الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
اللاهدفية:
وما يؤخذ على القصيمي في كثير من مناقشاته في المجالس الخاصة أنه لا يرمي إلَّا إلى إثارة القلق، ومع أن إثارة القلق مطلب محبب لإحياء القوى الراكدة وتنبيه العقول الجامدة، إلَّا أنه إذا كان حركة بلا هدف كان ضئيل الجدوى إن لم يكن عقيمها.
وهذه اللاهدفية تتبين لنا حين يبسط القصيمي رأيه في العمل وعلاقته بالسعادة، فالناس - كما يرى - يحطمون سعادتهم التي بلغوها بالعمل، إن لم يجدوا ما يعملون، لأنه قد ركب في فطرتهم أن يعملوا من أجل العمل وحسب "إن الذكورة تلتقي بالأنوثة كما يلتقي النهر العاشق بالحقول المنبسطة، والناس من أجل هذا لا يعملون ليحققوا السعادة التي لا يتخيلون وإنما يعملون من أجل العمل، ولو أنهم بلغوا السعادة ولم يجدوا ما يعملون لراحوا يدمرون سعادتهم ليعودوا مرة أخرى يعملون لتحصيلها، فالسعادة ليست محصولًا بل فكرة تتحول إلى محاولة، السعادة هي العمل للسعادة حيثما تكون مفقودة والعمل ضدها لو كانت موجودة
…
".
إن القصيمي بهذا ينكر أنبل ما في الإنسانية، وهو الهدفية (1).
أسلوبه التعبيري:
واصل الأستاذ عبد الله عبد الجبار كلامه عن القصيمي فذكر كلامًا تركناه، لأننا لا نرى ضرورة لنقله، ثم قال:
أما أسلوبه في هذه المرحلة، فقد بلغ أعلا ذروة وصل إليها فن هندسة الكلام على الأنماط العربية الرصينة التي تؤدي بدقة ووضوح وجمال.
وإذا كانت شخصية القصيمي الفكرية والفنية قد بدت بوضوح في كتابه
(1) التيارات الأدبية الحديثة، ص 46.
(هذي هي الأغلال) فإنها في هذه المرحلة الثالثة أكثر تميزًا ووضوحًا، والذين قرءوا كثيرًا للقصيمي في هذا الطور، وعرفوا طريقته في التعبير والتصوير، خليقون أن يميزوا آثاره الكتابية من آثار غيره حتى ولو لم يذيلها بتوقيعه.
ثم قال الأستاذ عبد الله عبد الجبار:
لقد أصبحت القصيمي شخصيته الفنية في الكتابة لها طابعها الفريد، والنصوص التي عرضناها له خلال دراستنا لأفكاره في طور الانفجار تكشف عن ملامح هذا الطابع.
وأولى مميزات هذه الشخصية هي (الكمالوفية) من الأفكار، وهذه الميزة استتبعت ميزة أخرى هي:(اللامالوف) من التعبيرات، مثل قوله: ليس الحكام المتسلطون إلَّا قومًا من القناصة، تهاوت نبالهم السعيدة على قطعان الخنازير الذليلة! ، وقوله:"إن شر الحكام هو المستبد المصلح، فإصلاح المستبد ليس إلَّا عملية تسويغ للاستبداد، فهو كوضع الموت في (برشامة) " وقوله: "هل رأيت من يعطي الخنجر لقاتله، ومن يحني هامته لكي يتسلق عليها اللص إلى منزله؟ ! لقد رأينا كلنا ذلك، فالشعب الذي يقيم فوقه حاكما طاغية هو ذلك القتيل الذي يعطي قاتله الخنجر، ويطأطئ هامته كي يتسلق من فوقها اللص! ! والقاتل الذي هو الحاكم - لا حول له لولا المقتول - الذي هو الشعب -! ! ".
ومن هذه المميزات أيضًا: اختياره للعناوين الغريبة لمقالاته مثل: (مقتبسات من الجيل لم تعرفه المجامع)، و (مصارعة الثيران في السياسة الدولية)، و (أفكار ضد التفكير)(1).
