الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
أسرته لم يكن كذلك، وإنما هو من أسرة من أهل حائل يقال لهم (الصعيدي) جاء أبوه إلى القصيم وأن أمه من أهل خب الحلوة حيث ولد ونشأ هناك، واختار لقب القصيمي بديلًا من (الصعيدي) الذي قد يفسره بعض الناس بأنه المنسوب إلى صعيد مصر، فيقول: إنه ليس من أهل البلاد الأصلاء.
وكانت أمه آنذاك موجودة تعيش في (خب الحلوة) أحد خبوب بريدة الغربية.
ولكننا لم نكن في ذلك الوقت على ما نحن عليه الآن من محبة استقصاء الأمور، وإلا لكنا بحثنا عن أقاربه في خب الحلوة القريب، وأخذنا أخبار طفولته وأخبار أسرته منهم.
من الصعيدي إلى القصيمي:
اسم أسرة والد الأستاذ عبد الله القصيمي هي (الصعيدي) وهي أسرة معروفة في حائل، وأذكر أن رجلًا منهم كانت له سيارة يسوقها في أول عهد الناس بالنقل بالسيارات سواء أكان ذلك نقل البضائع أو الركاب، وكان ذلك الرجل معروفًا بأنه الصعيدي من أهل حائل.
وعرف لما ذكرته من تردده بسيارته بين بريدة وحائل وبين بريدة والرياض.
ولكن القصيمي ترك التسمي بالصعيدي، وتسمى بالقصيمي فما السبب؟
السبب واضح رواه لنا صديقنا الثقة أحمد بن علي المبارك من أهل الأحساء، ولا يزال موجودًا حتى الآن - 1427 هـ - متعه الله بالصحة والعافية، قال:
هناك أمر يجهله كثير من الناس حيث إنَّ هذا الرجل ليس قصيميًا كما يدعي، بل هو صعيدي من أهل مصر، ومن بقايا حملة إبراهيم باشا على نجد عام 1233 هـ كما أن اسم عائلته (عائلة الصعيدي) وما زالت، إنما كيف دخلت عليه كلمة القصيمي؟
كان يدرس على الشيخ عبد العزيز البشر في الأحساء، وكان قبل ذلك درس عليه في الرياض هو وزميله الشيخ عبد الله بن علي بن يابس والشيخ عبد العزيز الراشد، فنصحهم ابن بشر بأن يأتوا إليه في الأحساء عندما نقل إليها عام 1338 هـ، وفي أثناء وجودهم في الأحساء سمعوا أخبارًا بأن هناك مدرسة في الهند اسمها على ما أعتقد الرحمانية وهي طبعًا سلفية، وأنه يصرف عليها بسخاء وأن الطلاب فيها بخير، فتاقت أنفسهم أن يذهبوا إليها جميعًا، وبذلك كلموا الشيخ عبد العزيز البشر عن هذه الرحلة، فقال لهم: إنَّ التغرب في طلب العلم حسن، ولا بأس من سفركم إلى هناك، وكان كل منهم ليس لديه جواز سفر، فكتب الشيخ عبد العزيز البشر للأمير عبد الله بن جلوي (وهذه المعلومة لن تجدوها عند غيري)(1).
وعلى ذلك كتب الأمير عبد الله بن جلوي لإدارة الجوازات بأن يعطوه جواز سفر، وعند حضوره مكتب الجوازات سألوه من أنت؟ فقال أنا عبد الله بن علي القصيمي، وترك الصعيدي لأنه خشي حينما يقول: إنه صعيدي يطلبون منه ما يثبت بأنه سعودي، فيشتبهون به، فتطول المسألة، وقد لا يتحقق له السفر، وذلك بأن يردوا على الأمير عبد الله بن جلوي، والأمير بدوره يكتب للشيخ عبد العزيز بن بشر وتطول المسألة فحسم الأمر ما دام أن أمّه من أهل القصيم، وما دام أنه ولد في القصيم، فإذًا ليس هناك فرق في أنه قصيمي، فهذه طبعًا قصة تسميته القصيمي، أحببت أن أبينها إحقاقًا للحق.
وهذا الذي ذكره الشيخ أحمد المبارك في سبب تلقيبه بالقصيمي واضح، ومقبول عقلًا، والشيخ أحمد المبارك ثقة.
