الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
يعيشوا متساوين إذا كان التطور هو الذي يصنعهم، أما إذا كانوا يصنعون بالطاقة فكيف يتساوون ما لم تتساو طاقاتهم؟ ؟ (1).
العرب بين الطاقة والظروف:
في كتابه "هذه هي الأغلال" يبحث القصيمي سر التفاوت بين الشعوب الإسلامية المتأخرة بما فيها الأمة العربية وبين الأجناس والأمم الأخرى المتقدمة، وينتهي إلى أن "المسألة لها احتمالان أو فرضان من حيث النظر العام: أحدهما أن يقال: إن هذا التفاوت طبيعي في أصل التكوين وجبلة الفريقين، وثانيهما أن يقال: إنه تفاوت عارض له أسباب عارضة من الممكن علاجه ومن الممكن الشفاء منه.
أما الفرض الأول فليس من الممكن القول به ولا المصير إليه، وذلك أن تطور العقل البشري في جميع مراحله ومراحل وجوده، وأن تعاقب الأمم والشعوب علي عرش الحضارة وتداولها الآخذ بيد المدنية، وأن اختلاط العناصر وتمازجها، وأن ما ثبت ثبوتًا لا ينهض لهدمه شيء من استعداد كل إنسان - حسب ما يصادفه في طريقه وحياته - لأن يكون إنسانًا راقيًا مهذبًا أو إنسانًا منحطًا فاسدًا - إن ذلك كله - مضافًا إليَّ أشياء أخرى كثيرة لا يبقى لهذا الافتراض فرصة لان يكون مقبولًا قائمًا.
وهناك شيء آخر في هذه المسألة هو أعظم مما ذكرنا وأظهر: ذلك أن علماء التشريح قد أثبتوا أنه لا فرق يذكر بين جمجمة هذا الإنسان السيد الراقي اليوم وبين جماجم هذه الشعوب التي تشكو اليوم من ضعفها وهوانها، لا من ناحية الحجم ولا من ناحية التلافيف والتعقيد والوضع، فهذا الافتراض (الأول) مفروغ إذًا من بطلانه، وإذن فالافتراض الآخر هو الصحيح الواجب المصير إليه، وعليه بنينا بحثنا وكتابنا.
إن المسألة لا تعدو أن تكون تفاوتا بعيدًا في فهم الحياة وفهم سنن الوجود وفهم
(1) الآداب، العدد الثامن، السنة الخامسة، أغسطس سنة 1957 م، ص 18.
مابين الأسباب والمسيبات من ارتباط، وفهم الإنسان نفسه وفهم ما بين الأسباب والمسببات من ارتباط، وفهم صلات الإنسان بالإنسان وصلاته بالوجود، وفهم كل ما يقع تحت الحس والوجدان، وإن الحواجز والعوائق التي وقفت في سبيل المسلمين لا تخرج عن أن تكون عوائق معنوية نفسية اعتقادية حملوها أنفسهم فرهنت ووضعوها في طريقهم فحادوا عن الطريق، وجللوا بها الوجود فلم يفهموه ولم يعرفوا حدوده وأرجاءه وقوانينه، فتاهوا فيه وذهبوا إلى غير مذهب وسلكوا غير سبيل فاعترض طريقهم من عرفوا الطريق وأخذهم بقوة سنن الحياة من علموا سننها" (1).
أما بالنسبة للعرب فقد كان يعتقد في المرحلة السابقة "
…
أن الأمة العربية في عصرها التي عرفت الجاهلية كانت أمة ذات قوي كامنة هائلة كمون كنوزها الطبيعية في أرضها، وكانت عوامل هذا الكمون وأسبابه معروفة أو على الأقل موجودة، فلما زالت هذه العوامل والأسباب برسالة محمد عليه الصلاة والسلام وجاء ما بعث الكامن منها وثبت تلك الوثبة التي حار في تعليلها وفهمها الباحثون
…
" (2).
ولكنه ما لبث أن تحول الإيمان بطاقة العرب وتاريخهم إلى الكفر بهم وبطاقتهم وتاريخهم وإن حاول أن يتنصل في بعض الأحيان من هذا الاتهام، وفي ذلك يقول:
"لم يكن العرب أسوأ الشعوب ظروفًا ولا أحسنها ظروفًا، بل وجد من هم أفضل منهم ومن هم أسوأ في طريقهم، وقد تغلب كل أولئك - أو هم في سبيل التغلب على جميع المعوقات، فلماذا لم يتغلب العرب؟ لماذا ظل العقل العربي حتى اليوم يرفض أن يكون حرًّا - يرفض أن يكون خالقا يخلق نفسه وحياته وأوضاعه؟ ولماذا يريد دائما أن يظل عبدا مأمورا مخلوقا يتلقى ذاته من وراء
(1) هذي هي الأغلال، ص 21 - 22.