وأسلوبه الفني يمتاز بقوة التأثير، وإذا كان الدكتور طه حسين يرى أن خير الأدب هو ما يثير في النفس الخواطر، فإن أدب القصيمي لا يثير الخواطر
فحسب، وإنما يزلزل الأفكار والنفوس، ويجعل قارئه إما معه في أقصى اليسار، وإما ضده في أقصى اليمين، ولا وسط إلَّا نادرًا.
وبين حين وآخر تصافح أعين القراء صورة فنية رسمتها ريشته المبدعة بدقة وعناية وقصد فيها إلى الجمال الفني قصدا، ومن هذه الصور قوله:
"كان الإنسان خاما إنسانيا يضارب في مناجم التاريخ لا يعرف نفسه ولا يعرفه أحد، فمن هو المارد العظيم الذي جعله يتسلق الفراغ الرهيب ليملأه بوجوده الكبير الحديث؟ " - من مقال (طاقة الحياة أم إرادة البقاء).
وقوله: "إن الذكورة تلتقي بالأنوثة كما يلتقي النهر العاشق - بالحقول المنبسطة
…
" من المقال نفسه.
وقوله: "إن علينا أن نطلق مارد الفكر ليلتحم بملاك الاعتقاد، ومن التحامهما ستبرز الحقيقة الكبيرة التي لا تزال تبحث عنا، بينما نحن نبحث عن غيرها .. " من مقال (اقتباسات من الجيل لم تعرفه المجامع! ).
وقوله: "
…
جميع الناس يحترقون ليكونوا شيئًا، والذي لا يحترق ليكون لهبًا وضوءا، فسيحترق ليكون دخانا
…
" من مقال: (عذاب الصمت - عدد 185)((1).
ويطيب للقصيمي أحيانًا أن يبلور أفكاره في كلمات قصار تشبه أن تكون حكمًا وأمثالًا خالدة يبثها خلال مقالاته، أو يذيلها بها، وتطالعنا منها لوحات فكرية حية، منها هذه الروائع:
- الحرية الموهوبة كالحرية المسلوبة كلتاهما عبودية .. !
- الحرية المطلقة للحاكم عبودية مطلقة للشعب .. !
(1) الآداب، العدد 12 ديسمبر سنة 1959 م.
- إن خير الشعوب هم الذين يحكمون حكامهم، وخير الحكام هم الذين تحكمهم شعوبهم.
- إن أسوأ انتصار في هذه الدنيا هو انتصار حاكم على شعبه، وإن أنبل انتصار هو انتصار شعب على حكامه.
الناس شعوب لها حكومات، أما العرب فحكومات لها شعوب.
- لا يأكل على موائد الطغاة إلا صغار الحشرات.
- العدل والحق: كلمتان يتحدث عنهما الأقوياء، ويطالب بهما الضعفاء، ويجدهما الأغنياء.
- إن الظالم يضرب بيد المظلوم لا بيده هو.
- الحركة القوية أجدى من الفكرة الصحيحة.
- العاجزون هم الذين يبحثون عن الفكرة الصائبة خوفًا من الوقوع في الخطأ المقدام!
- أعمال القادة تتحول إلى تفكير ولكن أفكار المفكرين لا تتحول إلى قادة!
- الجماهير قوة ضاربة، لا قوة داعية.
- القائد الموهوب هو الذي يجيد أن يفعل لا الذي يجيد أن يفكر، والتفكير الرحب العميق يبدد الإرادة ويخيفها.
- العقيدة التي تعيش في معركة أقوى من التي تعيش في سلام.
- إن الأفكار الصحيحة تقوى وتنتشر كلما هوجمت وخوصمت.
ولا يكفي في تقدير هذه اللوحات الفكرية البليغة أن نقول: "إنه جمع بين الضدين في حكم واحد في اللوحة الأولى، ورتب قضية سلبية على قضية إيجابية في الثانية، واستعان بالمطابقة والمقابلة في الثالثة، أو ما أروع هذا التشبيه أو الاستعارة أو الكناية في هذه أو تلك كما تفعل الدراسات البلاغية القديمة، فهذه الملاحظات الشكلية ربما كان لها أثر في جمال هذه اللوحات، ولكنه أثر ضئيل لا