الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الفقي، وكذلك بعض الإخوان فنبهوه ظنًّا منهم أن الرجل قريب العودة إليهم، ولكن الرجل لم يكن قريب العودة إليهم، فعمد إلى تأليف كتاب آخر وترك موضوعه الأول، ثم ألّف كتاب (هذه هي الأغلال) فكان أشد وطأة على المسلمين، فأخذ يتكلم بكلام مؤلم، ولكنه لم يتضح اتضاحًا كافيًا بالنسبة لمقاصده، اللهم إلا الفصل الأخير الذي تحت عنوان (المشكلة التي لم تُحل) فهذه هي أخطر ما كتبه.
ثم بعد ذلك بدأ العلماء يردون عليه، منهم الشيخ إبراهيم السويح، والشيخ حامد الفقي، والشيخ عبدالرزاق حمزة الإمام في الحرم المكي الشريف، والشيخ الدكتور محمد الغمراوي الذي رد على الدكتور طه حسين، وخلق كثير.
وكذلك رد عليه الشيخ عبد الرحمن بن سعدي وغيره من العلماء السعوديين، وممن كان يعرفه ويقرأ مؤلفاته القديمة والحديثة، ولكن سبحان الله كان يزداد عتوًا ونفورًا، بعد ذلك تكلم عدد من المشايخ عند الملك عبد العزيز رحمه الله تعالى، فقالوا له إن هذا الرجل كتب كذا وكذا، فقال لهم الملك عبد العزيز أحسن شيء نكتب له ونقول له رد على نفسك، إن كان قريبًا من الخير فالله يزيده وإن كان يعصي الله على بصيرة فإنا لله وإنا إليه راجعون ..... انتهى كلام علي بن يابس (1).
مقابلة القصيمي:
كنت مثل غيري من أهل القصيم، بل من سكان المملكة العربية السعودية أتمنى أن تتاح لي فرصة اللقاء بالقصيمي، وذلك قبل أن يصدر كتابه:(هذه هي الأغلال) لإعجابنا به ولكن أني لنا ذلك.
وقد انتهت رحلة الطلب بالنسبة إليَّ وأصدر القصيمي ما أصدر من مؤلفات
(1) من أعلام الإسلام: عبد الله بن يابس، ص 61 - 62.
بعد الكتاب المذكور، وكلها مما كان العلماء عندنا ينتقدونه ففترت تلك الرغبة.
حتى جاء عام 1389 هـ وسافرت إلى مصر لطباعة كتابي الأول في الأمثال، وعنوانه:(الأمثال العامية في نجد) وقد طبعته في مطبعة الحلبي في مصر لأنه لم تكن لدينا في المملكة مطابع تطبع الكتب بإمكانات جيدة، وإخراج متقن.
وكان الأستاذ حمد الجاسر آنذاك في مصر نازلًا في شقة كان استأجرها في وقت قديم، وكان قال لي: إنه لا مانع لديه من تقديم كتابي الأول، إضافة إلى أنه كانت له معرفة، بل خبرة في طبع الكتب وتصحيحها لم تكن متوفرة عندي في ذلك الوقت.
وهذا كله إلى كون الأستاذ حمد الجاسر كان يعتبر قدوة لنا نحن الباحثين في الأدب والتاريخ.
ذهبت مرة إلى حمد الجاسر في شقته في القاهرة، فوجدت عنده رجلًا ليست عليه سمة أهل مصر من ضخامة في الجسم أو حتى تقاسيم وسمات معروفة عن الإخوة المصريين، فهو يبدو صحيح الجسم، ومع ذلك هو رشيق خفيف الجسم، مع أن علامات حصوله على الكفاية من الغذاء ظاهرة عليه.
قال لي الأستاذ حمد الجاسر - يعرفني به - هذا هو الأستاذ عبد الله بن علي القصيمي، وقال له يعرفه بي: هذا محمد العبودي من القصيم أيضًا جاء هنا ليطبع كتابًا ألفه.
فسألني القصيمي عن عنوان كتابي فقلت هو: (الأمثال العامية في نجد)، فالتفت إلى الأستاذ حمد الجاسر، وقال: هذا تجديد في التأليف، فقال حمد الجاسر، الأستاذ العبودي باحث ومؤلف في أبحاث جديدة.
ثم تطرق الحديث بين الأستاذ حمد الجاسر وبين عبد الله القصيمي إلى أمور عديدة ليس منها أمور علمية أو أمور تتعلق بنشأة القصيمي أو حتى ما أثاره
ضده المشايخ وطلبة العلم، ولم أتدخل إلَّا بكلام قليل منه أن زميله في مصر الأستاذ عبد الله بن يابس قابلني في الرياض وأنه ذكر عنه أشياء ولم أقل له: إنه رد عليك، لأنه يعرف ذلك، فقال القصيمي من دون مبالاة: هو رجل متدين وأنا - على زعمه - غير متدين، والمتدين متعصب وغير المتدين متسامح، لذلك لم أرد عليه ولم أهاجمه مثلما هاجمني.
كنت أشعر وأنا أراه جالسًا أنني قد ارتكبت إثمًا بالجلوس إليه، وذلك من واقع ما كان في ذهني عنه، وعن هجوم المشايخ وطلبة العلم عليه، ورميه بالمروق من الدين، وقد تبخر ما في ذهني عما كتبه من الكتب والبحوث دفاعًا عن العقيدة وانتصارًا للحق بما لم يستطع غيره أن يفعله.
وافترقنا ولم أره بعد ذلك.