أما ما جزم به من كون القصيمي صعيديًا من أهل مصر، ومن بقايا حملة
(1) من كلام الشيخ أحمد المبارك.
إبراهيم باشا على نجد عام 1233 هـ، فإن ذلك يرد عليه أنه إذا كان من بقايا حملة إبراهيم باشا فإن ذلك سيكون معروفًا للأسرة إضافة إلى كونه يحتاج إلى دليل، هذا من جهة، ومن جهة أخرى فإن حملة إبراهيم على نجد قد مضت عليها حتى كتابة هذه السطور أقل قليلًا من مائتي سنة، فإذا كانت هذه الأسرة قد تخلف أولها من الحملة وتزوج في نجد فإنه صار من أهل نجد، بحكم الوطن والنشأة، وعبد الله بن علي القصيمي كذلك فأبوه من أهل حائل وأمه من أسرة معروفة من أهل (خب الحلوة) أحد خبوب مدينة بريدة الغربية.
فهو ولد في القصيم من أم قصيمية صميمة، ونشأ في القصيم فلم لا يكون قصيميًا؟ .
أما لماذا غير اسمه من الصعيدي إلى القصيمي فإن الأمر كما مر ذكره.
وقد يوثق ما ذكره الأستاذ أحمد المبارك عنه صلته القوية بالأستاذ عبد الله بن علي القصيمي إلى درجة أن القصيمي أطلعه على برقية واردة إليه من الملك عبد العزيز آل سعود.
قال الشيخ أحمد المبارك: كنت في السفارة السعودية حينما ورد خطاب الملك عبد العزيز لعبد الله الصعيدي وسُلِّمَ له، فسألته بيني وبينه ما هو هذا الكتاب الذي جاء إليك؟ فقال: يا شيخ هذا كتاب من الملك عبد العزيز، فقلت أرني هذا الخطاب، فقراته فإذا هو (من عبد العزيز بن عبد الرحمن آل فيصل) إلى عبد الله بن علي الصعيدي، بعد: بلغنا أنكم ألَّفتم كتابًا مخالفًا للشرع، ونحن نأمل العودة إلى الحق، ثم أخذ مني الكتاب فوضعه في جيبه، ثم بعد ذلك ألَّف كتبًا أخرى زاد فيها عتوًا ونفورًا نعوذ بالله من ذلك.
ومن الطريف إذا كان في الأمر طرافة أن زميله وصديقه الشيخ عبد الله بن يابس الذي كان قاسمة السكن في غرفة واحدة لسنوات طويلة في مصر قد ذكر
فيما نقله ابنه - أي ابن الشيخ عبد الله بن يابس - أن القصيمي ليس قصيميًا، بل صعيدي، وكان يسميه بالصعيدي.
ولكن عندما رد عليه الشيخ عبد الله بن يابس بكتاب جعل عنوان كتابه: (الرد القويم على ملحد القصيم) فأكد أنه قصيمي وأكد أنه هو (ملحد القصيم) وربما يكون هذا أبلغ من وصفه بالقصيمي.
ولجهل بعض الناس بسب تغير اسمه من (الصعيدي) إلى (القصيمي) رأينا بعضهم يذهب في التعليل يمينًا وبعضهم يذهب يسارًا.
وقد نقلت نشرة (إيلاف) شيئًا من ذلك، فقالت:
يرى الأستاذ عبد الرحمن البطحي أن هناك سببًا وراء التسمية بالقصيمي، وهو أن القصيمي عندما التحق بالأزهر، كان الأزهر موزعًا إلى أروقة يختص كل رواق بناحية من نواحي العالم الإسلامي، فهناك الرواق العراقي ورواق المغاربة والرواق الشامي والحجازي وغيرها، وحيث لا يوجد آنذاك ما يسمى بالرواق النجدي، فقد سألت اللجنة الموكلة بتوزيع الطلبة على الأروقة عبد الله القصيمي عن منطقته التي جاء منها، فقال: أنا من نجد! ! فقررت اللجنة أن تضمه إلى رواق العراق لقربه جغرافيًا من منطقة نجد، فانضم إلى العراقيين في رواقهم، فوجده العراقيون مختلفًا عنهم فسألوه عن منطقته التي جاء منها، فأجابهم بأنه من القصيم بنجد! ! فسماه العراقيون بالقصيمي فذهبت علمًا عليه داخل الأزهر، فاتخذها الشيخ عبد الله رمزًا أدبيًا بعد ذلك ثم أصبحت اسمًا له ولأولاده من بعده.
