من الله إن طردتهم} [هود: 30]، فليس المعنى من ينصرني على الله، بل من ينجيني ويمنعني منه؟
وقد تقول: ما الفرق بين قولنا {ونجيناه من القوم} وقولنا {نصرناه من القوم} والجواب أن النتيجة تتعلق بالناجي فقط، فعندما تقول {نجيته منهم} كان المعنى أنك خلصته منهم، ولم تذكر أنك تعرضت للآخرين بشيء، كما تقول (أنجيته من الغرق) ولا تقول (نصرته من الغرق)، لأن الغرق ليس شيئا ينتصف منه.
أما النصر منه ففيه جانبان في الغالب: جانب الناجي، وجانب الذين نجي منهم، فعندما تقول (نصرته منهم) كان المعنى أنك نجيته وعاقبت أولئك، أو أخذت له حقه منهم.
وهذه فائدة التضمين ففيه كسب معنيين في تعبير واحد معنى الفعل المذكور والفعل والمحذوف الذي ذكر شيء من متعلقاته.
وللتضمين صور أخرى، فقد يضمن فعل متعد معني فعل لازم كقوله تعالى:{فليحذر الذين يخالفون عن أمره} [النور: 63]، فإن (خالف) فعل متعد يقال:(خالفت أمره) ولا يقال: (خالفت عن أمره)، ولكن ضمن معنى الابتعاد والخروج، والانحراف، كأنه قال: فليحذر الذين يبتعدون عن أمره، أو ينحرفون عن أمره.
وقد يضمن فعل لازم معنى فعل متعد، كقوله تعالى:{ولا تعزموا عقدة النكاح} [البقرة: 235]، لأن (عزم) فعل لازم، وقد ضمن معنى (ولا تنووا)(1).
والعدول إلى طريقة ما في التعبير بأقصر طريق، ظاهرة من ظواهر العربية، من ذلك ما مر في المفعول المطلق من ذكر فعل وذكر مصدر فعل آخر، يلاقيه في الاشتقاق معه، كما في قوله تعالى:{وتبتل إليه تبتيلا} [المزمل: 8]، فقد جمع معني: التبتل والتتيل، أي التدرج والكثرة في آن واحد، ومنه ما ذكرناه في قوله تعالى:{وادعوه خوفا وطمعا} [الأعراف: 56]، فقد كسبنا باستعمال المصدر بدلا من اسم الفاعل معنى الحالية، والمفعول لأجله، والمفعولية المطلقة، بخلاف ما لو قال (أدعوه خائفين) فإنه ليس فيه إلا معنى الحالية، كما مر ذكر ذلك مفصلا.
أما من حيث قياسية التضمين وعدمها، فأمثل ما نذكره في هذا الباب قرار المجمع اللغوي القاهرى في دور انعقاده الأول وهو:
" التضمين أن يؤدي فعل أو ما في معناه في التعبير مؤدي فعل آخر، أو ما في معناه فيعطي حكمه في التعدية واللزوم.
ومجمع اللغة العربية يرى أنه قياسي لا سماعي، بشروط ثلاثة:
الأول: تحقيق المناسبة بين الفعلين.
الثاني: وجود قرينة تدل على ملاحظة الفعل الآخر، ويؤمن معها اللبس.
الثالث: ملاءمة التضمين للذوق العربي.
ويوصي المجمع ألا يلجأ إلى التضمين إلا لغرض بلاغي (2).
(1) انظر شرح الرضي 2/ 302، المغنى 2/ 521
(2)
النحو الوافي 2/ 463