أما علاقته بالأستاذ حمد الجاسر فإنها علاقة صداقة وزمالة قديمة عندما كان الأستاذ حمد الجاسر يدرس في مصر، ثم بجامع أن كل واحد منهما كان من طلبة العلم ولكنه مال إلى الثقافة الحديثة وصار من أهلها.
إضافة إلى أن الأستاذ حمد الجاسر لم يكن شديد التدين بحيث يقيس صحبته لشخص بمدى تدينه وإنما كان باحثًا، والقصيمي كان مفكرًا كبيرًا.
وقد استمرت صحبتهما بعد ذلك وانتقلت من مصر أيضًا إلى لبنان عندما كان الأستاذ حمد الجاسر في لبنان، وكان القصيمي سكن فيه مدة منفيًا عن مصر.
قال الأستاذ علي بن يابس في كتابه الذي كتبه في ترجمة والده الشيخ عبد الله بن علي بن يابس:
كذلك حينما ألف عبد الله الصعيدي كتابه الذي سماه (شيوخ الأزهر والزيادة في الإسلام) ثار الخلاف والجدل وكثرت المشاكل بينه وبين شيوخ الأزهر، حيث طلب الأزهر من الحكومة المصرية التي كان يرأسها في ذلك الوقت (صدقي باشا) طرد
هذا الرجل الذي هو عبد الله الصعيدي، فاستدعى رئيس الحكومة المصرية بعض المسئولين في الأزهر قائلًا لهم على أي أساس تريدون أن نطرده، قالوا بسبب قيامه بتأليف هذا الكتاب (شيوخ الأزهر والزيادة في الإسلام) ومثل هذا وجوده خطر علينا وعلى الإسلام، فقال لهم رئيس الوزراء: أنا لا أرى هذا، وأرى أنه حينما تكلم عليكم فيجب أن تردوا عليه، أما أن نلجأ إلى أن نستعمل معه الشدة والقوة لنقوم بطرده، فيمكن غدًا يؤلف كتابًا يسميه كيف طردت من مصر، فيزيد عليكم الأمر وتصبحون في مأزق ليس لديكم ما تردون عليه ولذا فإني أرى عدم طرده.
نفيه إلى لبنان:
بقي عبد الله بن علي القصيمي بعد ذلك في مصر سنوات، حتى سعى عدد من الناس لدى الحكومة المصرية بأن تبعده عن مصر، فأبعد بالفعل إلى لبنان.
وبقي في منفاه سنتين أو نحوهما عاد بعد ذلك إلى مصر، بإذن من الحكومة المصرية التي عدلت عن رأيها في نفيه.
ولم يقلّ نشاطه الثقافي واتصاله بأهل الفكر، بل شغله لأهل الفكر في لبنان عنه في مصر، فألف مقالات عديدة، والتف عليه عدد من المثقفين العرب الموجودين في لبنان، حتى زاد ذلك من شهرته، وضاعف من انتشار سمعته في الأوساط الأدبية الثقافية في العالم العربي.
وقد ذكر الأستاذ عبد الله عبد الجبار ظروف نفيه من مصر إلى لبنان وسبب عودته إلى مصر، فقال:
في سنة 1951 هـ آثر القصيمي السكني بحلوان التماسًا للهدوء، وفرارًا من صخب المدينة الكبيرة (القاهرة)، وهنا اتصل به بعض الطلاب اليمنيين، وأعجبوا بآرائه الجريئة واتخذوه رائدًا فكريًا لهم، حتى إذا كانت سنة 1954 هـ وشي به إلى
الإمام أحمد ملك اليمن واتهموه بإفساد عقائد الشباب اليمني الذين يدرسون بمصر وحثهم على التمرد، وقال الإمام أحمد لصلاح سالم:(إننا لن نتفاوض حتى تعطيني وعدًا أكيدًا بأن يخرج القصيمي من مصر)، واضطرت حكومة الثورة تحت الضغط الشديد وتثبيتًا للتضامن العربي أن تخرجه إلى لبنان وهي كارهة لذلك.
ومكث هناك نحو سنة ونصف يعاني فيها أشد ألوان القلق النفسي لاغترابه وبعده عن أهله وأطفاله، وحاجته وحاجتهم الماسة إلى ما يقيم أود حياتهم، وإن وجد من رجال الفكر الحر بلبنان ومن الصحافة اللبنانية كثيرًا من التشجيع الأدبي، والتأييد المعنوي، ولم يعدم من ذوي الشهامة من يقدم له بعض العون المادي، وفتحت الصحف والمجلات صدرها له ونشر هناك آراءه الخطيرة في الحياة والمجتمع والحاكمين والمحكومين والطغاة ورجال الدين والعقائد والديانات جميعًا.
وخلعوا عليه النعوت والألقاب ما يدل على عظيم تقديرهم له، فهو فيلسوف السعودية، وهو المارد الفكري الجبار، وهو المفكر العملاق الذي يقف فوق قمة العقل كأنه آلهة من آلهة العقل عند الإغريق، بل قالوا عنه:(لو أردنا أن نعد أعظم حدثين، فكري ومادي وقعا للجزيرة العربية في عهدها الحديث لكان هذان الحادثان هما البترول والقصيمي).
وخلال إقامته بلبنان أقام بعض أصدقائه قضية باسمه أمام مجلس الدولة المصرية، وتطوع فيها بعض المحامين مطالبين بإلغاء قرار الإبعاد، وقد حكم مجلس الدولة بإلغاء هذا القرار بعد عدة أشهر.
وقد كان هذا الحكم منتظرًا ولم يكن محتملًا أن يحدث سواه، وقد دل الحكم على شيين: على أن ضمير القضاء المصري سليم، وعلى أن العهد الجديد - عهد الثورة - يحترم استقلاله.
وعاد القصيمي إلى مصر.