ثم نقلت عن ابن الأستاذ القصيمي وهو الدكتور فيصل بن عبد الله القصيمي رأيًا يدل على أنه لم يسمع بما قدمناه سابقًا، فقالت:
يرى الدكتور فيصل القصيمي أنه من المحتمل أن التسمية بالقصيمي قد
جاءت من العراقيين عندما كان والده يدرس في العراق، فاتخذها والده رمزًا أدبيًا بعد ذلك ثم اسمًا إلى اليوم والغد.
أمّه:
أمُّ الأستاذ عبد الله القصيمي من أسرة اسمها (الرميح) على لفظ تصغير الرمح، من أهل خب الحلوة، وليست لهم علاقة نسب بالرميح أهل بريدة.
واسمها موضي بنت عبد العزيز الرميح.
وأسرتها الرميح متفرعة من أسرة الذياب أهل البصر، كان جدهم سمي (رميح) فأصبح أولاده يسمون الرميح وتركوا اسم (الذياب) في أسرتهم.
وهم أسرة معروفة في خب الحلوة.
وقد طلقها والد الأستاذ القصيمي وهو علي الصعيدي وعمر ابنها عبد الله أربع سنين، حيث كان الأب فارق القصيم منتقلًا منه إلى الشارقة على الخليج العربي.
فتزوجت من بعده برجل من أسرة الحصيني أهل الشقة السفلى الذين منهم سند الحصيني أمير الشقة - وتقدم ذكرهم في حرف الحاء.
وقد رزقت بأبناء منه منهم صديقنا عبد الكريم
…
الحصيني.
وقد رأيت بحثًا مهما لنشرة (إيلاف) عن أصل أسرة القصيمي فرأيت تلخيصة هنا، لأنه أفضل ما رأيته كتبه الكاتبون البعيدون عن أسرته.
وعنوانه: (أصول أسرة القصيمي):
من المسلم به أن القصيمي ينتمي إلى أسرة (الصعيدي) وهي أسرة ضاربة بعمق في نجد ومنتشرة بين منطقتي حائل والقصيم، ولكن من أين جاءت التسمية بالصعيدي؟
في الوقت الذي يرى فيه الأستاذ عبد الرحمن البطحي (مؤرخ مقيم في
عنيزة بالقصيم)، أن أحد أجداد الأسرة كان يعمل بالعقيلات بين مصر ونجد قبل قرون، فنسب إلى المنطقة التي كان يذهب إليها متاجرًا، وهذه عادة منتشرة في العديد من المدن النجدية، ويؤيده في ذلك الأستاذ الباحث يعقوب الرشيد والمؤرخ إبراهيم المسلم، إلا أن الدكتور فيصل القصيمي يروي لـ (إيلاف) روايتين حول سبب التسمية بالقصيمي، فإضافة إلى الرواية الأولى يطرح رأيا آخر وهو أنه ربما يكون جد الأسرة بالفعل قد قدم من الصعيد المصري، واستقر في نجد، إلا أنه يذكر أن أسرة الصعيدي في حائل وبريدة يلتقون في جد جامع لهم، إلا أن الأستاذ إبراهيم عبد الرحمن (محامي مصري وصديق مقرب جدًّا من القصيمي) ينكر الرواية الأخيرة، ويذكر أن أول من قال بها هو صلاح الدين المنجد في رده على القصيمي، وكان هدف المنجد كما يذكر المحامي عبد الرحمن هو تبرئة الساحة النجدية من القصيمي! ! ويذكر المحامي عبد الرحمن أن فكرة المنجد قد لاقت قبولًا ورواجًا داخل السعودية، إلا أنه يستطرد قائلًا: إن الشيخ حمد الجاسر قد بحث المسألة وتوصل إلى نتيجة وهي أن أصول القصيمي من نجد وأن أحد أجداده قد سافر إلى مصر وعاد مرة ثانية إلى نجد فعرف بلقب الصعيدي! .