(2)
هذي هي الأغلال، ص 7 سنة 1946.
ذاته، ويتلقى الأوامر التي تشعره بأنه مخلوق لا خالق؟ هل النقص في الطاقة أم في الظروف؟ أحب أن أذهب دائما إلى القول بالاحتمال الأخير وإن كنت الآن عاجزًا عن التدليل عليه .. " (1).
هذا كلام القصيمي ورد عليه الأستاذ عبد الله عبد الجبار بإيراد أمثلة تبطله نقلًا عن عقلاء من الإفرنج.
قال: يقول المستشرق دوزي في كتابه (تاريخ المسلمين في أسبانيا): "لقد كان الفتح العربي نعمة بالنسبة لأسبانيا لأنه أدى إلى ثورة اجتماعية مهمة، وأزال قسما كبيرًا من المساوئ التي كانت تئن تحت عبئها منذ عصور طوال، وقد خففوا عبء الضرائب، وانتزعوا من أيدي الأغنياء الأرض التي كان يتقاسمها الإقطاعيون ويزرعها الفلاحون الأقنان، أو العبيد الناقمون، ووزعوها بالتساوي على من كانوا يشتغلون فيها، فعكف الملاك الجدد على استثمار الأرض التي كان يتقاسمها الإقطاعيون، ويزرعها الفلاحون الأقيان، أو العبيد الناقمون بحماسة شديدة واستخرجوا منها محصولا أوفر من قبل.
أما التجارة فقد تحررت من قيود الحدود والمكوس الفادحة التي كانت ترهقها، وتطورت تطورا ملحوظا، وكان القرآن يسمح للعبيد بالتحرر نظير تعويض نصف فبرزت من جراء ذلك قوى اجتماعية جديدة.
وقد أفضت هذه التدابير كلها إلى حالة من الرخاء العام، كانت الحافز الأول للترحاب الذي استقبل به الحكم العربي في عهده الأول".
وإن أمثال هذه الشهادات الناصعة من الغربيين هي التي حملت بعض المنصفين منهم أن يعتبروا معركة (بواتييه) التي انهزم فيها العرب نذير شؤم
(1) الآداب، العدد السابع، السنة الثالثة، يوليو سنة 1955.
على أوروبا والإنسانية عامة، ولقد أضاعت فرنسا فرصة تاريخية للاشتراك في الحضارة العربية التي ازدهرت بعد ذلك بزمن وجيز، أي أنها فقدت فرصة عظيمة لاختصار عهد الفوضى الإقطاعية وتكوين وحدتها القومية.
ويقول أناتول فرانس بظرفه البارع في الحياة المزهرة): "سأل السيد دوبوا - مرة - السيدة نوزبية، ما هو أكثر أيام التاريخ شؤمًا؟ فلم تستطع السيدة نوزبية الإجابة على هذا السؤال، وحينئذ قال السيد دوبوا: إن أكثر أيام التاريخ شؤمًا هو اليوم الذي جرت فيه معركة (بواتييه) في سنة 733 حين تراجع العلم والفن العربيان والحضارة العربية أمام البربرية الفرنجية"(1).
ونجمل القول بشهادة أحد كتاب الفرنجة عن أثر الحضارة العربية في الحضارة الغربية حيث يقول: "إن العلوم والفنون والآداب العربية قد كونت حلقة اتصال بين الحضارات القديمة والحضارات الحديثة والثقافة، وإن الحضارة التي قدمها العرب للأقطار التي فتحوها قد بقيت مدة أطول من سلطان الفاتحين أنفسهم.
ونحن ندين لهم - بطريق مباشر أو غير مباشر - بإحياء العلوم والفلسفة في أوروبا والغرب حيث كانوا أول الموقظين والباعثين لروح النقد والبحث والاستقصاء التي كان لها أثر كبير في إنقاذ أوروبا من سبات جهالة الرهبنة وضلالة التعصب الديني، ويعزى إليهم أخيرًا بطريق غير مباشر معظم تلك الفنون المفيدة والاختراعات العملية التي بلغت حدا من الكمال بجهود الأمم في العصور الحديثة، ومهما اتسعت دولة السيف العربية عن طريق القوة فإنها أضيق مدى واتساعًا، وأقل خلودًا وبقاء من دولة الفكر العربي" (2).
(1) الحضارة العربية: د. روجيه جارودي، ص 8 - 9.
(2)
التيارات الأدبية الحديثة في جزيرة العرب، ص 39 - 40.