الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
الله يعطي من يشاء
…
فقف على حد الأدب
وهذا تعبير بليغ صادق عن الروح الشعبية العامة، ولكنهم يشتركون في هذه العقيدة من كتبوا ذلك على متاجرهم ومصانعهم ومن لم يكتبوه (1).
وقد رد عليه طائفة من العلماء والكتاب أقواله، وبينوا أن الأسباب ليس معناها عدم الحاجة إلى العناية الإلاهية، وهذا ظاهر.
قال الأستاذ عبد الله عبد الجبار:
الديانات وتعويق المجتمعات:
وفي هذا الطور تنوعت مطالعات القصيمي واتسعت حتى شملت دراسة آراء الفلاسفة والمفكرين الغربيين، ومما لا شك فيه أنه قد قرأ دارون ونيتشة، وغوستاف لوبون، وغيرهم وتأثر بآرائهم ونزعاتهم حتى إن الفكرة التي يلح عليها إلحاحا شديدًا في كتابه هذه هي الأغلال - وهي فكرة تعويق الديانات السماوية للحضارات وتقدم المجتمعات - قد اقتبسها من (غوستاف لوبون) وتطوع لشرحها وضرب الأمثال عليها "فالإغريق والرومان والمصريون القدماء وغيرهم من الشعوب القديمة أبدعوا لأنهم كانوا يبالغون جدًّا في حب مظاهر هذه الطبيعة حتى عهدوها وصيروها كل أملهم ورجائهم المنشود.
الإيمان بالآخرة وتعطيل الحياة:
ومن آراء القصيمي في هذه الفترة أن الإيمان بالحياة والآخرة تعطيل لحياة المؤمن بها عن العمل المنتج المثمر، فينصرف عن أمور الدنيا، لأن همه متعلق بالآخرة والاستعداد لقائها "لا خلاف في أن أسمى هذه الآمال وأقواها في الاجتذاب
(1) هذه هي الأغلال، ص 261 - 364.
والتوجيه والسلطان هو ذلك الأمل الضخم الأبدي في تلك الحياة الضخمة الأبدية التي ينال فيها المرء الخلود وكل ما يرجي من حاجات الجسم والنفس بدون أن يكدر ذلك شيء من المكدرات المعروفة التي تشوب لذائذ هذه الحياة الأولى القصيرة، والتي نملؤها بالخوف والاكتئاب فإذا ما استطاع إنسان أن يتمثل هذا الأمل وأن يغني ويتغني به، وأن يصف تصوره والتفكير فيه وفي لذة الظفر به والوصول إليه والحصول عليه، فلا محالة من أن يشغله ذلك عن كل شيء في هذا الوجود، وقد يطغى عليه وعلى وجوده حتى لا يدع منه لهذه الحياة شيئًا، وقد يدع شيئًا قليلًا أو كثيرًا، والاختلاف في هذا راجع إلى الاختلاف في قوة اجتذاب هذا الأمل الأخروي وضعفه.
وقد يغني عن هذه الحياة ويغيب عنها مع أنه فيها، لأنه ليس من أهلها، لا ينافس ولا يغاضب ولا يخاصم ولا يطالب ولا يحارب أو يسالم من أجل شي فيها، ويصير كذلك الرجل الورع الذي صرفه ورعه ودينه عن كل ما هنا حتى قال فيه معاوية بن أبي سفيان - وهو يضع خطوط الطريق لابنه يزيد:"أما فلان فقد أعجزه الورع، فدع له دينه يدع لك دنياك".
فإذا لاحظنا أن المتدينين - أفرادا وشعوبا - عجزوا عن إيجاد الحياة وعن التحليق - بالصناعة أو الزراعة أو التجارة أو العلوم المادية الإنسانية، أو عن شيء ما من وسائل الحياة وأسبابها، فلنعلم أن أحد أسباب هذا العجز هو هذا التصور لهذا الأمل العظيم والانصراف إليه بأكثر العقل وأكثر العمل وأعظم الاهتمام.
ومن المعلوم أن أوروبا يوم أن كانت مؤمنة بالكنيسة متدينة كانت في ذلك الهوان والضعف والعجز الذي نعرفه ونقرؤه، فلما أن مرقت من إيمانها وتنازلت عن ذلك الأمل الأخروي، وجعلت الصناعة والتجارة والحياة الكبيرة القوية هي آلهتها التي وحدتها وأبت الإشراك بها، صعدت بالحياة هذا الصعود الذي أعجز أبصارنا تصوره والنظر إليه، وقد قال أحد الفلاسفة الإنجليز المعاصرين المدرسين اليوم في
إحدى الجامعات البريطانية - وهو ملحد كما هو ظاهر - "إن أوروبا لم تستطع أن تكون أوروبا إلَّا بعد أن اعتقت نفسها من رق الإيمان بالآخرة وبالله"(1).
ولكن خصوم القصيمي أنكروا عليه هذا الاتجاه وأخذوا عليه مدحه أوروبا وروسيا وأمريكا وتمجيده لإلحادهم.
وهذا أحدهم يحمل مقرعة ضخمة وينزل بها على أم رأس القصيمي فيقول في التعليق عليه: "هذا الكلام هجاء وذم للإيمان بالآخرة وذم لأتباع الأنبياء، فهو يذم أوروبا المتدينة المؤمنة بالآخرة، فالإيمان باليوم الآخر هو المغل الذي آخر القوم في نظره أيام أن كانوا متدينين به، ثم هو أيضًا يمدح أوروبا الملحدة التي لا تعترف بإله غير الدنيا والعمل فيها ثم إغراء على نبذ الإيمان بالآخرة وإعتاق للإلحاد، وهذا الملحد قد سبق القوم فإنهم بالرغم من تحللهم ونبذهم دينهم عملًا فلا تزال قلوبهم وألسنهم وتقاليدهم مسيحية نصرانية، أما تلميذهم وتابعهم - القصيمي - فقد سبقهم بمراحل بعيدة.
إن من يذهب إلى أوروبا وأمريكا يرى ذلك ويلمسه، بل ويرى التعصب المجسم ضد الإسلام، بل يرى البغضاء والعصبية بين البروتستانت والكاثوليك والأرثوذكس، وهذا الرجل من جهله بدين سادته الغربيين قد أبعد النجعة وأغرق في المرمى.
ثم تأمل قوله: وتنازلت عن ذلك الأمل الأخروي تلمس فيه عداوة للآخرة وأن التدين بها من الأمور المؤخرة الجالبة للعجز والهوان، ثم ما هذا التقدم الذي تتغنى به عن أوروبا؟ فأخلاقها فاسدة ودينها ضائع ونفوسها سبعية وقوانينها جائرة، ولكن الأعمى لا يبصر الدرك فلابد من سقوطه، ثم قوله: صعدت صعودًا أعجز أبصارنا تنوره فإنه إغراء النبذ الدين واللحاق بالقوم في فسادهم وإلحادهم
…
" (2).
(1) هذه هي الأغلال، ص 318 - 319.
(2)
الرد القويم على ملحد القصيم، ص 244 وما بعدها.