وردًّا على سؤال (إيلاف) للمحامي عبد الرحمن الذي صحب القصيمي مدة خمسين عامًا من أن القصيمي لابد وأن يكون قد تحدث معه في هذه المسألة خلال هذه المدة الزمنية الطويلة، قال: أبدًا لم يحدث أن تحدث معي الشيخ عبد الله في هذه المسألة ولا غيرها، لأنه كان يرفض دائمًا الحديث عن كل مسائله الشخصية! !
(إيلاف) رغم اعتزازها بصعيد مصر كجزء من أرض العروبة والإسلام، إلا أنها لا ترى أن مجرد النسبة إلى هذا الإقليم أو ذاك سببًا قاطعًا في أن يكون هذا الشخص من تلك المنطقة أو ذاك الإقليم، والدليل أن هناك العديد من الأسر النجدية منسوبة إلى إقليم خارج الجزيرة العربية، فهناك العماني والتركي والشامي والهندي
والرومي والمصري واليماني وغيرها كثير، وفي الوقت الذي لا يرى الدكتور فيصل القصيمي أية إشكالية في أن يكون جد الأسرة قد قدم بالفعل من صعيد مصر، فالأمر سيان لديه، إلا أن إيلاف ترى وجوب حشد الأدلة القاطعة، لأن مجرد الانتساب وحده لا يكفي ليكون دليلًا قاطعًا.
نشأ القصيمي فيما بين (خب الحلوة) و (الشقة) في ظروف سيئة للغاية، فإضافة إلى فقده لحنان والديه، فقد كانت الأحوال المعيشية سيئة جدًّا، الأمر الذي دعاه أن يغادر قريته إلى الأبد! وهو في سن العاشرة من عمره، وفي الوقت الذي يرى فيه البعض أن قرار المغادرة قد اتخذه الفتى بنفسه هروبًا من تلك الأوضاع الصعبة يرى الدكتور فيصل القصيمي أن أخوال الشيخ عبد الله هم الذين دفعوه إلى الهجرة بحثًا عن الرزق، وأصروا على مغادرته أمام إصرار والدته، وكانت حجتهم أن يبحث عن أبيه ليطعمه ويكسوه بعد أن ضاقت بهم السبل في تلك الظروف المعيشية السيئة!
ركب الفتى عبد الله القصيمي المخاطر مع أول قافلة اتجهت إلى الرياض بعد اتخاذه للقرار الخطير، الذي قاده إلى رحلة طويلة تنقل فيها بين العديد من الأقطار العربية، فما بين مولده في (خب الحلوة) إلى مدفنه في مقابر باب الوزير بالقاهرة رحلة من البحث الطويل المعيشي بداية ثم الفكري، الذي أصبح واحدًا من أبرز فاعليه على مستوى الوطن العربي.
في الرياض حيث درس القصيمي على الشيخ سعد بن عتيق، تعرف إلى وفد من الشارقة جاء لزيارة الرياض، وكانت المصادفة أن رئيس الوفد صديق لوالده ويعرفه تمام المعرفة، فلاحت في أفقه بوادر أمل في لقاء أبيه، وهذا ما تم على ساحل خليج عمان، إلا أن الدهشة أصابت الفتى الذي كان يتطلع ليس إلى مقابلة والده فحسب، بل إلى ذلك الحنان الذي حُرم منه عشر سنوات، كانت
المفاجأة أن والده الذي كان يعمل تاجرًا في اللؤلؤ ومتشددًا في تفسيره لكثير من تعاليم الدين الإسلامي قد قابله بشيء من الجفوة والقسوة وفرض عليه أسلوبًا في التربية غاية في القسوة.
هذا اللقاء الجاف لابد وأن يكون له تأثيره اللاحق على حياة القصيمي، يقول القصيمي واصفًا ذلك اللقاء في إحدى رسائله التي بعث بها إلى الأستاذ أحمد السباعي:(كانت صدمة قاسية لأكثر وأبعد من حساب، لقد وجدت والدي متدينًا متعصبًا بلا حدود، لقد حوله الدين والتدين إلى فظاظة، أو حول هو الدين والتدين إلى فظاظة، لقد جاء فظًا بالتفاسير والأسباب التي جاء بها الدين حاول أن يبدو كذلك ولا يراه رجل دين وداعية صادقًا إلا بقدر ما يجد فيه من العبوس والفظاظة).
