الرئيسية
أقسام المكتبة
المؤلفين
القرآن
البحث 📚
التفسير والبيان:
{وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا: لَوْلا نُزِّلَتْ سُورَةٌ، فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ، رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، فَأَوْلى لَهُمْ} أي يتمنى المؤمنون المخلصون شرعية الجهاد، فيسألون ربهم عز وجل قائلين: هلا أنزلت سورة يأمرنا فيها ربنا بقتال الكفار، حرصا على ثواب الجهاد، ونيل درجات المجاهدين، فإذا أنزلت سورة بيّنة واضحة في الأمر به، وذكر فيها أن الجهاد فرض على المسلمين، فرحوا بها، وشق على المنافقين، ورأيت الذين في قلوبهم شك ومرض ونفاق وهم المنافقون، ينظرون إليك نظر المحتضر الذي شخص بصره عند الموت، جبنا عن القتال، وخوفا من لقاء الكفار، فالويل والموت والهلاك أولى لهم أي قاربهم ما يهلكهم، واللام في «لهم» مزيدة، أو فالأولى والأجدر بهم أن يسمعوا ويطيعوا في الحالة الراهنة، أو العقاب أحق وأولى بهم.
وهذا على المعنى الأول تهديد لهم ووعيد بقرب هلاكهم، وقوله:
{يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} تصوير رائع لحالة الجبن والفزع والخوف في نفوسهم من لقاء الأعداء. وفي الآية افتضاح أمر المنافقين عند الأمر بالقتال، أما قبل القتال فكانوا يترددون إلى الفئتين: فئة المؤمنين وفئة الكافرين.
ونظير الآية قوله تعالى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ، وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ، وَآتُوا الزَّكاةَ، فَلَمّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ، إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النّاسَ كَخَشْيَةِ اللهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً، وَقالُوا: رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ، لَوْلا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ} [النساء 77/ 4].
وبعد هذا التهديد والوعيد، قال الله تعالى مشجعا لهم:
{طاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ} أي طاعة مخلصة لله وقول معروف أحسن وأمثل وخير لهم من غيرهما.
{فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ، فَلَوْ صَدَقُوا اللهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ} أي فإذا جدّ الحال، وفرض القتال، فلو صدقوا في ذلك القول وفي القتال، وأطاعوا الله تعالى، وأخلصوا له النية، لكان إظهار الإيمان والطاعة خيرا لهم من المعصية والمخالفة.
ثم وبّخهم الله تعالى، وردّ على شبهتهم في أن القتل إفساد وأن العرب من ذوي أرحامنا وقبائلنا، فقال:
{فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ} أي فلعلكم إن توليتم عن الطاعة والجهاد، وأعرضتم عن القتال وتنفيذ أحكامه، أو فهل يتوقع منكم إن توليتم أمر الأمة أن تعودوا إلى ما كنتم عليه في الجاهلية، فتسفكوا الدماء، وتفسدوا في الأرض بالبغي والظلم والنهب والسلب والمعاصي، وتقطعوا أرحامكم بالقتل والعقوق ووأد البنات وسائر مفاسد الجاهلية. قال قتادة وغيره: معنى الآية: فلعلكم أو يخاف عليكم إن أعرضتم عن الإيمان أن تعودوا إلى الفساد في الأرض ولسفك الدماء.
قال أبو حيان: والأظهر أن ذلك خطاب للمنافقين في أمر القتال، وهو الذي سبقت الآيات فيه، أي إن أعرضتم عن امتثال أمر الله تعالى في القتال، هل ينتظر منكم إلا أن تفسدوا في الأرض بعدم معونة أهل الإسلام، فإذا لم تعينوهم قطعتم ما بينكم وبينهم من صلة الرحم، ويدل على ذلك:{أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ} فالآيات كلها في المنافقين. وهذا التوقع الذي في «عسى» ليس منسوبا إليه تعالى، لأنه عالم بما كان وما يكون، وإنما هو بالنسبة لمن عرف المنافقين كأنه يقول لهم: لنا علم، من حيث ضياعهم، هل يتوقع منكم إذا أعرضتم عن القتال أن يكون كذا وكذا
(1)
.
(1)
البحر المحيط: 82/ 8
وهذا حث لهم على التدبر وترك العصبية والجدال، فالله يعلم أنهم إن ولوا أمور الناس، أو أعرضوا عن هذا الدين، لم يصدر عنهم إلا القتل والنهب وسائر أنواع المفاسد، كعادة أهل الجاهلية.
لذا حكم الله عليهم باللعنة، فقال:
{أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ، فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمى أَبْصارَهُمْ} أي أولئك الظالمون وسفاكو الدماء بغير حق هم الذين أبعدهم الله من رحمته وطردهم عنها، فأصمهم في الدنيا عن استماع الحق، وأعمى أبصارهم عن رؤية الحق والنظر في أدلة الكون الدالة على عدالة نظام الله تعالى وشرعه في عباده من تحريم الدماء والأموال بغير حق. وإنما لم يقل:«أصم آذانهم» لأن السمع لا يتفاوت بوجود الأذن وعدمها، ولذلك يسمع مقطوع الأذن، أما الرؤية فتتعلق بالبصر نفسه، فذكر الأبصار، ولم يذكر الأذن.
وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموما، وعن قطع الأرحام خصوصا، وأمر بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام، وهو الإحسان إلى الأقارب.
روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
وخلق الله تعالى الخلق، فلما فرغ منه، قامت الرحم، فأخذت بحقوي
(1)
الرحمن عز وجل، فقال: مه، فقالت: هذا مقام العائذ بك من القطيعة، فقال تعالى: ألا ترضين أن أصل من وصلك، وأقطع من قطعك؟ قالت: بلى، قال: فذاك لك» قال أبو هريرة رضي الله عنه: اقرؤوا إن شئتم: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ، وَتُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ} .
(1)
الحقو: الإزار أو الخصر، والمراد هنا مجاز عن شدة التعلق واللجوء إلى الله والاستعانة.