التحق القصيمي في مدرسة الشيخ علي المحمود، ثم توفي والده عام 1322 هـ فتحرر من تلك القيود التي كبل بها وانطلق يواصل تعليمه، فأعجب به التاجر عبد العزيز الراشد الذي أخذه معه إلى العراق والهند وسوريا.
تعلم القصيمي بداية في مدرسة الشيخ أمين الشنقيطي في الزبير، ويذكر الأستاذ يعقوب الرشيد أنه التحق بالمدرسة الرحمانية بالزبير، ثم انتقل إلى الهند ومكث بها عامين تعلم في إحدى المدارس هناك اللغة العربية والأحاديث النبوية وأسس الشريعة الإسلامية، ثم عاد إلى العراق والتحق بالمدرسة الكاظمية ثم انصرف عنها إلى دمشق ثم إلى القاهرة التي شهدت الميلاد الحقيقي للقصيمي.
وقالت إيلاف:
صادف يوم التاسع من كانون الثاني / يناير لعام 2002 م، الذكرى الخامسة لرحيل المفكر السعودي الثائر عبد الله بن علي القصيمي، الذي يُصنف على أنه حامل لواء الليبراليين العرب، وقائدهم في معركة حامية الوطيس، كان طرفها
الأول، وقد جاوزت بسنواتها وهو يخوضها حرب البسوس، فما وهن ولا استكان، بل واصل الطريق بين آكام من الردود، تلقاها بداية من علماء الأزهر الذين علموه ودرسوه، فتمرد عليهم، وكشف العوار لديهم، ثم جاءته الصفعة من النجف الأشرف، فتلقاها كالبلسم، وكان قد أوجعهم ضربًا، ثم كانت ثالثة الأثافي عندما تلقاها من السلفيين، وهو الذي ولد من رحمهم، ونشأ في معقل من معاقل التعليم الديني المتشدد لديهم، وهو ابنهم الذي أفرحهم، فتوجوه ورجوه لمستقبل الأيام ذخرًا، وفاخروا به الأمم، إلا أنه سرعان ما نكص عليهم، فهجوه ورموه بالسباب والسهام، التي تكسرت على جسده الضئيل النحيل، وما أصابت عقله التأملي الخارق، بل عاش مكابرًا لا يقول إلا ما يعتقده، حتى وإن خالف الجميع.
عاش شموخ المفكر وكبرياء المتأمل الناقد، فكان نقطة انعطاف وعلامة بارزة في فكرنا العربي الحديث، تناول عطاءه الفكري، إن سلبًا أو إيجابًا، مدحًا أو قدحًا، علماء ومفكرون ومثقفون، يُشار إليهم بالبنان، على خارطة الفكر العربي الحديث، فكان القصيمي وكانت حصيلة الرحلة الطويلة، التي لا تزال هناك الكثير من الأسرار تلفها، ولربما حفظها معه فواراها الثرى.
(إيلاف) تابعت مسار الرحلة بدءًا من مسقط الرأس وسقط اللوى، حيث (خب الحلوة) الغافي في أحضان الرمال غربي مدينة بريدة في نجد بالسعودية، وانتهاءً بزيارة مشفاه الأخير الكائن في مصر الجديدة بقاهرة المعز، ووقوفًا عند (جامع رابعة العدوية) حيث شيعت الجنازة، وحيث ووريت في مقابر باب الوزير في مصر.
مرورًا بالعديد من أصدقائه ومعارفه وبعض من أولئك الذين سنحت لهم الفرصة للجلوس معه والتحدث إليه ومناقشته، عندما كان في القاهرة أو لبنان، كما حاورت (إيلاف) أبناءه وممرضته التي أشرفت على علاجه قبل رحيله، فكان هذا الملف الذي تقدمه (إيلاف) في ذكرى رحيله الخامسة، لتذكر العالم
العربي وقد نقدهم وأوجعهم، نقد المحب الوامق، بذلك المفكر الذي وصمهم ذات مرة بأنهم (ظاهرة صوتية) لكنهم خيبوا ظنه، إذ خفت صوتهم فلم يرثوه ولم يقفوا على مسار رحلته فيتتبعوها! !
المولد والنشأة:
ولد الشيخ عبد الله القصيمي في عام 1907 م، تقريبًا في (خب الحلوة) الواقع إلى الغرب من مدينة بريدة النجدية في المملكة العربية السعودية.
جاء مولد عبد الله القصيمي في (خب الحلوة) ليمثل نقطة انعطاف مهمة في تاريخ تلك القرية التي كانت مجهولة حتى من أبناء المدن المجاورة، لذلك نقل ميلاد القصيمي تلك القرية لتحتل مكانة بارزة في كثير من الحوارات الفكرية التي أشعلها القصيمي على امتداد وطننا العربي، كما أنها حظيت بزيارات عدد من المثقفين والمفكرين الذين وقفوا على أطلالها، وكان لـ (ايلاف) أن تقوم بجولة داخل خب الحلوة وتقف على أطلاله المتهدمة التي لا شك أن القصيمي قد خرج من معطفها، كما وقفت إيلاف تحت ظلال تلك النخيل الباسقات التي تكاد تغطي تلك القرية، والتقطت كاميرا (إيلاف) صورًا لتلك القرية.
ويرتبط الشيخ عبد الله القصيمي بروابط أسرية مع عدد من الأسر النجدية كأسرة المزيني والمسلم والحصيني والجميعة.
انتهى كلام (إيلاف) وقد حذفنا بعضه مثل وصفه (خب الحلوة) بأنه القرية الغافية لقرون، وهو خب معروف النشأة أنشأته أسرة (الحلوة) أبناء عم المشيقح، فنسب إليها.
وأقول: تتلخص قصة نشأة القصيمي بأنه كان ذا ذهن متطلع، وعقل بحاثٍ، منقب عن الأمور، لذلك سافر إلى أحد أقطار الخليج ليبحث عن والده وليقرأ على شيخ هناك كان الطلبة يذهبون إليه، ولكنه لم يطل المكث عنده ربما لكونه لم يجد
عنده ما يريد أن يعرفه عن بعض الأمور، وإن لم يقل ذلك في حينه.
فذهب إلى الهند حيث كان طلبة العلم في مدارسها يجدون فيها المأوى والطعام الذي يمكنهم من التفرغ لطلب العلم من غير أن يحتاجوا إلى السعي في طلبه.
وبقي في الهند فترة يتعلم، ولكنه أيضًا لم يجد في الهند ما كان يتطلع إلى معرفته فسافر إلى مصر والتحق بطلاب الأزهر، ووجد بعض طلبة العلم الذين كانوا جاءوا إلى الأزهر قبله، فصاروا أصدقاءه.
إن نشأته في (خب الحلوة) وسفره إلى طلب العلم حتى استقر به المقام في القاهرة لم يدرس ولم يوضح وإنما الذي شغل الناس وأقام الدنيا وأقعدها هو فكره وحالته العقلية منذ أن بدأ بالتأليف إلى أن أصدر كتابه (هذه هي الأغلال) ثم ما بعد ذلك إلى وفاته، مما جعله بحق أشهر شخصية فكرية سعودية معاصرة، كتبت عنها المقالات وألِفت فيها الكتب ما بين رد وتقريظ.
عندما كنا طلبة صغارًا بدأنا نقرأ الكتب الحديثة وصلت إلينا كتب عبد الله بن علي القصيمي التي كتبها في مصر وطبعها في مصر، وكلها تدافع عن العقيدة السلفية بقلم سَّيَّال، وفكر نيِّر جرئ فأحببناها وأحببنا مؤلفها، وكان المشايخ من كبار السن يعجبون بها ولكنهم كانوا أقل إعجابًا منا، والسبب في ذلك أنهم لم يكونوا تعودوا على الأسلوب العصري السلس في تأليف الكتب.
قرأنا من كتبه التي أعجبتنا بنوع خاص (البروق النجدية في كشف الظلمات الدجوية) رد على الشيخ الدجوي شيخ الأزهر الذي تهجم على السلفيين الذين أسماهم الوهابيين.
وقد رد عليه هذا الرجل الغريب عن مصر الذي كان من الطلبة الغرباء الذين يدرسون في مصر، ويتسلمون جراية من الأزهر، والجراية: مقرر شهري من الطعام والنقود أو من أحدهما.
وبعده كتاب (الصراع بين الإسلام والوثنية) رد فيه على رافضي هاجم الوهابيين وانتصر للمذهب الشيعي، ويومذاك كان العداء بين أهل السنة من السلفيين وبين الشيعيين ظاهرة واضحة، لا يحاول أحد أن يخفيها، أو حتى يخفف منها.
وقد شبه بعض طلبة العلم كتاب القصيمي هذا بكتاب (منهاج السنة النبوية في الرد على الجهمية والقدرية) لشيخ الإسلام ابن تيمية الذي رد فيه على ابن المطهر الحلي الشيعي.
ولم يزر القصيمي مسقط رأسه في القصيم، بل ولا حتى الرياض في ذلك الوقت، لذلك كان الناس يحبونه ويعجبون به على البعد.
وقد خصصت له السفارة السعودية راتبًا منها كبيرًا في ذلك الوقت لكي يتمكن من مواصلة ما بدأه من إيضاح المذهب السلفي والانتصار للسنة المحمدية.
هذه هي الأغلال:
وما زال الأمر عندنا بالنسبة للقصيمي كما ذكر حتى صدر كتابه الذي عنون: (هذه هي الأغلال) الذي اعتبر أكثر العلماء في نجد وكثير من أهل مصر وبخاصة زملاءه القدماء في طلب العلم في مصر كالشيخ عبد العزيز بن راشد والشيخ عبد الله بن علي بن يابس، وقد أكد ذلك الفهم منه بأنه يرى أن التمسك بالشرع وما يقتضيه الدين الحنيف هو أغلال تمنع الأمة من التقدم والتطور، والرقي في مصاف الدول الأخرى المتقدمة في الإدارة في أوروبا وأمريكا وقد انتدب للرد عليه زميلاه المذكوران فألف كل واحد منهما كتابًا في الرد عليه وطبعه، وقد عرفت زميليه وأهمهما عندي هو الشيخ عبد الله بن علي بن يابس من أهل القويعية الذي صار يحدثنا عن الانقلاب الفكري الذي حدث للقصيمي.
وصار ابن يابس يتحدث عن فلتات لسان القصيمي وزلاته مما يدل على
أن ذلك كان قديمًا عنده، ولكنه كان يتكتم عليه، ومن ذلك ما قال لي:
قال: كنا طلبة علم نقرأ أنا والقصيمي نعيش على ما يصل إلينا من مخصص شهري، أو قال الذي يصرف كل شهرين أو ثلاثة شهور، وكان لا يكاد يقيم الأود، قال: ومرة كنا نأكل طعمية، فقال: يا عبد الله، ما هم يقولون، إن الله أرحم بعباده من الوالدة بولدها؟ فقلت: بل هذا حديث، فقال: كيف يكون عند الله فراخ وحمام وكباب ولا يعطينا إلا الفول والطعمية التي عورت بطوننا؟ أرأيت والدة يكون عندها طعام جيد وتعطي ولدها طعامًا رديئًا؟
قال ابن يابس: فقلت له بحسن نية: ربما كان ذلك لكوننا لا نستحق الطعام الجيد ولكون ربنا سبحانه وتعالى يعلم أننا لا نستحق إلَّا هذا الطعام الذي هو الطعمية والفول!
وقد رد عليه غيرهما من مشايخ أهل نجد، كالقاضي الشيخ إبراهيم السويح، وبذلك صار سب القصيمي والاستعاذة بالله من زيغه، وحالته التي وصل إليها هو الطابع بديلًا من الإعجاب والمدح الذي كان يضفيه عليه المشايخ.
مع أن كتبه الجيدة كانت ولا تزال موجودة متداولة ولكن كتابه (هذه هي الأغلال) محا ذلك كله.
وقد قراه بعض المشايخ مثل شيخنا الشيخ عبد الله بن محمد بن حميد الذي وصلت إليه نسخة من بعض الأشخاص بصفة سرية وإلا فإن الكتاب ممنوع من الدخول إلى المملكة.
وقد قرأت على شيخنا ابن حميد أوراقًا منه فكان منها ما يعرفه طالب العلم ومنها ما ينكره، ومنها ما يجد تأويلًا عند من يحسن الظن به، ولكن طلبة العلم صاروا يستعيذون بالله من حالة الزيغ عن الدين التي ارتكس فيها، يقول ذلك حتى الذين لم يطلعوا على كتابه، ولا قرءاوا شيئًا غير مناسب منه، وإنما ذلك من باب التقليد لغيرهم.